في ظل التحديات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، تبرز أزمة عميقة في كيان الإنسان ذاته؛ فمع كل التطور المادي والتقني، يعاني الإنسان المعاصر من غياب التوازن، وتشتت البناء الداخلي، وضمور المعنى، والانفصام في الشخصية. هذا الفراغ الروحي والضياع الوجودي رغم النجاحات المادية، يدفعنا للتساؤل عن مفهوم “الإنسان الكامل”. إن الحاجة ملحة اليوم لبناء “الإنسان المتكامل” الذي يجمع بين الإيمان والوعي، والعقل والنفس، والأخلاق والكفاءة، والعمق الروحي والفاعلية الواقعية. لقد تناول القرآن والسنة هذا المفهوم، وسعى علماء الإسلام لبيان ملامح “الإنسان الرباني” الذي يحقق التوازن بين العبودية والعمران.
الإنسان بين التكامل والانقسام
لقد كرّم الإسلام الإنسان بالعقل والفطرة والعبادة، وجعله كيانًا مركبًا من روح وعقل ونفس وجسد. يصف الإمام “الرازي” الإنسان بأنه تركيب عجيب جعله الله محلًّا لاجتماع الملك والملكوت، فهو جسد أرضي، لكن روحه سماوية. هذا التوصيف يؤكد الطبيعة المزدوجة للإنسان، التي تتطلب توازنًا بين أبعاده المادية والروحية.
ويشير الدكتور “عبد الكريم بكار” إلى أن الأولوية اليوم هي “تكوين الإنسان المتوازن الذي لا يطغى فيه العقل على الروح، ولا العمل على القيم، ولا المادة على المعنى”. فالخلل في هذا التوازن يؤدي إلى أمراض العصر؛ كنجاح مهني بلا تزكية يؤدي إلى قسوة القلب، وتدين بلا وعي يؤدي إلى غلوّ، وعلم بلا أخلاق ينتج استبدادًا، وشعور بلا هدف يسبب الضياع.. لذا، إن السعي لبناء الشخصية المتكاملة ليس ترفًا، بل ضرورة ملحة.
جوهر الشخصية
إن أساس البناء الداخلي الراسخ هو قلب حيّ متصل بالله، فالإيمان ليس مجرد طقوس، بل محور مركزي للشخصية. وقد أكّد القرآن الكريم أنه: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)(الشمس:9-10)؛ فالتزكية هي مفتاح الفلاح، وهي تطهير من الصفات المذمومة وتحلية بالصفات المحمودة كما يوضح ابن القيم. هذا الجانب يمنح الإنسان بوصلة الاتجاه ويزرع فيه الإخلاص والطمأنينة، ويوفر له النور الذي يضيء دروب الحياة.
الوعي والبصيرة
العقل هبة إلهية، ودوره أساسي في فهم الكون. والعقل في التصور الإسلامي ليس ضد الإيمان، بل خادمه وشريكه في التدبر والتفكر في آيات الله عز وجل، إلا أن العقل المنفصل عن الروح والقيم، قد يتحول إلى أداة للهدم. والإنسان المتكامل يسعى للفهم العميق والتحليل النقدي ولا ينقاد للعاطفة، بل يتحاكم إلى الفكر الرصين. كما أن بناء العقل المستنير يتطلب قراءة واعية، وتفكيرًا نقديًّا، ومراجعة ذاتية، وانفتاحًا على وجهات النظر المختلفة مع الثبات على الأصول.
ضبط الذات والاتزان
قيمة الإنسان المتكامل لا تكمن فقط في علمه أو إنجازاته، بل في قدرته على إدارة نفسه وتحقيق التوازن الوجداني والتحكم في انفعالاته. النفس ميدان جهاد، والانتقال بين مراتبها (أمارة بالسوء، لوامة، مطمئنة) هو أساس بناء الشخصية السوية. القيادة الحقيقية تكمن في السيطرة على الذات وليس على الآخرين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب” (رواه البخاري)؛ تأكيدًا على أن قوة الإنسان الحقيقية في ضبط انفعالاته. ويشير ابن القيم إلى أن المؤمن يضبط قوة الإقدام والإحجام بعقل وإيمان. وإن المرونة النفسية والتصالح مع الذات ضروريان للتكيف مع الأزمات، والتزكية النفسية توجّه العواطف نحو السمو (الخوف إلى ورع، والغضب إلى غيرة).
جوهر الاستقامة ورفعة الروح
في خضم زحمة الحياة، تبقى القيم والأخلاق البوصلة التي تحفظ للإنسان توازنه وتُعطي لحياته المعنى، والأخلاق هي روح الإنسان الحقيقي. وقد شهد الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم:4). الأخلاق جوهر ينير القلب ويقود السلوك، وقد قال ابن القيم: “الدين كله خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الدين”. القيم تُبنى وتُربى عبر المواقف والقدوات وهي أساس البناء الحضاري، كما أن التحلل الأخلاقي يُسقط الأمم.
والجمال في الرؤية الإسلامية نظام كوني وأخلاقي وروحي. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله جميل يحب الجمال” (رواه مسلم)؛ يفسر النووي ذلك بأن الله يحب من عباده إظهار أثر نعمته عليهم في هيئتهم وأخلاقهم وألفاظهم. ومن ثم فالشخصية المتكاملة لا تستهين بالجمال لأنه امتداد للعبادة. والذوق الرفيع مرآة الروح السليمة، وهو انعكاس لعمق الإنسان ونقاء باطنه. والجمال الحقيقي يُقاس بعمق الذوق ورقة الشعور وحساسية الموقف وسمو الروح. كما أن التربية الجمالية تهذب النفس وترقّق المشاعر وتُعين على تقدير صنع الله سبحانه وتعالى.
رسالة الإعمار والمسؤولية
العمل في الإسلام فعل وجودي وتجلٍّ عملي لمعنى الاستخلاف وعمارة الأرض، وإذا اقترن بالنية الصالحة وأُدِّي بإتقان فهو عبادة. فالشخصية المتكاملة منتِجة لا مستهلِكة، مبدعة ومبادِرة. كما أن العمل وسيلة للبناء الذاتي والمجتمعي، يصقل الإرادة ويعزز الثقة، ويسد الحاجة ويمنح الكرامة، لأن الإسلام يدعو إلى الإتقان والتجديد وتقديم الفائدة في كل مجال.
وبالتالي تدرك الشخصية المتكاملة أن القيادة مسؤولية وتكليف، وأن القيادة الحقيقية هي التأثير والإلهام لا التحكم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” (رواه البخاري). إذن، القيادة بناء مستمر بالشخصية، وبالتعلم والقدوة والحكمة وضبط النفس. كما أن القيادة لا تنفصل عن الإيمان والعمل، وهي مبنية على التقوى والبصيرة لا على الحيلة أو المصلحة.
المساهمة الفاعلة وعمق الصلة بالله
الإنسان مسؤول عن ذاته وأمته والإنسانية جمعاء، ويسعى ليكون لبنة في صرح الأمة. والحضارة في الإسلام تبدأ من “حضارة الإنسان” نفسه؛ من تزكية النفس وعدالة النظام وسلامة القيم. ومالك بن نبي يشير إلى أن “شروط النهضة” تبدأ بالإنسان ومن داخله. فالشخص المتكامل يساهم في النهضة بوعيه وسلوكه ومبادراته وعمله المتقن. ومن ثم فالقيمة الحضارية، بالإخلاص في النية، والوعي بالسياق، والإضافة النوعية، والمعركة الحضارية هي معركة وعي وقيم، والضعف الحضاري فقر في الإيمان وضبابية في الرؤية.
بالإضافة إلى أن شخصية الإنسان لا تزدهر دون صلة عميقة بالله تعالى، فهي الأساس الذي يُقيم عليه الإنسان تفكيره وسلوكه وتوازنه النفسي وسموّه الأخلاقي. والنجاح في الدنيا والآخرة متعلق بالتزكية التي لا تتم إلا بمعرفة الله ومحبته وخشيته. والتوحيد يمنح القلب الاتزان، والصلاة وقود الروح، والذكر يُطهّر القلب، والتفكر يُنير العقل. كما أن الإيمان زادٌ لمواجهة الحياة، وكل الأزمات تخفّ حين يكون الإنسان متشبّعًا بالإيمان.
وفي الختام نقول: في هذا الزمن المتسارع لم يعد الاكتفاء ببناء الإنسان الناجح أو العارف كافيًا، بل صار لزامًا أن نعيد تعريف الإنسان الكامل المتكامل؛ صحيح الجسد، سليم النفس، متحرر العقل، سامي الأخلاق، مستنير الفكر، مرهف الوعي الحضاري، منفتحًا على الآخر، منتميًا إلى أمته، متصلاً بربه.
فالإنسان الذي نحتاجه اليوم، هو الذي يجمع بين الربانية والفاعلية، بين الروحانية والواقعية، بين الوعي العميق والخلق الرفيع، وبين التميُّز الذاتي والهمّ الجمعي. لقد ضرب القرآن الكريم لنا أمثلة عظيمة للإنسان المتكامل، فذكر عن نبي الله إبراهيم عليه السلام قوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا)(مريم:54-55).
وعلق عليها “ابن عاشور” في “التحرير والتنوير” بقوله: “هذا هو الإنسان الكامل في ذاته، وفي دعوته، وفي أسرته، وفي مجتمعه، وفي علاقته بربه”.
لقد آن الأوان لتربية أنفسنا وأجيالنا على مشروع “الإنسان الرباني الحضاري” الذي يصنع الوعي، ويستعيد المبادرة، ويقيم حضارته ابتداءً من داخله. فالنهضة تبدأ من النفس، وكل إصلاح بلا بناء للإنسان هو بناء على الرمال.
(*) كاتب وباحث أكاديمي مصري.
المراجع
(1) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، فخر الدين الرازي.
(٢) العيش في الزمان الصعب، التفكير فريضة، عبد الكريم بكار.
(٣) مدارج السالكين، ابن القيم الجوزي.
(٤) إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي.


