اكتشاف الذات وتوظيف المواهب والقدرات

إن رحلة الإنسان في هذه الحياة ليست مجرد سير عابر بين لحظة الميلاد ولحظة الرحيل، بل هي رحلة بحث عن الذات، عن المعنى، عن الرسالة، وعن الطاقة الكامنة التي أودعها الله تعالى في أعماقه لتكون مفتاح تميزه في الأرض. وكل إنسان خُلق وفي داخله بذور موهبة وقدرات فريدة تنتظر لحظة الانبعاث والاكتشاف. لكن الكثيرين يمضون أعمارهم دون أن يعرفوا أنفسهم معرفة حقيقية، ودون أن يوظفوا ما منحهم الله من إمكانات في البناء والإصلاح والتعمير.

قال الله تعالى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾[الذاريات: 21]، إشارة إلى أن أعظم ميدان للمعرفة هو النظر في الذات الإنسانية، فهي كتاب مفتوح لمن أراد أن يقرأه بعين البصيرة.

أولاً: معنى اكتشاف الذات وأهميته

اكتشاف الذات ليس مجرد معرفة سطحية للميول والرغبات، بل هو عملية تربوية متكاملة تقوم على فهم:

  • من أنا؟
  • ما رسالتي في الحياة؟
  • ما القدرات التي وهبني الله إياها؟
  • كيف أوظف هذه القدرات في خدمة الحق والخير والجمال؟

ويرى الإمام الغزالي أن الإنسان إذا عرف نفسه حق المعرفة، فقد عرف ربه، مستشهدًا بقول بعض الحكماء: “من عرف نفسه عرف ربه” [1]. أي أن معرفة الذات هي طريق إلى معرفة الغاية الكبرى من الوجود.

ويؤكد الدكتور عبد الكريم بكار أن وعي الإنسان بذاته هو بداية كل إصلاح، وأن غياب هذا الوعي هو الذي يجعل الكثيرين يعيشون بأقل من طاقتهم بكثير [2].

ثانيًا: المواهب والقدرات كنوز دفينة

المواهب ليست هِبات عابرة، بل هي أمانات ربانية، كما يقول ابن القيم: “إن في العبد من الكنوز والذخائر ما لو استُخرج وعُمل به لكان له شأن آخر” [3].

وهذه القدرات تختلف باختلاف الناس:

  • هناك من يملك قدرة على التفكير العميق والتحليل.
  • وهناك من يملك لسانًا فصيحًا في البلاغة والإقناع.
  • وهناك من يبرع في الفن والجمال والإبداع.
  • وهناك من يتقن مهارة الإدارة والتنظيم.

وقد قال تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾[الزخرف: 32]، أي إن اختلاف القدرات هو لحكمة عمرانية حتى يكمل بعضنا بعضًا.

ثالثًا: خطوات تربوية لاكتشاف الذات

اكتشاف الذات ليس وصفة سريعة، وإنما هو سلوك تدرجي تراكمي، ومن أبرز ملامحه:

  • المحاسبة الصادقة: أن يجلس المرء مع نفسه متسائلاً: أين نقاط قوتي وضعفي؟ ما الذي أبرع فيه حقًّا؟ [4].
  • التجربة والممارسة: فالمواهب لا تنكشف إلا عند الاحتكاك بالحياة وتجريب المجالات المختلفة.
  • الاستفادة من المربين والموجهين: فكثير ما يرى المرشد فينا ما لا نراه نحن بأنفسنا، كما فعل النبي ﷺ مع بعض الصحابة حين أشار إلى مواهبهم الخاصة (كأبي موسى الأشعري في صوته بالقرآن، أو زيد بن ثابت في تعلم اللغات).
  • التأمل والذكر: حيث يعين الإيمان على صفاء الرؤية ورسوخ البصيرة.

رابعًا: توظيف المواهب والقدرات

ليس كافيًا أن نكتشف ذواتنا، بل لا بد أن نوظف هذه المواهب في مسار نافع:

  • أن تكون الموهبة وسيلة لزيادة الخير لا للغرور.
  • أن تصب في خدمة رسالة سامية.
  • أن تُستثمر في خدمة المجتمع لا أن تبقى حبيسة الذات.

وقد قال فريد الأنصاري رحمه الله: “الموهبة إن لم تُسْتَخْدَم في الحق، تحولت إلى أداة للباطل” [5].

فالموهوب مسؤول أمام الله عن طاقاته، كما قال النبي ﷺ: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسده فيما أبلاه” (رواه الترمذي).

خامسًا: الأثر التربوي والفكري لاكتشاف الذات

  • الطمأنينة: حين يعرف المرء موهبته، يتحرر من التقليد الأعمى ويجد طريقه الخاص.
  • الإبداع: إذ الإبداع لا يتفجر إلا حين يوضع الإنسان في مجاله المناسب.
  • التوازن: فمن يعرف نفسه حقًّا لا يطغى، لأنه يدرك حدوده وضعفه البشري.
  • الفاعلية: كل إنجاز حضاري قام على اكتشاف الأفراد لقدراتهم وتكاملها.

سادسًا: معوّقات اكتشاف الذات وتوظيف المواهب

رحلة اكتشاف الذات ليست دائمًا سهلة، بل تحفها معوّقات قد تحجب الإنسان عن نفسه أو تشتته عن إدراك ما وهبه الله من قدرات، ومن أبرز هذه المعوّقات:

1- الغفلة والانهماك في الدنيا: حيث ينشغل الإنسان بملذاته ويغيب عن أعماقه [6].

2- الخوف من النقد أو الفشل: وهو ما يعيق الجرأة على المضي في طريق الموهبة [7].

3- ضعف الإرادة وقلة الصبر: بينما التميز يحتاج صبرًا طويلاً.

4- التقليد الأعمى وفقدان الاستقلالية: مما يذيب الشخصية ويمنع التفرد [8].

5- البيئة المثبطة: التي تقتل المواهب ولا تعترف بالإبداع [9].

6- الانبهار بالنفس: حيث تتحول الموهبة من رسالة إلى أداة غرور [10].

سابعًا: برامج عملية لتجاوز معوّقات اكتشاف الذات

1- برنامج المحاسبة اليومية: مراجعة النفس مساءً وكتابة الدروس المستفادة [11].

2- برنامج التدرج في مواجهة الخوف: ممارسة الموهبة تدريجيًا لتقوية الثقة [12].

3- برنامج الصبر والمثابرة: ربط الموهبة بالرسالة العليا واستحضار قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾[النحل: 127].

4- برنامج التحرر من التقليد: توسيع دائرة القراءة والتأمل الحر [13].

5- برنامج البيئة الحاضنة: اختيار صحبة إيجابية وداعمة (حديث: المرء على دين خليله).

6- برنامج التزكية الروحية: إخلاص النية لله ومجاهدة العجب [14].

الخاتمة

إن اكتشاف الذات ليس رفاهية فكرية، ولا نزوة من نزوات التنمية البشرية، بل هو فريضة وجودية، لأنه المدخل لمعرفة الله ورسالتنا في هذه الحياة. ومن ضيع ذاته فقد ضيع عمره، كما قال الحسن البصري: “ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك”.

فلنسعَ جميعًا إلى الغوص في أعماق ذواتنا، نستنطق مواهبنا، ونحسن توظيفها، لنكون عبادًا لله بحق، وعمارًا للأرض بصدق.

المراجع
1. أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين.
2. عبد الكريم بكار، اكتشاف الذات: دليل التميز الشخصي، دار وجوه، 2011.
3. ابن القيم، مدارج السالكين.
4. ابن تيمية، مجموع الفتاوى.
5. فريد الأنصاري، الفجور والنهضة، دار السلام، 2008.
6. ابن القيم، الفوائد.
7. الإمام الشافعي، ديوان الشافعي.
8. عبد الكريم بكار، تكوين المفكر.
9. سعيد النورسي، رسائل النور.
10. أبو حامد الغزالي، جواهر القرآن.
11. عبد الرحمن حبنكة، المفصل في التربية.
12. ابن تيمية، الفتاوى الكبرى.
13. عبد الكريم بكار، العيش في الزمان الصعب.
14. الغزالي، ميزان العمل.