التغيير الناجح لمحات من المنجز في رؤية الأستاذ فتح الله كولن

منذ أحسّت أقطار العالم الإسلامي بأنها فقدت الشهود الحضاري، وتخلفت عن ركب التطور بمسافة طويلة، تحركت آلة التفكير في أسباب الأزمة والعطل الذي ولّد العقم الإبداعي لدى المسلمين. منذ ذلك الحين أثيرت الآلاف من الأسئلة، وبرزت أجوبة عديد ومشاريع إصلاحية متطلّعة إلى التغيير، لكن الأسئلة المثارة على مدى قرن ونصف أو قرنيين من الزمن تفيد بأن العقل الإصلاحي كان مسكونًا في الغالب بهَمّ البحث عن علة تقدم “الآخر” المسيحي وتأخّر الـ”أنا” المسلم؛ بمعنى أن طبيعة السؤال كانت تبطن بعض أنانية تميل إلى الظن بأن الحضارة سرقت من المسلمين ومن عالمهم، وقد سرقها الآخر.
ظل تشريح الأزمة مثارًا في حضرة هذا “الآخر” الذي تفوّق على المسلمين وسرق شهودهم الحضاري على الناس. لم تكن الأسئلة متّجهة إلى الذات وإلى ما يرتبط بها، وأما الأجوبة المقترحة فكانت تحمل في طياتها الفشل لاستحضارها إشكالية الصراع مع نموذج قام على أساس مادي، وعلى مقومات تختلف بالضرورة عن مقومات الذاتية الثقافة. كانت المشاريع الإصلاحية مجرد اقتراحات مفتقرة إلى خطط للتنزيل والتفعيل، ومجرد أحلام وأشواق موغلة في المثالية.
حاول بعض من كان بيدهم سلطة القرار إدخال إصلاحات في المجال العسكري والصناعي، وبناء قوة عسكرية تضاهي عسكرية الآخر الأوربي. حدث هذا مع بعض السلاطين في تركيا، ومع محمد علي باشا في مصر، وكذلك حاول خير الدين التونسي في تونس في المجال البحري… لم يكن في مقدور هؤلاء لمس عمق الأزمة، فاختزلت عندهم وعند من نظّروا لهذه الإصلاحات في مجرد تقنيات ومهارات ينتج اكتسابها إنهاء الأزمة وعودة الشهود الحضاري.
ومن جهة ثانية فإن بعض الذين قاربوا حقيقة أزمة المسلمين، تصرّفوا باعتبارهم نخبة اجتماعية تؤدي مهمة جليلة، هي إنتاج الأفكار لتجاوز أزمة الذات، لكن هذه النخبة صعدت إلى برج عاجي وأحاطت نفسها بهالة الأنانية المعرفية، فلم تر وجوب نزول النخبة بالمعرفة الإصلاحية من مستوى النظر إلى مستوى التفعيل، ولم تنخرط في عمق المجتمع لإحداث التغيير، وحتى عندما اتجهت تريد نشر تصوراتها الفكرية اختارت نخبة ضيقة للقيام بذلك. فحكم على أغلب مشاريع الإصلاح بالبقاء حبيسة نخب عاجزة عن الوصول إلى شرائح واسعة، وعندما شعرت هذه النخبة بأهمية الالتحام مع المجتمع اختارت -مع الأسف- العمل السري ولم تستطع الخروج إلى العلن.

إن الخدمة ليست مجرد تيار حركي، ولا مجرد تيار فكري نجح في تفعيل رؤيته الفكرية، بل هو أكبر من ذلك بكثير؛ فالخدمة في الوقت الراهن نمطُ حياة وأسلوب عيشٍ ينخرط فيه العديد من فئات المجتمع، من أجل مصلحة المجموع… إنها وعي جمعي إيجابي آخذ في الانتشار، بل هي تيار عالمي لأنها منفتحة على العالم كله من خلال أنشطة كثيرة أهمها التربية والتعليم

لا مبالغة إذا قيل بأن أغلب مشاريع الإصلاح كانت مسكونة بهموم الحكم والسلطة وإلحاح فكرة التغيير من القمة، وقد كان هذا العامل أحد الأسباب المباشرة التي ساهمت في بروز البعد الأيديولوجي في بعض مشاريع الإصلاح والتغيير، وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، لِتخلق الحدث خلال مرحلة ما بات يعرف بـ”الربيع العربي”، ولِتجد نفسها أمام امتحان عسير جدًّا قد يعيد أجوبة الإصلاح إلى نقطة الصفر.
قد تشعر هذه الصورة القاتمة بانسداد الأفق، لكن الصورة ليست بهذه القتامة وليست بهذا العجز، لأن الذين استطاعوا تجاوز عقدة الصراع واستبطنوا الذات ولمسوا هويتها الثقافية ملامسة فعلية، قد تمكّنوا من تجاوز التنظير إلى الإنجاز.
امتحان الإنجاز في الفكر الإصلاحي المعاصر، أكبر امتحان يواجه الإصلاح في العالم الإسلامي في الوقت الراهن هو امتحان المنجز الحضاري، والأساس الفكري الذي يرتكز عليه. بعبارة أخرى إن أسئلة المرحلة في مجال الإصلاح يجب أن تركز على ما أنجز وعلى أي أساس أنجز وآفاق المنجز الآنية والمستقبلية، وأن تركز كذلك مناهج الإبداع في تحويل الفكري إلى حركية.
“الخدمة” -أو “هِزْمَت” حسب التعبير التركي- من أنجح التجارب التي ترتكز على الفاعلية الحركية، وهي تجربة نموذجية، جديرة بالاهتمام وبالدراسة، وجديرة بأن يتخذ أبو الحركة الروحي ومؤسسها الفعلي الأستاذ فتح الله كولن، قدوة في مجال الإصلاح وبناء رصيد من العمل الإيجابي.
راكم الأستاذ على مدى خمسين سنة خلت النجاح في مجالات مختلفة، لكن أهمها هو المجال التربوي الذي ظل طيلة حياته يعمل على صقل منهجه وعلى تطوير مقدراته، حتى استقام عوده وصار اليوم علامة أو ماركة عالمية حاضرة في أكثر من 160 دولة.
لا مجانبة للصواب إن قيل بأن أغلب الحركات الإسلامية كانت دائمًا محط شك بالنسبة للقوى العالمية وخاصة أوربا وأمريكا؛ فقد عجزت هذه الحركات عن بناء رصيد من الثقة لدى هذه القوى، وهو ما أبقى حدة التوتر قائمًا إلى اليوم، يرجع ذلك إلى طبيعة الخطاب الذي انبنت عليه أدبيات بعض هذه الحركات، إذ لم تتمكن من بناء خطاب يسمح للآخر بالانفتاح عليها، وظلت بفعل عقدة الآخر عاجزة عن تبني خطاب مطمئن تستطيع تسويق نفسها من خلاله. استفاد الأستاذ فتح الله كولن من مواطن الخلل في هذا الخطاب، فطوّر خطابًا أصيلاً نابعًا من مرتكزات الثقافة الذاتية، منفتحًا على المجتمع الإنساني كله.
إن الخدمة ليست مجرد تيار حركي، ولا مجرد تيار فكري نجح في تفعيل رؤيته الفكرية، بل هو أكبر من ذلك بكثير؛ فالخدمة في الوقت الراهن نمطُ حياة وأسلوب عيشٍ ينخرط فيه العديد من فئات المجتمع، من أجل مصلحة المجموع… إنها وعي جمعي إيجابي آخذ في الانتشار، بل هي تيار عالمي لأنها منفتحة على العالم كله من خلال أنشطة كثيرة أهمها التربية والتعليم، تربية تقوم على عنصر مركزي هو نشر القيم الإنسانية السامية، المرتكزة على التسامح وعلى احترام إنسانية الإنسان، واحترام المحيط الذي يعيش فيه. وهي لا تَدّخر جهدًا بفضل إلحاح فتح الله كولن المستمر من أجل غرس هذه القيم، وإيجاد جيل إنساني جديد يعيد التوازن للعالم.
الإنسان المشكلة، الإنسان الحل
لقد أدرك الأستاذ فتح كولن منذ وقت مبكر أن أكبر مشكل يواجه المجتمعات الإسلامية -بل العالم كله- هو مشكل “الإنسان الصالح” الذي يتحرك حركة متوازنة ومنسجمة مع مكونات الوجود؛ ولمس بإحساسه المرهف وروحانيته العالية أن المشكلة تكمن في “الإنسان”، وأن حضارة المجتمع الصالح متصلة بصلاح الإنسان، وأن الحضارة الإسلامية كانت قادرة على العطاء والإبداع عندما كانت تتوفر على نماذج بشرية مرهفة الحس روحانية التطلع، مشدودة إلى الأفاق العالية، يقول: “الإنسان كائن عاجز بحد ذاته، ولكنه لا تخفى عن النظر حقيقة واضحة وهي أنه يبدي مقدرة كبيرة عندما يستند إلى صاحب القدرة اللانهائية. أجل، عندما يستند إلى صاحب القدرة اللانهائية ينقلب مِن قَطْرة إلى سيل، ومِن ذرّة إلى شمس، ومِن متسوّل إلى سلطان”.
لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- نموذجًا للإنسان الكامل الذي اصطفاه الله تعالى، ليكون قدوة للإنسانية في سعيها إلى إعمار الأرض وفق المسلك الذي يرضاه تعالى. وقد نظر الأستاذ فتح الله كولن لشخصيته النبوية والإنسانية -صلى الله عليه وسلم- على أنها الغاية والهدف الذي يتحتم التمسك به بغرض الوصول إلى تجاوز أزمة الذات الإنسانية والحضارية، يستمد هذا الاقتداء مشروعية عند الأستاذ فيما يترتب على الاصطفاء، وهو الفهم العميق والدقيق لحقيقة الوجود، ونجاحه -صلى الله عليه وسلم- في تكوين نماذج بشرية سامقة كالصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعًا، الذين أدركوا من خلال أستاذهم -صلى الله عليه وسلم- أنهم في حاجة إلى أن تعزف قلوبهم وجوارهم إيقاع التوحيد بشتى السبل والوسائل في كافة مجالات الحياة، وأن يبلغوا هذا الإيقاع إلى أقصى نقطة يستطيعون الوصول إليها. لقد جعلهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدركون أنهم ينبغي أن يكونوا مبلغين ومربين وأساتذة للعالمين، لأن أستاذهم -صلى الله عليه وسلم- أرسل للعالمين.

لا مبالغة إذا قيل بأن أغلب مشاريع الإصلاح كانت مسكونة بهموم الحكم والسلطة وإلحاح فكرة التغيير من القمة، وقد كان هذا العامل أحد الأسباب المباشرة التي ساهمت في بروز البعد الأيديولوجي في بعض مشاريع الإصلاح والتغيير، وخاصة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، لِتخلق الحدث خلال مرحلة ما بات يعرف بـ”الربيع العربي”، ولِتجد نفسها أمام امتحان عسير جدًّا قد يعيد أجوبة الإصلاح إلى نقطة الصفر.

تمثل الأستاذ فتح الله كولن هذه الأبعاد وغيرها في شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- فأدرك أن حاضر العالم الإسلامي ومستقبله لا يتحقق بغير تمثل حقيقي وصحيح لمختلف جوانب سيرته وسنته -صلى الله عليه وسلم-. فبغير الرجوع الفعلي إلى قيم الإسلام لا أمل في انصلاح حاضر هذه الأمة، وهو ما يحتم عليها إعادة اكتشاف ذاتها بالتعرف على حقيقة البعد الإنساني فيها، أي أن تدرك معنى الإنسان فيها، حيث يقول محلّلاً حالة الانحراف التي وصلتها الذات: “تعرض الإسلام منذ حرمنا من إرث الأرض إلى معالم ينفطر لها القلب في برزخ ضعف المنتسبين إليه وتعدي خصومه وعدم إنصافهم… لا ينكر أن اهتزاز الفكر المسلم والمنطق المسلم، وتباطؤهما وخمودهما وتكدرهما وفسادهما، قد أبعد المسلمين عن الصراط المستقيم ذي الهدف القرآني والفلك النبوي… وحجب ضوء الشمس عن عالمية الإسلام، وعطل أداء وظيفة الدين المحيط بالعالم… إن إزالة هذا الانحراف الهرم المادّ جذوره إلى عصور خلت، المدعوم بالعلم والتكنولوجيا في عصرنا، هو بحاجة إلى اكتشاف أنفسنا من جديد، والعثور على ذاتنا، وتعرفنا -كرة أخرى- على الشعور الإسلامي، والمنطق الإسلامي، وأسلوب محاكمته العقلية”.

الخطاب الإسلامي وروح التاريخ

حافظ الأستاذ فتح الله كولن دائمًا في خطابه الإصلاحي على روح الرؤية الإسلامية، فجعل هذا الخطاب ثابتًا في مبادئه، لكنه مرن في أساليب تنزيل المبادئ، وقادر على التكيّف مع طبيعة الواقع، ولذلك يمكن القول بأن الأستاذ فتح الله كولن، قد طور الخطاب الإسلامي في اتجاهين:
• الاتجاه الأول ينظر إلى الواقع المحلي وإشكالاته المستعصية، وما يتطلبه هذا الواقع من حلول تنهي زمن العقم، وتعيد قاطرة الشهود الحضاري إلى السكة الصحيحة.
• وأما الوجه الثاني لهذا الخطاب فيطل على الإنسانية كلها، مفعلاً بذلك أحد أهم المرتكزات المؤسسة للإسلام باعتباره دينًا للعالمين، لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعث للعالمين.
لا ينبغي الظن بأن وجهي هذا الخطاب متعارضين، بل هما متكاملين، رغم أن الحكمة وإكراهات الواقع قد فرضت بروز الخدمة باعتبارها حركة مجتمع مدني من خلال الوجه الأول قبل الوجه الثاني، وقد يختلف الوجهان في طبيعة المفاهيم الموظفة وطبيعة الخطاب الموظف، لكنهما وجهان للعملة الذهبية الواحدة.
لا تتعلق القضية في نظر الأستاذ بمجرد منجز هنا ومحاولة هناك، أو بالتفكير في مشروع هنا أو مشروع هناك، أو بفتح بضع مدارس أو عقد منتديات للتفكير والتأمل هنا أو هناك… إنها أكبر من ذلك، إنها قضية إعلان نفير عام، إلى درجة أن يصير ذلك نبض مجتمع بكامله بمختلف فئاته، وأن يصير حليبًا يرضعه أبناء هذا المجتمع منذ نعومة أظافرهم.
الرجوع إلى التاريخ -بالنسبة للأستاذ فتح الله كولن- يعني الرجوع إلى سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسيرة الصحابة الكرام – رضي الله عنهم-، ليس من أجل ترديدها قصصًا بطولية تُروى للفتيان، بل من أجل الاقتداء بهؤلاء الأبطال، واستحضار تفاصيل حياتهم حتى تكون المصباح الذي يشدّ الذات إلى إعادة صياغة واقع اليوم. بعبارة أخرى إن مفهوم الأستاذ فتح الله كولن للتاريخ متعدد الأبعاد، ومن أبعاده بناء جيل جديد قادر على الوصول إلى مستوى الأفق الإيماني والحركي الذي وصله الصحابة الكرام – رضي الله عنهم-. لقد عاش الصحابة بتوجيه من مرشدهم وأستاذهم وبما قذفه نور النبوة في جوارحهم، من فكر إسلامي وتصور إسلامي بشموليته وروحانيته وواقعيته، فاقتربوا من الوجود والحوادث بسياق إسلامي، فكانت كل محاكماتهم منطلقة من هذا الفكر الإسلامي الذي تشربته أرواحهم، وكانت كل حركيتهم قائمة على التصور الإسلامي.
وتحقيقًا لهذه الغاية العظيمة لا ينبغي في نظر الأستاذ أن تكون السيرة النبوية وسيرة الصحابة مجرد أحداث خالية من الحياة والمعنى، لأنها حققت الاستشعار فالتعقل بالكائنات والإنسان والحياة بمعلومات سليمة، مناسبة للأمر نفسه، ثابتة المحور في مبدئها وغايتها. هذا الخطاب عند الأستاذ فتح الله كولن محل الأحلام والشعارات، بل هو محل التطلعات العملية والخطط والمشاريع القابلة للإنجاز والتنزيل.
يجد المتأمل في حياة الأستاذ فتح الله كولن أنه ألزم نفسه قبل غيره برياضة روحية متطلعة إلى تمثل سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، يقول في مقدمة كتاب “النور الخالد: محمد -صلى الله عليه وسلم- مفخرة الإنسانية”: “إن تسليط الأضواء على شخصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- السامية، وشرحها وبيانها، ثم تقديمها كمُنقذ للبشرية، وكإكسير للمشاكل المستعصية على الحل، وللأمراض غير القابلة للشفاء، وإظهار هذه الشخصية السامقة وسيرتها بما هي أهل له، كان رغبة ملحة لدي -كما عند كثيرين- وهاجسًا من هواجس فكري ومشاعري”، ويقول محفّزًا نفسه: “ولكن ما بالي أشير إليكم، أو أعنيكم؟ ما بالي أنا؟ هل استطعتُ أن أشرح جوانب عظمته كما يجب، وأكشف معالم شخصيته كما ينبغي؟ أنا الذي أضع جبهتي للصلاة منذ الخامسة من عمري، وأنا الذي وضعت الطوق حول عنقي لكي أكون “قِطميرًا” له، هل استطعت أن أُشْعركم بما يجيش في صدري من عظمة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما يليق بجوانب هذه العظمة؟ إنني أسائل نفسي وأسائل جميع الذين يتصدون للتبليغ والدعوة: هل استطعنا أن نشرح لإنسان هذا القرن حبه -صلى الله عليه وسلم-… حب سيد السادات حبًّا تجيش به القلوب؟ هل استطعنا أن نبهر القلوب والأرواح بهذه العظمة، عظمته -صلى الله عليه وسلم-؟”.

الأبطال في قصة النجاح

تبدأ قصة نجاح الأستاذ فتح الله الحركية بهذه الآمال والتطلعات مع عصبة من الشباب الواعد، من خلال حرص صادق على أن يكون لهم أبًا روحيّا ومربيًا وموجهًا. لقد رباهم على حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى الاقتداء بالصحابة الكرام رضي الله عنهم، من خلال اقتدائه -هو شخصيًا- بسيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- والتحلي بصفات الصحابة رضوان الله عليهم، ربما لم تكن هذه العصبة تعرف الشيء الكثير عن طموحات الأستاذ وتطلعاته الإنسانية، لكن الأستاذ نفسه كان يعرف بأنه قد نذر حياته لله، ومن أجل وضع اللبنات الأساسية لإيجاد جيل جديد صناع للنهضة، ليس من الضروري أن يعلم كيفية التخطيط والتنظير لتلك النهضة، لكنه كان يعرف أنه ملزم بفعل الخير والصلاح وأن يسعى قدر مستطاعه إلى أن يكون راشدًا في حركيته. لقد جعل الصدق مع الله والصبر على ذلك شعار مرحلة رفع قواعد البناء والتشييد.

حافظ الأستاذ فتح الله كولن دائمًا في خطابه الإصلاحي على روح الرؤية الإسلامية، فجعل هذا الخطاب ثابتًا في مبادئه، لكنه مرن في أساليب تنزيل المبادئ، وقادر على التكيّف مع طبيعة الواقع، ولذلك يمكن القول بأن الأستاذ فتح الله كولن، قد طور الخطاب الإسلامي في اتجاهين

أدرك الأستاذ فتح الله كولن منذ وقت مبكر حاجات الواقع، فحدد الأولويات ورسم الخطط في عالمه الداخلي، وتسلح بالثقة في الله تعالى مستحضرًا روح القرآن وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)(مريم:96). لم يكن الأستاذ فتح الله كولن يتطلع إلى هذا الود من أجل الحصول على مركز اجتماعي أو شهرة، بل كان يأمل ويرجو أن يوفقه ربّه في أن يفتح القلوب، ولذلك وبعد مضي فترة من الزمن، ركز اهتمامه بمعية تلك العصابة على افتتاح محاضن الطلبة.
كانت محاضن الطلبة في مرحلة ما، من مراحل عمل الأستاذ الحركي، تلبي جملة حاجات منها ضبط نجاعة المنهج التربوي الذي طبّقه في بداية المشروع الإصلاحي، ومنها توفير الظروف المواتية للشباب حتى يتفرّغوا للتحصيل العلمي والمعرفي الذي يؤهّلهم ليكونوا أفرادًا قادرين على المساهمة في بناء الوطن وتطويره نحو الأفضل… ومنها كذلك حماية هؤلاء الشباب من أن تنزلق أقدامهم إلى شتى أنواع الانحراف الأخلاقي والفكري وإلى العنف بشتى أنواعه. وقد لعبت هذه المحاضن دور المدرسة الإعدادية التي تعد الأطر التربوية التي أدارت باقتدار مرحلة توجيه الشعب إلى بناء المدارس، وكانت هذه المخرجات هي المحرك الذي أدار دوالب المدرسة والتعليم.
المدرسة حضن جيل الأمل

“الحاجة ماسة في أيامنا إلى عقل موضوعي يتصور الأمس واليوم معًا، قادر على التمعن في الكائنات والإنسان والحياة دفعة واحدة، موهوب في المقايسة والمقارنة، منفتح على بُعد أسباب الوجود وعلله، محيط بظهور الأمم والجماعات واضمحلالها”
آمن الأستاذ فتح الله كولن منذ البدايات الأولى لعمله الإصلاحي، بأن أنجع وسيلة وأقربها إلى الإصلاح هو تكوين أجيال قادرين على إدراك حقيقة وجودهم ووظيفتهم التي خُلقوا من أجلها، وقادرين في الوقت نفسه على ممارسة عبوديتهم لله عز وجل في دائرة الإعمار والبناء، ولا سبيل للوصول إلى هذا المستوى سوى بإيجاد مدرسة وفق مواصفات محددة.
لقد كان حرص الأستاذ منصبًّا على البحث عن السبل التي تجعل المجتمع بجميع فئاته وبجميع أفراده يستشعر دوره الحاسم في عملية البناء، من خلال وعي عام أو وعي جمعي يجعله يستشعر دوره في مقدمة الصفوف على أنه هو المسؤول الأول عن إعادة الاعتبار للذات بربطها بمرتكزات الثقافة الذاتية، وجعل ذلك جزءًا من تحقيق مبدإ العبودية إن لم تكن هي عين العبودية.

أدرك الأستاذ فتح الله كولن منذ وقت مبكر حاجات الواقع، فحدد الأولويات ورسم الخطط في عالمه الداخلي، وتسلح بالثقة في الله تعالى مستحضرًا روح القرآن وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)(مريم:96).

ثم آمنت فئات واسعة من أبناء المجتمع بأنهم ملزمون بأن يعتبروا أمر توفير شروط البناء والإصلاح يعنيهم مباشرة، فأخذوا بزمام المبادرة بأنفسم بتوجيه من الأستاذ فتح الله كولن الذي ظل يرفض بإصرار أن يكون له علاقة عضوية مباشرة بما يقوم به المجتمع من مبادرات تتطلع إلى تحقيق آماله وأهدافه، فانبرى المجتمع يبني المدارس التي أثثها وأشرف عليها “الجيل الذهبي”، الذي تربّى في المحاضن التي وضع الأستاذ فتح الله كولن منهج عملها، من خلال تكوينه لتلك المجموعة الأولى في ستّينيات القرن الماضي.

الوقف أهم بعد في فلسفة الخدمة

ارتباطًا بالتاريخ، يرى الأستاذ أن معرفة التاريخ من أوجب الواجبات التي يتوجب على الإنسان الجديد معرفته ومعرفة ترابط أحداثه، يقول: “الحاجة ماسة في أيامنا إلى عقل موضوعي يتصور الأمس واليوم معًا، قادر على التمعن في الكائنات والإنسان والحياة دفعة واحدة، موهوب في المقايسة والمقارنة، منفتح على بُعد أسباب الوجود وعلله، محيط بظهور الأمم والجماعات واضمحلالها”. ومن أهم القيم الضاربة بجذورها في تاريخ الحضارة الإسلامية، والسلوكات الجميلة للمجتمع المسلم، التي أعاد لها الأستاذ فتح الله الاعتبار وأعاد توجيه المجتمع إليها، نجد نظام الإنفاق والوقف؛ فقد أقنع المجتمع بأهمية البذل والعطاء، وبأهمية أن يكون ذلك في الدائرة التي تشيّد المستقبل، كان جهد الإحسان متجهًا قبل دعوته إلى بناء المساجد، فأعاد توجيه البوصلة جهة بناء المدارس والمعاهد التربوية التي تكوّن الأجيال الذهبية.
سجّل التاريخ للمسلمين تطويرهم لنظام الوقف، حتى صارت أغلب مناحي الحياة تدبَّر بأموال الوقف، وطوّر المسلمون جملة قواعد وضوابط لتدبير هذا النظام، قد تصلح لهذا العصر. وقد أعاد الأستاذ إنتاج هذه القواعد وصياغتها وفق قوالب منهجية مرنة تستطيع التكيف مع طبيعة الحياة المعاصرة التي تتميز بالتشابك والتركيب.
يتمثل النجاح هنا في إعادة الاعتبار للتاريخ من خلال ربط المجتمع بأحد المظاهر التي تحقق فيها تفعيل أساس من أسس التصور الإسلامي وهو الإنفاق والصدقة والتضحية والعطاء والبذل… وقد كان هذا المجال أحد أهم المجالات التي تَنافس فيها الصحابة الكرام – رضي الله عنهم- فيما بينهم. فالرجوع إلى عصر السعادة -كما يطلق عليه الأستاذ فتح الله كولن- لم يكن بغرض المتعة، بل بنيّة الاقتداء. يذكر تلامذته الذين تلقوا عنه مباشرة، وأجازهم في العلوم الشرعية، أنه كان يقول لهم “كونوا مثل الصحابة أو موتوا!”، أي كونوا في مستوى أفق الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
تميزت مختلف مراحل التكوين والتأطير بالنسبة لهؤلاء الحَواريين بالشحن المستمرّ، الذي كان الأستاذ يمارسه -وما يزال- مع تلامذته (أقصد أبناءه) شحذًا لهممهم، ومع ذلك فإن أكثرهم همّة يؤكد بأنه دون أفق انتظار الأستاذ، لأن همته عالية جدًّا وهو لا يشبع.

التفويض والأخذ بالأسباب

يلح الأستاذ على ضرورة الأخذ بالأسباب، شريطة أن تكون هذه الأسباب مشروعة تراعي الشروط العامة للتصور الإسلامي، دون أن يغيب عن دائرة نظره أنه لا ينبغي التدخل في شؤون الربوبية كما يقول، لأن الإنسان مسؤول عن العمل والحركية، أما النتيجة من نجاح أو فشل فذلك من تقدير الله تعالى.
حرص الأستاذ طيلة حياته على التنبيه بأن ما يتحقق من منجز في طريق تحقيق الانبعاث والإحياء هو بتوفيق من الله تعالى، وأن الله تعالى يعطي على قدر نيّة العبد وتطلعه، يقول: “ينبغي على الإنسان أن يقوم بوظيفته وواجبه، ولا يتدخّل في لوازم شأن الربوبية. الوظيفة مسؤولية تقع علينا، والتوسل بالأسباب هو مراجعة في حكم الدعوات المرفوعة إلى أبواب الحق تعالى… فإن الله تعالى يُظهر بُعدًا خفيًّا من أسرار قدرته بجعْل ذلك شرطًا عاديًّا في إعمار الدنيا والعقبى، ووسيلة مرعية وشبيهة بزرٍّ سحري لعملية كهربية تضيء العوالم، فيوجد بحرًا في قطرة، وشمسًا في ذرة وعالمًا في عدم من عدم… إن حكم الأسباب -أو أي شيء آخر- لا يجري على الله تعالى، ولا يقيد إرادته ومشيئته الإلهية. الله يحكم على كل شيء، والله هو الحاكم الأحد المطلق؛ ومراعاة الأسباب وعد العلل وسائل صغيرة ليس إلا بأمر الله تعالى. فنؤمن بهذا الاعتبار بأن الإنسان سيعاقَب إن خالف الشريعة الفطرية المعروفة بسنّة الله عقابًا معظمه في الدنيا، وقسم منه في الآخرة”. بل إن الأستاذ يعتبر بأن مصيبة المسلمين في القرون الأخيرة، ترجع إلى عدم إدراك حقيقة وظيفة الإنسان في باب العبودية من خلال الأخذ بأسباب التطور، ومن أهم تلك الأسباب عدم الأخذ بناصية العلوم وخاصة في حقل الآيات التكوينية، بما هي وسيلة لتحقيق العبودية، ووسيلة لمعرفة قدرة القادر تعالى.

حرص الأستاذ طيلة حياته على التنبيه بأن ما يتحقق من منجز في طريق تحقيق الانبعاث والإحياء هو بتوفيق من الله تعالى، وأن الله تعالى يعطي على قدر نيّة العبد وتطلعه، يقول: “ينبغي على الإنسان أن يقوم بوظيفته وواجبه، ولا يتدخّل في لوازم شأن الربوبية. الوظيفة مسؤولية تقع علينا، والتوسل بالأسباب هو مراجعة في حكم الدعوات المرفوعة إلى أبواب الحق تعالى…

أكّد الأستاذ منذ بداية عمله الحركي الإصلاحي ضرورة توجيه الأجيال الجديدة إلى معرفة العلوم وتكوين دهاة في مختلف مجالات العلوم والمعارف، بل تربيتهم على أساس أن لا تعارض بين الدين والعلم، وأن لا تصادم بينهما على الإطلاق… لقد أدرك الأستاذ -كما أدرك النورسي – أن علوم الطبيعة قد انحرفت عن مسارها عندما انفصلت عن الدين، فأرجعت التوازن في الوجود إلى محض الصدفة، ونسبت للمخلوق -وهو الطبيعة- قدرات الخلق الخارقة؛ فمسؤولية الأجيال الجديدة التي يتم تكوينها في المدرسة النابعة من خصوصيات الثقافة الذاتية، تتحدد في أن تعرف أن العلوم مظهر لتجلي صفة الرب في هذا الوجود، وهو ما يفرض معرفته بمعلومات سليمة المصدر…

بعبارة أخرى إن هذا الإنسان الجديد سيصحّح مسار العلم بربطه بالخالق وبتجليات صفاته في الوجود، بما يعود بالنفع على الإنسانية كلها، وذلك ما ستضفيه الأجيال الجديدة من طابع أخلاقي على العلم وعلى الممارسة العلمية، بعد أن ألغت نظرية الطبيعة القيم والأخلاق عن مجال العلم. يقول الأستاذ في معرض حديثه عن إحدى أهمّ صفات ورثة الأرض: “الوصف الثالث للوارث هو الإقبال إلى العلم بميزان ثلاثية العقل والمنطق والشعور. وهذا الإقبال يأتي في أوانه إذ يشكّل استجابة لمطلب بشري عام في وقت انجرفت فيه البشرية وراء فرضيات غامضة مظلمة وإنها لخطوة خطيرة نحو خلاص الإنسانية عامة. ولقد أشار بديع الزمان النُّورْسي إلى أن البشرية ستتوجه في آخر الزمان بكل طاقتها إلى العلم والفن؛ فتستمد كل قوتها من العلم، ويمتلك العلم مرة أخرى الحكم والقوة، وتصير الفصاحة والبلاغة وقوة الإفادة موضوعا في سبيل قبول الجمهور للعلم، وموضع اهتمام الجميع… ويعني هذا عودة عصر العلم والبيان من جديد. ولا نرى سبيلاً غير هذا، يبعدنا من أجواء دخان الأوهام وضبابها المحيط ببيئتنا، ويوصلنا إلى الحقيقة، بل إلى حقيقة الحقائق. إن استدراكنا للنواقص والفجوات التي ألمت بنا في القرون الأخيرة، وبلوغنا حدّ الإشباع في المعرفة، وإثبات وجودنا وثقتنا بأنفسنا مرة أخرى بتعمير خراب حس الانسحاق المزمن في شعورنا الباطن… كل ذلك يتطلب منّا إمرار العلم من منشور الفكر الإسلامي، وتمثيله عمَليا والإفادة عنه بشتّى الوسائل.”.
يؤمن الأستاذ فتح الله كولن أن المدخل الذي اختُرِق منه العالم الإسلامي هو المدرسة، التي أُسست في وقت من تاريخ الأمة وفق رؤية غريبة عن هوية الذات وبعيدًا عن مقومات الثقافة الذاتية. تم ذلك من خلال ما يطلق عليه الأستاذ فتح الله كولن “أعشاش التعليم” التي سُلّمت إليها صفوة الأدمغة الطرية دون توجس وقلق، لتملأ أدمغتها بالثقافة الغربية وعاداتها التي كانت نتيجة طبيعية للمدارس؛ لأن هذه المدارس كانت تقدم صنوف هذه الثقافة على العلم، لأنها كانت ترمي إلى تكوين نخب تابعة لها في الرؤية والتوجه تخدم مصالحها ولا تخدم مصالح الوطن. ولتجاوز هذا، يتوجب تكوين أجيال جديد في مدرسة نابعة من خصوصيات الثقافة الذاتية، وتقدم الثقافة الذاتية وتدرس العلوم في إطار هذه الثقافة الذاتية، دون الإخلال بخصوصيات العصر وشروط المدنية الحديثة، يقول: “جل، لابد من تحقيق تجددنا الذاتي ونهضتنا (Renaissance) عن طريق تلقيح عقول شبابنا بالتفكير العلمي، وذلك سيؤدي إلى تفاعلهم واندماجهم مع الفكر والعلم، كما فعَلنا ذلك قبل الغرب بقرون مديدة. إن القلق المحسوس به في الوجدان العام لسيرنا المنحوس، واضطراب القلوب بسبب العيش تحت الوصاية سنين وسنين، ورد الفعل لدى إنساننا بسبب استغلال الغير لنا قرونا، أورثنا اليوم شهقةً كشهقة النبي آدم، ونشيجًا كنشيج النبي يونس، وأنينًا كأنين أيوب عليهم السلام. وقد بلغ بنا الأمر أننا بدافع هذه الأفكار والمشاعر وعلى ضوء التجارب التاريخية نشعر اليوم وكأن المسافات قد انكمشت ولم يبق للوصول إلى الهدف سوى خطوات”.

خطاب التأميل والحركية في رؤية الأستاذ

لا شك أن خطاب الأستاذ خطاب مسكون بنبرة آملة وليس نبرة يائسة، فهو يحرص على أن يُشعر متلقيه بأنه متيقّن بأن الأفق مشرق وبأن المستقبل واعد… إنه يستمد هذه الطاقة من الخطاب القرآني نفسه، ومن وجهه المطبق وهو السنة النبوية باعتبارها الوجه العملي للقرآن الكريم، الذي كان دائم الإلحاح على أن الالتزام بالعبودية في إطارها العام، يضمن رضى الله تعالى وتوفيقه، شريطة توفر شرط الإخلاص والصبر المتصل بعدم استعجال النتائج واستعجال قطف الثمرات.

لا شك أن خطاب الأستاذ خطاب مسكون بنبرة آملة وليس نبرة يائسة، فهو يحرص على أن يُشعر متلقيه بأنه متيقّن بأن الأفق مشرق وبأن المستقبل واعد… إنه يستمد هذه الطاقة من الخطاب القرآني نفسه، ومن وجهه المطبق وهو السنة النبوية باعتبارها الوجه العملي للقرآن الكريم، الذي كان دائم الإلحاح على أن الالتزام بالعبودية في إطارها العام، يضمن رضى الله تعالى وتوفيقه.

يربط الأستاذ فتح الله كولن ربطًا حتميًّا بين الحركية والفكر؛ ففي نظره لا يمكن للفكر وحده صناعة النهضة والإحياء، كما أن الفعل والحركية دون هدي الفكر وتحت إرشاده، حركية تائهة تعطلت بوصلتها. وعندما يربط الأستاذ بين الحركية والفكر، فهو يقصد حركية محددة هي الحركية الإسلامية، وعندما يقصد الفكر يقصد الفكر الإسلامي؛ لأن من شأن توقف الذات عن الحركة وعن الفعل في ضوء الفكر الإسلامي، دخولها في تأثير الدوامات الفكرية الغريبة عن الذات وهوتها، الأمر الذي سهل الاختراق. وهذا فعلاً هو ما تعرضت له الذات في الماضي القريب، يقول: “إن السكون الدائم يعني إهمال التدخل فيما يحدث حولنا، وترك المشاركة في التكوينات المحيطة بنا، والاستسلام للذوبان الذاتي رغمًا عن أنفسنا كقطعة جليد سقطت في الماء… أما تعاجزنا عن حماية جزئياتنا الذاتية في هذا الذوبان، يعني التسليم لأي تكوين أو حادث يناقض ذاتنا ويضاد جوهرنا. ينبغي على الذين يبرمجون لبقاء الذات أن يطلبوه بكل رغباتهم وميولهم وقلوبهم ووجدانهم وحركاتهم وأفكارهم، لأن حضور الوجود يقتضي توترًا تامًّا في جوهر الإنسان”.
أعلن الأستاذ النفير العام منذ أكثر من أربعين عامًا مع نفسه فلم يلتفت لهمومه الخاصة ولم يتزوج، ولم يملك ولم يتمتع، وقضى معظم حياته معتكفًا متضرعًا مفكرًا يقرأ العالم، لأنه يعتبر نفسه مسؤولاً عن كل واحد من أفراد هذا العالم، وملزمًا بأن يجعله يعرف حقيقة وجوده ووظيفته في هذا الوجود الفسيح. وعلى أساس ذلك يرى فتح الله كولن أن الوجود الحقيقي يمر عبر الحركية والفكر، حركية وفكر يغيران الذات والآخرين، فالآخرون يوجدون دائمًا في بؤرة اهتمامه وفي بؤرة اهتمام الحركة المدنية التطوعية المعروفة اليوم بـ”الخدمة”، كما يطلق عليها البعض، والآخر هنا مفهوم صوري يوظف من أجل إلباس الحركية بعدًا اجتماعيًّا، إذ لا وجود للآخر في تصور فتح الله إلا من تم تأخيره وإقصاؤه، يقول: “إن أهم مميزات الحركية الإسلامية والفكر الإسلامي هو أن يكون وجودنا ذاتنا، وأن نجعل مطالبنا مطالب العالم ورغباته، ثم نجد مجرى حركة لنا في عموم الوجود ونسيل بذاتنا في مجرانا الخاص ضمن مجريات عموم الكائنات”.
إن “الإنسان الجديد” الذي يبشر به الأستاذ والذي بدأت طلائعه الأولى تلوح في الأفق، يحتضن الوجود كله بل يعتبر ذلك من أوجب واجباته. فـ”جيل الأمل” هذا مستعد دائمًا للهجرة من أجل احتضان هذا الإنسان في كل مكان في هذا العالم، غير آبه بالبعد عن الوطن والأهل تاركًا خلفه الوطن والأحباب، ومضحّيًا بكل ما يشده إلى الدنيا… ولقد وفقه الله تعالى ففتح القلوب من خلال فتح المدارس والجامعات والمستشفيات في أماكن عديدة من العالم، حتى في تلك الأماكن التي تعرف توترات ونزاعات سياسية وعرقية ودينية ومذهبية. لقد نجحت هذه المدارس في تقديم صورة إيجابية عن الإسلام غير تلك التي يقدمها الإرهاب وتخويف الآمنين باسم الدين.
أما بعد…
الأستاذ فتح الله كولن مدرسة ناجحة في العمل الإيجابي. والإلمام بجميع جوانب شخصيته الفكرية والحركية يحتاج إلى العديد من الدراسات والأبحاث. ومن المؤكد أن الشهور والسنوات المقبلة ستعرف توسعًا في عدد مَن سيقتربون من عالم هذا المفكر، ومن عالم الخدمة قصد البحث عن أجوبة الواقع الملحة، خاصة بعد فشل الإسلام الأيديولوجي في حلّ ألغاز النهضة.
وإذا كانت بعض التيارات الإسلامية ترى بأن المال وسلطته -بغض النظر عن مصدره- يستطيع شراء كل شيء بما في ذلك النهضة والحضارة، فإن الزمن سيكذّب دعاة هذا التيار الجارف، لأن الحضارة في مفهوم الإسلام لا تقوم على اعتبار المال غاية والدنيا هدفًا.

(*) جامعة أبو شعيب الدكالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية -الجديدة / المغرب.
المراجع
(1) الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2004م.
(2) ونحن نقيم صرح الروح، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2010م.
(3) النور الخالد، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2013م.
(4) ونحن نقيم صرح الروح، المقال الرئيس في مجلة حراء، العدد: 6 (يناير – مارس 2007).