حضارة الإيمان ومدنية العلم

تعد الحضارة من أكثر المفاهيم التي ثار حولها الجدل بشأن تعريفها وبيان معناها وتحديد مجال استعمالها ومداها، لتعدد الآراء واختلاف وجهات النظر في توضيح مصطلحها.

فعرّفها ابن خلدون بأنها “تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله”(1).

وعرّفها “ول ديورانت” (Will Durant) مؤلف “قصة الحضارة” بقوله: “الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلُقية، ومتابعة العلوم والفنون. وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمُضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها”(2).

وعند المفكر مالك بن نبي أن الحضارة: فعل تركيبي قوامه “الإنسان، والتراب، والزمن”، فالإنسان باعتباره كائنًا اجتماعيًّا، والتراب باعتباره ضرورة فنية معينة، والزمن بإدماجه ضمن العمليات الاقتصادية والصناعية والاجتماعية، ومن هذه العناصر الثلاثة تتحقق الحضارة عند ابن نبي، فيعتقد أن الحضارة هي مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يتقدم.

ويرى سيد قطب أن الإسلام هو الحضارة، ولا يمكن أن يطلق على أي جهد مرتبط بغير منهج الإسلام مصطلح الحضارة.

وضمن هذه المفاهيم تبدو أفكار كل من ابن خلدون، ومالك بن نبي، وديورانت، وسيد قطب، متقاربة في فكرة هامة هي أساس الحضارة، وهي الإيمان وضرورة توافر العقيدة التي تحفز على بناء الحضارة بناءً حصينًا ورصينًا، يقف في وجه الهزات العنيفة التي قد يتعرض لها المجتمع المتحضر، وتتباعد أفكارهم في ماهية الحضارة وعواملها.

والفرق بين المدنيّة والحضارة أن المدنية تتعلق بالجانب المادي في الإنسان، وهي الأشكال المادية المحسوسة، مثل اختراع القطار والطائرة والحاسوب والسيارة وغيرها. فالمدنية ليست خاصه بأمة معيّنة، فاليهودي والمسلم والنصراني وغيرهم، كلهم يحتاجون إلى المخترعات والعلوم الطبيعية. ولم يحرّم الإسلام أخذ هذه العلوم من أي مصدر كان، لأن العلوم صنعت بمجهود كل البشر من السابقين والمحدثين من العرب وغير العرب. أما الحضارة فهي خاصة، فعندما نقول الحضارة الإسلامية، فهي مبنية على مبادئ الإسلام وأركانه وعقيدته، ولا يمكن أن يشترك مع الآخر في هذه المبادئ التي تخصه، فالحضارة خاصة والمدنية عامة.

ومن المدارك الخاطئة في تاريخ الحضارة ما يزعمه نفر من الناس من أن فلانًا أول من صنع كذا، وأن فلانًا آخر أول من اخترع الشيء الفلاني إلى غير ذلك. إن الحضارات والثقافات تطوُّر ابتداع يقع عليه فلان أو فلان. كل مفكر يقتدي بمفكر آخر سابق على زمنه، وكل مخترع هو في الحقيقة شخص يزيد في آلة شيئًا جديدًا. فالطائرة تطورت من السيارة، والسيارة من الناقلة ذات العجلات، والفضل يرجع إلى ذلك الإنسان الذي خطر له في ساعة من ظلمات التاريخ في بلاد ما بين النهرين، أن يقطع من جذع شجرة شبه دولاب يدحرج عليه أحمالاً احتاج إلى نقلها من مكان إلى آخر(3).

فالمدنية الناتجة عن العلم يجوز أخذها، كعلوم الفيزياء والكيمياء والطب والصيدلة والرياضيات والهندسة والفلك والحاسوب لعموم الأدلة التي أمرت بالعلم، وكذلك المدنية الناتجة عن الصناعة، كوسائل الاتصال ووسائل المواصلات والأجهزة الكهربائية وصناعة الأسلحة… فقد بعث الرسول -صلّى الله عليه وسلم- اثنين من الصحابة -رضي الله عنهم- إلى اليمن ليتعلما صناعة السيوف، كما كان عليه الصلاة والسلام يستخدم الدنانير والدراهم الفارسية والرومانية، وبقي المسلمون على هذا الحال حتى ضرب عبد الملك بن مروان دنانير كتب فيها “قل هو الله أحد” وفي الوجه الآخر “لا إله إلا الله” وطوقه بطوق فضة وكتب فيه “ضُرب بمدينة كذا” وكتب خارج الطوق “محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق”(4). كما يباح أخذ المدنية الناتجة عن الحاجة كالملابس، فملابس الرجال أو ملابس المرأة داخل بيتها تعتمد على الحاجة، فالرجال في السعودية والخليج يحتاجون إلى لبس الدشداس لارتفاع درجة الحرارة هناك، بينما لا يستطيع المسلم الأوروبي أو الأمريكي في بلاد الصقيع والضباب إلا أن يلبس البنطال لتدني درجات الحرارة هناك، ولهذا لم يحدد الإسلام للرجال لباسًا معينًا اللهم إلا اشتراط ستر العورة، والمرأة كذلك لم يحدد لها الإسلام شكل اللباس الذي تلبسه، ولكنه وضع شروطًا له كأن يكون ساترًا للعورة، وأن يكون فضفاضًا لا يصف ولا يشف ساترًا لكل الجسم عدا الوجه والكفين خارج البيت(5).

أما المدنية الناتجة عن الحضارة غير الإسلامية فينبغي عدم أخذ تشريعاتها وقوانينها، وقد غضب الرسول -صلّى الله عليه وسلم- عندما رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقرأ في التوراة وقال له “أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيًّا، ما وسعه إلا أن يتبعني” (رواه الإمام أحمد)، لهذا اقتصر المسلمون في تشريعاتهم وقوانينهم على الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من أنهم ترجموا الكتب الأجنبية إلى العربية، فإنهم لم يترجموا نصًّا واحدًا من القانون الروماني رغم شهرته في ذلك التاريخ، لا للعمل ولا العلم به.

فما يسمى بالحضارة الغربية هو في الواقع مدنية، لأنها اهتمت بالجانب المادي في الإنسان وغفلت عن الجانب الروحي، واختلت فيها موازين القيم، فحضرت الوسيلة وغابت الغاية. فالتطور والتقدم هو وسيلة لتوحيد الله تعالى وعبادته حق العبادة، وهي الغاية من وجود الإنسان وبناء الحضارة على الأرض، وقد فشلت هذه المدنية في تنظيم حياة المجتمع البشري المعاصر، كما يشهد علماء الغرب أنفسهم، وقد تحدّث “ألكسيس كاريل” في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” عن هذه الوضعية بقوله “إن الحضارة لم تفلح في خلق بيئة مناسبة للنشاط العقلي، وترجع القيمة العقلية والروحية المنخفضة لأغلب بني الإنسان إلى حد كبير، إلى النقائص الموجــودة في جـوهم السيكولوجي، إذ إن تفوق المادة ومبادئ دين الصناعة حطمت الثقافة والجمال والأخلاق”.

فرغم التطور الهائل في العلوم والتكنولوجيا والاختراعات التي يعتبرها البعض مقومات الحضارة، نرى الإنسان يعيش حياة قلقة بشكل عام، ويقف علماء النفس والاجتماع والأطباء حيارى تجاه ازدياد أعداد المصابين بالأمراض النفسية والعصبية، وكلما تيسرت وسائل الرفاهية للإنسان، كثرت حوادث الانتحار في الشعوب التي تعتبر متحضرة كما تدل على الإحصائيات. إذن فما الجواب للسؤال الذي يطرح نفسه على الإخصائيين من علماء الاجتماع والفلاسفة والأطباء وغيرهم. إنهم لا يجدون جوابًا. الجواب يتمثل في تحديد مقومات الحضارة والسر الذي يكمن وراء سعادة الإنسان.

هنا نقول إن كل هذه الظواهر، ناشئة من طبيعة وفلسفة المدنية الغربية ذاتها، فالأساس الذي قامت عليه هذه المدنية أساس مادي بعيد عن البعد الروحي الذي هو روح الحضارة. فإذا كانت المجتمعات، تمثل فيها جمال البنية وجمال الطبيعة وجمال اللباس وجمال المدن وجمال البيت وجمال المرأة أيضًا، فإنها فقَدت جمال الروح وجمال الذوق الفطري وجمال الخُلق.

فالحضارة لابد أن يتحقق فيها التوازن بين الحياة الروحية والحياة المادية، وهما طرفا المعادلة في معنى الحضارة، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا في المجتمع المسلم الذي يملك عقيدة هي أسمى العقائد، وهي الأساس الرئيسي للحضارة بمفهومها الحقيقي، لأنها عقيدة روحانية إيجابية بناءة، تنقل الإنسان من رُقي إلى رُقي، ومن كمال إلى كمال، ومن تخلف إلى تقدم، ومن جهل إلى علم. ونحن أقدر على التحكم في زِمام الحضارة في أي عصر من العصور، لأننا لن نتخذ من الوصول إلى الفضاء وسيلة للاستعلاء والزهو والتجسس على الآخرين، ولن نتخذ من الصواريخ عابرة القارات وسيلة لتهديد الأمم والشعوب ونهب خيراتها، ولن نتخذ من وسائل الإعلام وسيلة للتضليل والسيطرة على الشعوب. فحضارتنا تصدِّر السعادة للشعوب والخير والرحمة والأخوة والتعايش السلمي، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ)(ال عمران:110).

(*) باحث في الدراسات الإسلامية والإعجاز / الجزائر.

الهوامش

(1) المقدمة، ابن خلدون، دار الكتاب، بيروت 2005، ص:169.

(2) قصة الحضارة، وول ديورانت، ص:3.

(3) الحضارة الإنسانية، عمر فروخ، دار لبنان، بيروت 1983، ط3، ص:8.

(4) تاريخ الخلفاء، السيوطي، ص:157.

(5) مفاهيم النهضة الإسلامية، نجاح يوسف، دار الإسراء، الأردن 2004، ط1، ص:218.