لا شك أن الخطاب القرآني مع الإنسان، سيأتي منسجمًا مع خطابه عنه، بمعنى أن الله تعالى سيتحدث إلى الإنسان انطلاقًا من الصورة التي تحدث بها عنه.
وكذلك كان، فقد جاءت شريعة الله تعالى إلى الإنسان، في صورتها الخاتمة مع النبي -صلّى الله عليه وسلم- متناسبة مع الصورة التي رُسمت لهذا الإنسان.
والقرآن يشير إلى هذه الحقيقة، عندما يقص علينا مسيرة الإنسان من خلال قصص الأنبياء، تلك القصص التي نفى عنها الله تعالى العبث والكذب، فكانت بذلك تأريخًا لمراحل الترقي التي قطعها الإنسان، من سذاجته الأولى إلى نضجه، هذا النضج الذي لا تعرف آفاقه ولا حدوده.
وإجمالاً، لنا أن نقول إن القرآن خاطب الإنسان باعتباره صانعًا للحضارة أو مكلّفًا بصناعتها.
وهذه قضية تدرك من النظر إلى الشريعة الإسلامية في كلياتها ومقاصدها كما في جزئياتها وتفاصيلها، فنحن نجد الإسلام في مقاصده الكبرى أو عند المقاصد الجزئية المرتبطة بتفاصيل أحكامه، ينطلق من نقطة واحدة، هي تكليف الإنسان بتحقيق الحياة اللائقة به ككائن مكرَّم، ولا يكون ذلك إلا بالتحقق، بوصف الخلافة في نطاق العبادة والعمارة.
فالإنسان خوطب من قبل أن يوجد على الأرض بخطاب يدعوه إلى أن يكون معمرًا لها، بل هوية هذا الموجود الجديد تحددت أول ما تحددت بوظيفته، حتى من قبل أن يخرج من العدم إلى الوجود حين أعلن الحق تعالى للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30).
وهذه الخلافة التي طُلب من الإنسان -كما قلنا- تحقيقها ضمن “العمارة والعبادة”، هي التي دار حولها الخطاب القرآني للإنسان، مطلق الإنسان، كي يعمر الأرض ولا يخربها، ويعبد الله ولا يتنكر له، وهو ما يعطي لحركته في هذه الدنيا مفهومًا إيجابيًّا للتعمير لا مجرد تكديس للمنتجات، يؤدي بالإنسان البعيد عن الله المنقطعة صلته بعبوديته إلى مفهوم الطغيان، لأنه في لحظات الغرور تلك، حين يرى نفسه ممسكًا بزمام الطبيعة، يسكنه وهم الاستغناء عن الخالق تعالى فيقع في رذيلة الطغيان، والطغيان يقوده إلى الفساد والإفساد. والفساد والإفساد يتناقضان مع طبيعة الكون وطبيعة الحياة الكريمة التي يريدها الله تعالى للإنسان.
فهل يكون غريبًا بعد هذا، أن يتلازم تكليف الله تعالى للإنسان بتعمير الأرض، مع تحذيره من إفسادها وقد خلقها الله على هيئة صالحة: (ولاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا)(الأعراف:56).
بل هل يكون غريبًا أن يفتتح الله وحيه للإنسان بأن يرسم له خطوات المنهج الذي يحقق به الخلافة في الأرض، ويحذره من المرض الذي قد ينأى به بعيدًا عن وظيفته الوجودية، وينبهه إلى مصيره وعودته إلى خالقه؟ لا، لم يكن ذلك غريبًا، ولن يكون، فالقرآن أساسًا نزل منهجًا للإنسان، ومن مقتضيات المنهج أن يرسم الخطوات ويحدد المطلوب بدقة.
فكان أول ما نزل سورة “العلق”، بها ابتدأ الله خطابه للإنسان في مرحلة نضجه المتوافقة مع الوحي الخاتم، فجاء أول خطاب في آخر حلقات الوحي مرتبطًا مع أول خطاب أُعلن فيه عن إرادة الله في إيجاد هذا المخلوق الجديد. فآدم – عليه السلام – الخليفة المعلن عنه في بداية الخلق، تقلب أبناؤه في مراحل تاريخ الإنسانية رقيًّا وتكاملاً في مفهوم آدميتهم التي تؤهلهم لحقيقة الخلافة التي وسم بها أبوهم في بداية قصة حياتهم. فكان لزامًا أن يأتي الوحي الخاتم منسجمًا مع هذا الرقي الذي بلغه الإنسان.
فكانت آيات “العلق” فاتحة للخطاب الإلهي الأخير للإنسان: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)(العلق:1-5).
إنها القراءة، مفتاح كل رقي إنساني شريطة أن تكون قراءة باسم الرب الذي خلق، أي تكون قراءة في نطاق القيم التي تحفظ الإنسان من التيه والضياع إن هو “قرأ” بعيدًا عن الخالق سبحانه، لأنه بذلك سيعمر الأرض وينسى ربه، فتكون النتيجة الخراب بدل العمران، والضلال بدل الهداية، بل وانحطاط الإنسان عن أفق الإنسانية المطلوب تحصيلها وفق الكرامة التي منحها له الله تعالى، فتتحول ثمرات ذلك العمران الظاهري إلى أدواء قاتلة، تدفع الإنسان كلما انغمس فيها مستهلَكًا إلى مزيد من الاغتراب عن ذاته… كلما امتلأت حياته بالأشياء ازداد فراغها من المعنى، وفي أحوال الحضارة الغربية الآن خير شاهد على هذه الحقيقة.
فالقراءة باسم الله إذن هي الضامن لأن يستقيم الإنسان على المنهاج الحق، ليكون بحق خليفة عن الله في أرضه، يصلحها ولا يفسدها، يعمرها دون أن يضيع ذاته.
وفي الآيات أيضًا، إشارة إلى حقيقة لا تقل أهمية عن الحقيقة الأولى، هي أن القراءة باسم الله، تفتح أمام الإنسان باب كرم الله الواسع، فيعلمه ما لم يعلم، لأنه سبحانه هو الأكرم، وقد تجلت أكرميته زيادة على خلق الإنسان، بأن علّمه بالقلم، وعلّمه ما لم يعلم.
وشتان بين من ينطلق في آفاق الكون يقرأ باسم ربه، ومن ينطلق فيها يقرأ وهو غافل عن خالقه، يسائل المادة ولكنه لا يسأل عن مصيره ولا عن معنى الحياة التي يحياها يقرأ، وقد يكتشف أسرار الكون وسننه التي أودعها الله فيه، وقد يستغلها ويطوعها، ولكن منتهى علمه وقراءته يقف به عند حدود الظاهر لا يكاد يتجاوزه. وأصحاب هذه القراءة هم الذين قال فيهم الله تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(الروم:7).
إذن فالإنسان خوطب بأن “يقرأ” ليتمكن من استيعاب منهاج الخلافة، هذا هو المنطلق، وهذه هي القاعدة التي بُنيت عليها الشريعة؛ الشريعة -كما قلنا- في مقاصدها وتفاصيلها… أن يكون الإنسان وقد هيئت له الأسباب الذاتية (ما ركب فيه من مواهب)، والموضوعية (ما سُخر له من موجودات)، قادرًا على أن يسلك عمليًّا ما يجعله قريبًا من الصلاح والإصلاح، بعيدًا عن الفساد والإفساد… ويتسع الصلاح المطلوب تحصيله ليشمل حياته في الدنيا والآخرة، ويتسع الفساد المطلوب البعد عنه ليشمل حياته أيضًا في الدنيا والآخرة.
لهذا، عندما بُحث عن المقصد العام من الشريعة الإسلامية التي هي خطاب الله للإنسان، وُجد أنه يتلخص في مراعاة مصالح الإنسان في العاجل والآجل. وإنما تكون مصالحه مرعية بتشريع ما يحفظ هذه المصالح الإنسانية بمستوياتها الثلاثة: ضرورية وحاجيَّة وتحسينية، وعلى هذه المصالح الثلاث تقوم الحضارة. إذ بالضروريات يتحقق للإنسان المستوى الأساس من متطلبات الحياة اللائقة به كإنسان.
ثم تأتي الحاجيَّات لتضيف إليه ما يجعل الحياة -وقد تحققت أساسياتها- بعيدة عن الحرج والضيق، اللذين إن لم يعودا على الحياة بالإزالة، فإنهما يعطلان حركتها ويعيقان تقدمها.
ثم تأتي التحسينيات في المقام الثالث لتضفي على الحياة -بعد أن استكملت أساسياتها ونأينا بها عن الضيق والحرج- بُعدها الجمالي.
ونحن نرى تفاوت الأمم في درجات التحضر، حسب تفاوت سقفها ارتفاعًا و انخفاضًا وفق هذه المصالح الثلاث.
فرب أمة لا يزال الإنسان فيها يلهث من أجل الظفر ببعض الضروريات، وقد أخرج الحاجيات والتحسينيات من دائرة أحلامه، فضلاً عن دائرة تفكيره.
ورب أمة أخرى، يرى الإنسان فيها كل حديث عن ضروري أو حاجي أمرًا يثير التعجب، لأنه تجاوز هذه الأمور منذ أمد بعيد، وهو الآن يسبح في دائرة الجماليات.
من هنا، عندما جعل الإسلام هذه المصالح الثلاث مقصدًا أساسيًّا للشريعة، إنما كانت غايته أن ينقل الإنسان إلى سقف الحضارة الذي يستوعب أسياسيات الحياة وميسِّراتها وجمالياتها… وهو ما تحقق في مرحلة ما من تاريخ المسلمين.
الرسول -صلّى الله عليه وسلم- وتجسيد الخطاب الحضاري
ولن نجد إذا نحن بحثنا في تاريخ المسلمين مرحلة تجسد فيها الخطاب القرآني للإنسان بما هو خطاب حضاري، أو على الأقل يُعِدّ الإنسان ليكون بانيًا للحضارة كما تجسّد في المرحلة النبوية. ذلك أن هذه المرحلة هي مرحلة التأسيس الفعلي للإنسان الجديد، وفقا للرؤية الجديدة التي جاء بها الوحي الخاتم.
فقد نزل القرآن في بيئة بدوية بعيدة عن كل مظاهر التحضر التي عرفتها بلاد الروم أو بلاد الفرس، أو حتى الحضارات القديمة البائدة، فكان العربي لا يزال يعيش حياة قريبة في بساطتها إلى الطبيعة الساذجة في الأفكار والسلوك، وما يتبعهما من علاقات أسرية واجتماعية واقتصادية.
لم يكن تفكير الإنسان العربي -إن هو فكّر- يتجاوز سقف القبيلة وما تفرضه عليه من قيم، تجعله في أغلب الأحيان -إن لم نقل كلها- تابعًا لا يملك فكاكًا من الدوران في فلكها سلمًا وحربًا، حقًّا وباطلاً، حتى قال قائلهم:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت، وإن ترشد غزية أرشد.
لم يكن للإنسان العربي قبل الإسلام كتاب يهديه في حياته، أو يكون له مرجعًا يشكّل ثقافته كما هو الحال عند اليهود والنصارى في جزيرة العرب، بل كان سابحًا مع تهويمات الشعراء، حكمته في ذلك فلتات تأتي عفو الخاطر لا عن رؤية وتفكير وتفلسف.
لم يكن به طموح إلى بناء كيان سياسي يجمع شتات القبائل المتناثرة، تناثر حبات الرمل في صحرائه القاحلة.
وكانت حياته كلها مصوغة وفق بداوته. إن في مظاهرها المادية أو بناها الاجتماعية والثقافية. وقد كانت “الخميرة” التي استخدمت بعد ذلك لتعطينا حضارة ناضجة، ظلت لقرون تقود العالم وتؤسس لما يأتي بعدها من تقدم إنساني.
وقد استطاع النبي -صلّى الله عليه وسلم- في رسالته أن يحول تلك الإمكانات في ظرف قصير إلى عطاء جديد، وينقل الإنسان العربي من بداوته إلى آفاق حضارية مدهشة، حتى عُدَّ ذلك بحقٍّ من أبرز مظاهر صدق نبوته -صلّى الله عليه وسلم-.
وما يشدنا في الفعل النبوي هنا، هو تهيئته -صلّى الله عليه وسلم- الإنسان العربي في ذلك الزمن ليكون إنسانًا آخر، يبني حضارة، ولا يكتفي بذلك، بل سيحمل الحضارة إلى غيره ويخرج من آفاق القبيلة، معرفيًّا وجغرافيًّا.
فكان الإعداد بارزًا في توجيهات الرسول -صلّى الله عليه وسلم-، حتى في المسائل البسيطة التي عادة ما يتعامل معها الناس على أنها توجيهات أخلاقية، أو آداب تستهدف تعديل السلوك الفردي، كتلك التي تناولت آداب الأكل واللباس والنظافة والحديث والطريق. وكان ذلك الإعداد ذا بُعدين، أحدهما “معرفي” والآخر “سلوكي”.
وفي البُعد المعرفي تبرز المسائل التالية:
التنويه بالعقل والاعتداد بالعلم.
التنويه بالتعلم واكتساب أدواته.
الاحتكام إلى العقلية العلمية والبعد عن العقلية الخرافية.
التمييز معرفيًّا بين مجالات الوحي ومجالات العقل.
وفي المجال السلوكي تبرز مسائل الآداب التي أشرنا إليها ففضلاً عن الواجبات في العبادات وغيرها، وما تحمله للإنسان من سلوكيات حضارية، تبرز آداب الأكل والشرب والنظافة واللباس، واتخاذ الزينة، والتعامل مع البيئة نباتًا وحيوانًا… إلخ.
ويمكن أن نورد عن كل واحدة من هذه المسائل عشرات الأحاديث والمواقف من سيرة المصطفى -صلّى الله عليه وسلم-، خصوصًا إذا وسّعنا دائرة النظر، وحررنا تلك النصوص من القراءة الفقهية الضيقة التي تُعنى فقط بالبحث عن الحكم الفقهي بالمفهوم الخاص، لنقرأها قراءة تستخرج البعد الحضاري أو الإعداد له فيها.
فكل هذه المسائل معرفية أو سلوكية، جاءت في السنة تأكيدًا أو شرحًا لما ورد في القرآن الكريم.
وهي إن تأملناها من زاوية الإعداد الحضاري، نجدها كلها تجسيدًا للخطاب القرآني الذي يريد من خلاله الله تعالى بناء إنسان جديد بإمكانه أن يبني حضارة، وأن يحمل حضارة للآخر مهما كان هذا الآخر مختلفًا عنه عقيدة وعرقًا ولغة وجغرافية.
وإذا شئنا أن نختم كلامنا بفكرة جامعة فإننا نقول: إن حديث الإسلام عن الإنسان يبرزه مخلوقًا مكرّمًا مؤهلاً لصناعة الحضارة.
وحديث الإسلام عن الإنسان، يدعوه إلى أن يلتفت إلى مؤهلاته ووظيفته كي يبني الحضارة.
فجاءت أحكام الإسلام منسجمة مع المكانة المعطاة للإنسان من جهة، ومع الوظيفة التي كلف بها من جهة أخرى، وأسهمت في مقاصدها الكبرى أو حتى عند مقاصدها الجزئية في إحداث التفاعل الذي صنع إنسان الحضارة الإسلامية.
(*) كاتب وباحث جزائري.