“ما بك يا محمد ابن أبي جمال؟! ما هذا الجدار العالي من الصمت والسكون الذي يقف أمام حروفك ويوقفها عن النبض؟ فأنت منذ شهرين لم تفتح دفترك للشمس، ومنذ شهرين وأكثر وقلمك لم يتنحنح، لم يتنفس هواء الغرفة، ولم يشرب من شارع الحياة غرفة!”
ينادي محمد ابن أبي جمال بصوت مخنوق: افتح يا سمسم.
لكن جدار الصمت في دمه وحول روحه يتطاول ويرتفع أكثر.
يمشي محمد ابن أبي جمال على غير هدى في زقاق قاتمة جافة مترهّلة تحتضن حارة “دير الشر”، ثم يجر ساقيه في شارعها الغارق بالبؤس بحثًا عن قصة يقيم بها أود قلمه.
يصيح محمد ابن أبي جمال: افتح يا سمسم! افتح يا سمسم!
فيتردد الصدى برعونة ورخاوة بين البيوت المتلاصقة التي تمددت على بساط من خيوط عرق الزحام والفقر واليأس. تتفحصه عيون المارة، تلقي عليه التحيات، تسأله بحبّ حينًا وبغضب حينًا: “لماذا أتيت؟ من زمان هالقمر ما بان! عمّ تبحث يا ابن أبي جمال؟”
تشده يد من ناصيته إلى مصطبة دارٍ خربة توكأت جدرانها على أسنان الدهر، وتشقق سقفها على فخذي حياة قاسية. فيجلس من غير حراك على حصيرة بلاستيكية، يرسل يديه لتلتقطا حبات التوت التي ابتسمت له بحب، يرسل جسده ليتأرجح قليلاً على غصن وفيٍّ يلوّح له.
تناوله عيون فرحة فنجان قهوة، يسكبه في فمه بعنف، يبعث عينيه في المكان المعتّق الرابض على أطراف ابتسامة ذكرى، وينادي بصوت مكسّر: افتح يا سمسم، افتح ياااااسممسسم…
صوت فخم خشن من الأعماق يطرق ذاكرته، يرتطم بناصية البناية العالية التي تحاول كبح جماح الحنين في دمه. قفزات أنثوية فوق الحبل تشعل الروح: “شبره أمره استفتوحة.”
“من هنا أبدأ قصتي، من مريول المدرسة، والحبل…”
صوت طالبات المدرسة يتغرغر بدماء أفكاره من جديد: “بيبوح يا بيبوح/ قلب العرب مجروح/ يلوح ما بيلوح/ أمو وراه بتجوح/ بتقول يا ولدي/ جيب لي معك بقرة/ بقرة حلّابة/ تحلب وتسقيني/ والرب معطيني/ معطيني طير أخضر/ بمشي وبتمختر/ يا ريتني زرته/ زرته سبع مرات/ روحت عند أختي/ لقيتها بتبكي/ مسحت دمعتها في طرف شلحتها/ شلحتها شامية/ على الحيط مرمية/ سرقوها الحرميّة/ من تحت النملية…”
يقف محمد ابن أبي جمال على عتبات الأغنية، يجتث العشب العالق على لسان الحروف، فتمشي على أنامله دغدغات يانعة من ياسمين، وأغنيات شقية لبنات حارته وهن يلاعبن النهار بحب ليمضي بسلام فيغنين بفرح: “يا مدارس يا مدارس/ شو أكلتو؟/ ملبس خالص/ والملبس بالكوباية/ أشكرك يا معلمتنا/ عن نظافة مدرستنا…/ أجا بابا من إسطنبول/ حاكاني حكي تركي/ خلّى عويناتي تبكي…”
“على هذا الغصن تأرجحت طفولتي بين الواقع والخيال والحلم والحقيقة… الظل هو الظل يا محمد! وعلى كتفي هذه المصطبة أطراف خيوط لقصص بدأت ولن تنتهي، لقصص برائحة عالقة بدمك، تطرق أبواب ذاكرتك.”
ينتظر محمد ابن أبي جمال بشغف ولهفة على أهداب المصطبة أن يفتح الفنجان أبواب السرد لقلمه وحروفه، لكن الجدار الجاف ارتفع أكثر وأكثر، وازدادت وشوشات الغبار في دمه.
يصرخ محمد ابن أبي جمال: افتح يا سمسم! افتح يا سمسم!
أيدٍ قاسية ثبّتته إلى الأرض، وعلّقته من عينيه ولسانه على منصة رمادية. صهيل في دمه يقف على السطر عند خط أحمر يتمدد على حرفين ونبضة. همس متوحش يرفع رأسه من بين هديل حمام، يظل يطرق زوايا ذاكرته، فتنفتح الحارة كلها أمام روحه: بائع العصير وهو يمهد الطريق لليالي رمضان، بائع الهريسة وهو ينفض الغبار عن “اللوكس” ذي الشنبر، ياسمينة العسل وهي تمشط شعرها على ضحكة شمس الصباح، بائع الخضار وهو ينادي بصوت تجمعت على وجنتيه أنفاس التعب كلها على خيط معيشة ضنكًا: “بطاطا… بندورة… خيار… ملوخية… يلا يا بامية…”
“آه! عربة الخضار! قف هنا يا محمد، قف على زاوية الزقاق حيث ركن أبوك عربته وبدأ بالمناداة…”
تدور عجلات عربة الخضار في دم محمد، تنتشر رائحة البرتقال في أنفاسه، يحتضن نبضه صوت أبيه، فيغمس القلم بروحه، وينحني على السطر…
“عمّ تبحث يا محمد، والقصص كلها في دمك تبدأ من حيث جلستَ هناك على عتبة بيتك؟ والحياة كلها تجمعت على يدي عربة أبيك وهما تمتصانه، وتلقيانه في أتون آهٍ طويلة من التعب والوجع؟”
يمسك محمد ابن أبي جمال الورقة، يمددها على الطاولة بقوة وقسوة، يشد القلم من عينيه ولسانه، ويكتب على السطر المتلهف للحياة: “عرفت الآن من أين يبدأ الحرف مشواره فوق السطر. من هنا، نعم من ناصية الشارع عند رأس الزقاق الضيق تبدأ القصص كلها، من تحت عجلات عربة الخضار التي كانت تمتص حياة أبي. وهذا القلم مفاتيحه كلها تبدأ من حيث سكب أبي أول آهاته…”
رعدة تسري في جسد محمد ابن أبي جمال المنتشي بإمساك طرف خيط. ويصفعه سؤال من طين وندى: “عرفت بطل قصتك، ومكانها، وزمانها، فما بال حروفك تهرب من السطر لتختبئ في ظلال عربة مثقلة بأحمالها، وتتكور داخلها؟!”