ما يشهده العالم اليوم من تلوث بأشكاله المختلفة؛ من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون إلى استنزاف طبقة الأوزون، إلى الاحتباس الحراري والتغير المناخي وما نتج عنه من كوارث طبيعية، جعل الباحثين يدرسون كيفية التخفيف من أضرار الملوثات، وخاصة تلك المتعلقة بالصناعات الكيميائية، ووضع تشريعات وقوانين لاستخدام أمن للمواد الكيميائية. يعد الكتاب المنشور لـ”راشيل كارسن” تحت عنوان “الربيع الصامت” سنة 1962، جرَس إنذار مبكر للمجتمع الكيميائي للأخذ بعين الاعتبار سُمِّيّة المركبات الكيميائية وخطرها على الإنسان وعلى الأنظمة البيئية، تقول راشيل كارسن في كتابها: “إن المخاطرة بالكثير في إطار جهودنا المبذولة لإخضاع الطبيعة لرضانا، والفشل في تحقيق هدفنا، سيكون هو السخرية الأخيرة، ومع ذلك يبدو أن هذا هو وضعنا، وهذه هي الحقيقة التي نادرًا ما تُذكر ولكنها موجودة، هي أن الطبيعة لا يمكن إخضاعها”.وكان ذلك منشأ الحركات والمنظمات المنادية بحماية البيئة، لكن كل الجهود والطرق المقترحة لم تكن كافية للحد من الوضع الكارثي الذي ينذر بأن الأرض لن تكون مكانًا آمنًا للعيش خلال هذه الألفية. إن الفجوة العميقة الموجودة بين الوضع البيئي والوضع الصناعي والاقتصادي، لا يمكن الحد منها وتقليصها إلا من خلال تطوير وتبنّي علم جديد سمي بـ”الكيمياء الخضراء”، الذي من شأنه البحث عن وسائل نظيفة وصديقة للبيئة للحيلولة دون زيادة تردي الوضع البيئي. وإن المنتظر من هذا العلم حاليًّا، توفير هذه الاحتياجات دون الإضرار بالبيئة والإنسان.
المرحلة الجنينية
مرت الكيمياء الخضراء بمراحل عديدة، لكن قبل ظهورها الفعلي في تسعينيات القرن الماضي، سبقها الكثير من الدراسات التي شكلت الأساسات المتينة التي بني عليها هذا العلم الجديد، والتي نرى بأنها كانت البدايات المبكرة للكيمياء الخضراء.
إن ظهور فرع جديد في الكيمياء المسمى بـ”الكيمياء الضوئية” على يد العالم “جياكومو سيامسيان” ودراساته حول استبدال المواد الكيميائية المستخدمة في بدء التفاعلات بالأشعة الضوئية، كان تحديًا في نهاية القرن التاسع عشر، إذ التوقيت كان مبكرًا جدًّا لتؤخذ دراساته بعين الاعتبار في تدريس وتطبيقات الكيمياء. ففي رسالة له إلى الجمعية الكيميائية الفرنسية سنة 1908يقول سيامسيان: “إنه لا مجال للشك في أن الإنسان يمكنه القيام بالتفاعلات الكيميائية في المختبر كما تقوم بها الطبيعة وفي شروط مشابهة، في حين يظن المجتمع الكيميائي بأن إنجازات الكيمياء الحديثة تم الوصول إليها بعرض مفرط للقوة”… وليكون منصفًا يضيف: “إن هذا الاعتراض على استخدام الكيماويات والطاقة الكبيرة لحدوث التفاعلات لهو اعتراض مشروع، حيث إن استخدام التسخين عند درجات حرارة مرتفعة، واستعمال مواد خطرة، لا يمكن تجنبه في المختبرات الكيميائية حاليًّا، على عكس ما يحدث في عالمنا وخاصة في النباتات التي تضرب لنا مثلاً رائعًا في الحصول على نتائج مبهرة في هذا المجال، وذلك بتصنيع مركبات كيميائية ابتداء من طرق ومواد بسيطة كما يبدو”. يقول أيضًا في هذا الصدد: “إن فهم آلية وكيفية حدوث التفاعلات الكيميائية في النباتات، سيكون من شأنه إحداث ثورة وتقدم في أنشطة الصناعات الكيميائية”. هذا العالِم كان سابقًا لعصره، وتبنى مبادئ الكيمياء الخضراء -وهو الملقب بأبي الكيمياء الضوئية- كان يرى بأنه يجب أن نحاكي التفاعلات الكيميائية كما تحدث في الطبيعة، وقد نجح في تصنيع العديد من المركبات الكيميائية ضوئيًّا. لكن يبدو أن العالَم -والمجتمع الكيميائي بالخصوص- انتظر مدة قرن وأربعة سنوات، ليعيد النظر في سياسات التصنيع والاستهلاك طالما اعتُبرت الأرض كمصدر أساسي للثروات غير النافذة، وكمحطةٍ لتخزين المخلفات في آن واحد، دون مراعاة العواقب الوخيمة الناتجة عن ذلك.
البدايات الأولى
يعود ظهور أولى أفكار ومبادئ الكيمياء الخضراء إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، فلم يظهر مسمى “الكيمياء الخضراء” في الكتب والأدبيات قبل إثني وعشرين سنة من الآن. ويعتبر مؤتمر “منع التلوث” المنعقد سنة 1990 في الولايات المتحدة الأمريكية، نقطة انطلاق للكيمياء الخضراء وتطبيقاتها، حيث كانت أهم المشاكل المطروحة هي كيفية الحد من التلوث بأشكاله المختلفة. ومن بين النتائج التي خلُص إليها الباحثون أن: “أفضل طريقة للقضاء على التلوث، هو القضاء عليه خلال أو بعد تشكله في أول ظهور قبل انتقاله إلى البيئة حيث يصبح من الصعب القضاء عليه”. وهذا ما يمثل نقطة اختلاف بارزة ما بين كيمياء البيئة والكيمياء الخضراء. وفي سنة 1991 بدأ اعتماد برنامج وسياسات الكيمياء الخضراء في الولايات المتحدة الأمريكية، أما في بداية النصف الأول من سنة 1990، أطلقت كل من إيطاليا والمملكة المتحدة برامجها الأولى، بالإضافة إلى اليابان التي انضمت إلى الدول السابقة خلال النصف الثاني من نفس العشرية.
لقد وضع المختصون في هذا المجال تعريفًا شاملاً للكيمياء الخضراء، بأنها تحقيق وتصميم المُركَّبات والطرق الكيميائية للتخفيف أو منع استخدام وإنتاج مواد خطرة.
ربما يتسائل البعض لماذا هذا التوقيت المتأخر لظهور الكيمياء الخضراء؟ والتفسير الوحيد هو أن التشريعات والقوانين التي وُضعت لاستخدامات المواد الكيميائية لم تكن موجودة قبل ستينيات القرن الماضي، وكذلك المعرفة الدقيقة ببنية المركبات الكيميائية وسُمِّيَّتها، وإمكانية تصميم طرق وجزيئات كيميائية خضراء صديقة للبيئة، لم تكن مكتملة كما هي اليوم؛ حيث أصبح علم الكيمياء بكل فروعه علمًا ناضجًا، والمكتبات العلمية اليوم تتوفر على عدد كبير من المراجع والأبحاث العلمية التي تدرس سُمِّية المركبات الكيميائية ما يجعل تجنب استخداماتها ممكنًا. كما أن توجه المجتمع الكيميائي نحو إيجاد طرق كيميائية لمعالجة النفايات وتخفيف الأثر البيئي للملوثات، لم يكن دائمًا الحلّ الأقل تكلفة من الناحية الاقتصادية. هذه الإشكالية رجحت كثيرًا الكفةَ لصالح الكيمياء الخضراء ومبادئها التي بإمكانها تحقيق “تصنيع كيميائي مثالي” كما يشير إلى ذلك “جايمس كلارك” في إحدى ورقاته العلمية المنشورة في مجلة الكيمياء الخضراء.
المبادئ 12 للكيمياء الخضراء
إن الحاجة الملحة لتحقيق تفاعلات وطرائق كيميائية أكثر أمانًا وأقل كلفة من الناحية الاقتصادية وصديقة للبيئة في آن واحد، أخضعت الكيمياء -بمختلف فروعها- لتحسينات وتعديلات لم تطرأ عليها من قبلُ على مدى تاريخها الحافل، فاتجه المجتمع الكيميائي إلى تبنّي مبادئ الكيمياء الخضراء، والتي لخصها الكيميائي “بول أناستاس” في 12 مبدءًا في كتابه “الكيمياء الخضراء نظرية وتطبيق”.
1- من الأفضل المنع أو التقليل من المخلفات على معالجتها والتخلص منها بعد تشكيلها.
2- من الأفضل تصميم طرق التحضير بصورة تجعل جميع المواد المتفاعلة تدخل في تركيب الناتج المراد تحضيره.
3- يجب تصميم طرق تحضير آمنة، بحيث تكون المواد المستخدمة أو المخلفة منخفضة السُّمّية أو غير سامّة بالنسبة للإنسان والبيئة.
4- يجب أن يكون المركب الكيميائي الناتج، ذا كفاءة عالية وذا سُمّية منخفضة.
5- يجب الاستغناء عن مواد مثل المذيبات العضوية عامل الاستخلاص أو استخدام مواد أخرى أقل سُمّية.
6- استخدام الطاقة يجب أن يراعى فيه الجانب البيئي والاقتصادي، ويجب أن يقلل منه أو القيام بالتفاعلات في درجات الحرارة الاعتيادية.
7- يفضل استخدام المادة الأولية القابلة للتجديد، على استخدام مواد غير متجددة.
8- يجب التقليل من عمليات الاشتقاق على الجزيئات والتغييرات في الطرائق الفيزيائية والكيميائية، لأن ذلك يُنتج مخلفات ضارة.
9- يجب أن يكون عامل الحفز اختياريًّا ومتخصصًا بشكل كبير أفضل من استخدام كميات متكافئة للمتفاعلات.
10- يجب أن تصمم المركبات المنتجة بحيث لا تتراكم في المحيط بعد أداء وظيفتها وتتفكك إلى مواد بسيطة غير مضرة بالبيئة.
11- يجب تطوير طرائق التحليل الكيميائي لمراقبة التفاعلات لحظيًّا والتحكم بها قبل تشكل أيّ مادة سامة أو خطرة.
12- يجب أن لا تكون المواد المستخدمة أو المخلفة خلال العملية الكيميائية خطرة أو ينجم عنها حوادث كالانفجار أو الحرائق.
مستقبل وتحديات
حققت الكيمياء الخضراء تقدّمًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث أصبح من الممكن استبدال المذيبات العضوية التقليدية في التصنيع وطرق الفصل الكيميائي بمذيبات خضراء صديقة للبيئة. ومن الأعمال المتميزة في هذا المجال، استخدام ثاني أكسيد الكربون في الحالة المائعة عند درجة الحرارة فوق الحرجة في التصنيع والفصل الكيميائي. ومن أهم مميزاته أنه لا يتأكسد في هذه الظروف، مما يجعل استخدامه في تفاعلات الأكسدة ذا قيمة كبيرة، استخدام المخلفات النباتية لإنتاج مادة الليجنين المستخدمة في العديد من تطبيقات الكيمياء. وبذلك نجعل مخلفات اليوم، مصادر لمواد أولية آمنة لصناعات الغد، كما نضيف جهود الكيميائيين الباحثين في تطوير طرق كيميائية نظيفة، كتقنية الميكروويف، والموجات فوق الصوتية في التصنيع الكيميائي. هذه التقنيات تعمل على تحقيق مبدأ اقتصاد الذرات والفعالية الذرية، كما أن التفاعلات تتم في وقت قصير -أو يمكن القول في مدة خيالية من دقيقة إلى عشر دقائق- ويكون مردود التفاعل كبيرًا بالمقارنة مع الطرق التقليدية. التأسيس لسياسة تعليمية لتعليم الكيمياء الخضراء في الجامعات، وإدخالها في البحوث العلمية الأكاديمية، وربط هذه الأخيرة مع الاقتصاد ومتطلبات الصناعة والسوق، بالإضافة إلى إيجاد بدائل صديقة للبيئة ذات كفاءة عالية تساعد على التخلص النهائي من المواد الكيميائية الخطرة وتراعي -في نفس الوقت- الجانب الاقتصادي، وهذا كله يعد من أهم التحديات التي يواجهها الكيميائيون في هذا المجال.
الحاجة إلى محاكاة الطبيعة
لقد كانت الطرائق الكيميائية ومخلفاتها تعرِّض الإنسان والبيئة لمخاطر لا تعد ولا تحصى. ليس العيب في المركبات الكيميائية كونها خطرة، لكن العيب في طرق تصنيعها واستخداماتها ومصيرها النهائي في الطبيعة كمخلفات. المعادن الثقيلة والمركبات الكيميائية الموجودة في الطبيعة، لم تشكل يومًا خطرًا على الإنسان والبيئة إلا خلال المئتَي سنة الأخيرة، حيث أصبحت هذه العناصر من أهم المخلفات الصناعية ومن أخطر الملوثات، ذلك كله بسبب طريقة تعامل الإنسان مع هذه المواد، إذ إنه أوجد طرقًا مختلفة لتصنيع المواد الكيميائية من البنى البسيطة إلى المعقدة. وقد كان ذلك تطورًا وتحديًا يشهد له، لكن بأسلوب مختلف عن ذلك الأسلوب المثالي المتقن الذي تتبعه الطبيعة.
إن التفاعلات والتحولات الكيميائية التي تحدث في الطبيعة -منذ أن خلق الله الأرض- صممها الله -عز وجل- بطريقة قمة في الإبداع والإتقان كما يقول -عز وجل- في القرآن المجيد: (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ)(النمل:88). من هنا وجب التأمل في خلق الله -عز وجل- واستخلاص العِبَر من أدق المخلوقات من البكتيريا إلى النباتات -وهي مثال للمختبرات الخضراء- إلى الشمس أشهرِ مفاعل نووي طبيعي خلقه الله -عز وجل-.
من أجل غدٍ أفضل، شهد العالم قفزة نوعية في المجال العلمي مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ حيث سعى العلماء والباحثون لتسخير العلوم وشحذ الطاقات لتطوير التكنولوجيا وتحقيق وسائل العيش المريحة. ومن أجل غدٍ أفضل لابد من إعادة النظر في الطرائق الكيميائية وجعلها أكثر تواؤمًا مع البيئة، وكما قال نويوري: “يجب أن تكون آمنة صديقة للبيئة ومعقولة من ناحية تكلفة المواد الأولية والطاقة المستخدمة، ودون إعطاء أهمية لما يسمى الآن بالكيمياء الخضراء، فإن الصناعات الكيميائية ستصبح غير آمنة خلال القرن الحالي”.
تبدو الكيمياء الخضراء شديدة المثالية والجمال، وهذا ما يجعل المجتمع الكيميائي يعيد رسم ملامح جديدة للكيمياء من خلال الكيمياء الخضراء، وذلك بتحقيق تطبيقات أنيقة للعمليات الكيميائية تترافق فيها الفعالية والأمان. إن المجتمع الكيميائي يعلق آمالاً كبيرة على الكيمياء الخضراء، وذلك بتغيير النظرة التقليدية للكيمياء على أنها مصدر للتلوث، بل ورقة رابحة يراهن عليها الكيميائيون اليوم لضمان بيئة أكثر أمانًا للعيش.
(*) كاتبة وباحثة جزائرية.