سيكولوجية الحب

قيل عن الحب، إنه عالم من المودة والصلة والأنس والرضا والراحة، وهو عاطفة من الأمل والفأل الحسن والأمس الجميل واليوم الحافل، وهو الغد الواعد. كما قيل عنه أيضًا إنه رحلة في عالم التآلف والتآخي، والتكاتف والتفاهم، والتضامن والتعاون.

والحب عبارة عن مجموعة من العواطف والتجارب، التي تعلقنا بإحساس المودة القوية أو الوحدانية العميقة، وهو ارتباط معنوي غريب يربط بين شخصين، وعندما نسمع كلمة “حب” تتداعى الذكريات القديمة، وتثور داخلنا المعاني الجميلة، وتحضر المواقف المشجية، وتستعاد النفوس شبابها، والقلب أمله، والروح إشراقها.

وبالحب تدمع الأعين وتحزن القلوب، والحب يجعل النائم يثور من فراشه الدافئ الوثير، والحب، على غرار الجاذبية، تتحرك بواسطتها الأفلاك، وتتصاحب الكواكب، وتتآلف المجموعات الشمسية، فلا يقع بينها أي خصام أو قتال. وبالحب تتآخى الشموس في المجرة، فلا صدام بينها. وهناك من شبّه الحب بأنه مثل الكهرباء، تسري في الأسلاك، ليظهر النور، وتتضح المعالم.

انفعالات كيميائية بالجسم والمخ

هذا، وقد شغل الحب نفرًا من العلماء خلال العقود الماضية، وعلى وجه الخصوص علماء النفس (سيكولوجي)، للبحث عن صيغة تعريفية واضحة لذلك الانفعال الغريب. ومن وراء أولئك العلماء، قامت العديد من المؤسسات العلمية الرزينة، بدراسة العديد من الانفعالات المختلفة للحب.

ومن ثم توصلت في نهاية المطاف إلى عدد من النتائج المثيرة، أولها أن الحب كتجربة، مثل غيره من الانفعالات الطبيعية النفسية، هو نتاج طبيعي لانفعالات كيميائية تحدث بجسم الإنسان ومخه، نتيجة لارتفاع بروتين معين بالجسم يُعرف بـ (نيروتروفينز).

كما وجد الخبراء أن الدوائر العصبية تتوقف عن العمل بصورة طبيعية حين نخوض مشاعر الحب، ما يسبب عدم التقييم الصحيح للأشياء، لذلك السبب تحديدًا نجد العديد من الأشخاص يتغاضون عن أخطاء من يحبون، بل ويبررون لهم أحيانًا أخطاءهم.

حتى مشاعر القلق على من نحب، تم ربطها بكيمياء المخ، إذ إن أغلب التحاليل أشارت إلى أن السبب الرئيسي في ذلك هو أن هرمون “تيستوستيرون” يمكنه أن يتسبب في تدمير بعض المواد الأساسية، التي قد تسبب حالات القلق المختلفة لدى العشاق.

نشوة أو يأس

إن الوقوع في الحب يُعد من التجارب العاصفة الأكثر إثارة، وهو يكون مبهجًا وأحيانًا أخرى يكون محفوفًا بالمخاطر، لأنه قد يستنزف العواطف ويسبب الإرهاق. والوقوع في الحب هو التكلفة الأولية للشعور بالسعادة، لذلك على المرء أن يتحمل الشدائد للوصول إلى العلاقات التي يمكنها تحقيق آماله المرجوة.

وفي كثير من الأحيان، تختطف مدة الوقوع في الحب الأدمغة، بصورة قد تسبب النشوة أو اليأس. وعلى الرغم من ذلك، فإن الثابت علميًّا أن الحب الرومانسي هو أحد أفضل الشواهد الدالة على السعادة.

وبحسب علماء النفس، فإن سر السعادة لا يكمن في الوقوع في الحب، بل الاستمرار فيه. وذلك لا يعني مجرد التمسك ببعضنا البعض بصورة قانونية، حيث تشير البحوث إلى أن الزواج لا يشكل سوى (اثنين) بالمائة فقط من الرفاهية الذاتية في وقت لاحق من الحياة.

لكن الأمر المهم لتحقيق الرفاهية، هو الرضا عن العلاقة، وهو ما يطلق عليه علماء النفس “الحب المصاحب”، وهو الذي لا يعتمد على التقلبات، وإنما يعتمد على استقرار المودة والالتزام والتفاهم المتبادل بين الطرفين. وعلى ذلك، يؤكد فريدريك نيتشه بقوله: “ليس غياب الحب، ولكن غياب الصداقة هو ما يجعل الزيجات غير سعيدة”.

بينما يؤكد زيغمونت باومان (1925 – 2017م)، عالم الاجتماع البولندي، على أن الناس باتوا يطلقون على تجاربهم الفاشلة في الحب، حبًا كاملًا. وزاد باومان حديثه عن تجربة الحب في كتابه (الحب السائل) بقوله: “الحب والموت، الشخصيتان الرئيسيتان في هذه القصة، قصة بلا حبكة ولا نهاية، بل تكثيف لأغلب صخب الحياة وضجيجها”.

آثار قوية وعميقة بالمخ

من جانبه، يروي دانتي في كتابه (الحياة الجديدة)، قصة إعجابه وحبه العارم لامرأة من فلورنسا، كانت تُدعى بياتريشي، لحظة مشاهدتها أول مرة، وكانت وقتها في عمر (19) عامًا، حيث وقع في حبها من أول نظرة، وظل وفيًا لحبه هذا طيلة حياته.

وبعد سنوات، توفيت بياتريشي، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، وقتها شعر دانتي بحزن شديد وألم نفسي لا يوصف، وأراد أن يخلد حب حياته، فقام بتأليف واحد وثلاثين قصيدة وتعليقًا، تخليدًا لذكرى المحبوبة بياتريشي. ويصف دانتي حزنه العميق على موت بياتريشي، فيستدعي لذلك الصورة المريعة: “صارت المدينة أرملة”.

يقول دانتي في مطلع إحدى قصائده:

كانت أقبلت
على ذاكرتي
السيدة الرائعة التي، لخصالها،
وضعها الرب العلي
في سماء الخشوع، حيث توجد مريم.

كما يدعو دانتي أوفياء الحب إلى البكاء، وينادي الموت ببعض الأسماء الخاصة به، متحدثًا إليه، بل ومحتجًا عليه في صخب، فيقول:

أيها الموت الشنيع،
أيها العدو اللدود للشفقة،
أيها الأصل الأزلي في الألم.
أيها القرار الجسيم المتعذر رده،
أما وقد أعطيت قلبي المحزون عنصرك،
فإنني أمضي، مثقلاً بالهم
ولساني مرهق من لومك.
وإذا أرفض منك كل اعتذار،
فجدير بي أن أقول
جريمتك الحاملة كل الذنوب،
لا لأنه لا يوجد من يجهلها، لكن
كي أثير الذين من الحب يقتاتون.
لقد طردت من هذا العنصر كل لطافة
وكل فضيلة نحمدها في سيدة:
في ريعان الشباب الزاهي
هدمت كل رعاية عاشقة

ومن ناحيتهم، يؤكد علماء النفس أن تجربة الحب الأول ليست وهمًا كما يعتقده الكثيرون، لأنها تجربة حقيقية يعيشها المرء، باعتبارها أول اكتشاف حقيقي، يكون له تأثير قوي على أحاسيسه ومشاعره ومخيلته.

بجانب تركه أقوى الآثار وأعمقها على خلايا دماغه، ما يفسر ثبوت ذكرياته في نفسية من أحب، مهما مرت السنوات، ومهما مرّ بتجارب أخرى.

وهناك عدة دراسات حديثة العهد، أكدت أن الحب الأول يكون له تأثيرات قوية على النفس البشرية، لأن كِبَر حجم المشاعر والخيالات التي يسبح فيها المرء بأول تجربة عاطفية له، تترك بالغ الأثر عليه، لكنها قد تتحول إلى مجموعة ذكريات، عندما يخرج المرء منها بسلام.

بينما تشكل خطورة على أولئك الذين فشلوا في تجاوز تلك الأزمة، وتخطي تجربة الحب الأول، لأنهم دومًا ما يعيشون في أطلاله وهوساته.

معضلة الحب الأول

حسب تأكيدات العديد من خبراء علم النفس، ومن خلال العديد من التجارب، التي تؤكد على أن الحب الأول له تأثيرات أكبر لدى المرأة من الرجل، لأن الرجل في أحيان كثيرة ينجح سريعًا في العثور على حب آخر جديد، ما يجعله ينسى حبه الأول.

وذلك راجع إلى سببين؛ الأول يتمثل في أن الرجل يريد إثبات أنه لا يزال متمتعًا بجاذبيته، والثاني لأنه يحاول دومًا إثبات مدى قدرته على عدم التأثر بانفصاله عن الحبيب الأول.

وعلى العكس من الرجل، فقد تحتاج المرأة، لأنها أكثر إحساسًا من الرجل، إلى وقت أطول للتخلص مما علق بها من آثار تنتج عن الحب الأول، أو حتى قبول ما نتج عنه من خسارة، وفي حالة عدم تخطيه، قد تصاب بنوع من الهوس العاطفي، وما ينتج عنه من آثار مؤلمة.

يُروى أن شاعرًا من المدينة خرج وراء قافلة وهو يبكي، فسُئل عن ذلك؟ قال: معهم جارية أخذت قلبي وذهبت، فكان كلما نزلوا منزلاً سأل عنها، فإذا ارتحلوا ارتحل معهم، وأخذ يُنشد:

وقالوا صَحيرات اليمام وقدموا
ركائبهم من آخر الليل في الثُقل
وردن على ماء العشير والهوى
على ملل يا لهف نفسي على ملل

وها هو أحد الشعراء يبكي على محبوبته، حتى ذهبت عيناه، فقال:

أعيناي كفا عن فؤادي فإنه
من الظلم سعي اثنين في قتل واحد
لقد عميت عيناي من كثرة البكا
لفرقة حب أو لتذكار فاقد

وعن المتنبي، فقد شارك ذلك الشاعر هذا البكاء، فيقول:

قد كنت أشفق من دمعي على بصري
فاليوم كل عزيز بعدكم هانا

الحب الرومانسي أشبه بالإدمان

يمكن للحب الرومانسي أن يشكل حالة تشبه إلى حد بعيد حالة الإدمان، لكنه قد يكون إدمانًا رائعًا، عندما تسير العلاقة في طريقها الصحيح، أو يصبح إدمانًا سيئًا له آثار مروعة، عندما تنهار تلك العلاقة.

إضافة إلى أن إدمان هذا الحب يمكن أن يتطور مع مرور الزمن، فعندما نتأمل الحب الرومانسي، يتضح لنا أن العاشق السعيد دومًا ما يظهر عليه كل سمات المدمن، فالعاشق دومًا ما يتوق إلى الاتحاد العاطفي مع من يحب.

وتلك الرغبة تشكل عنصرًا أساسيًّا في كل أشكال الإدمان، كما يشعر العاشق بنشوة عارمة عندما يفكر في من يحب، وهو شكل من أشكال النشوة.

ومع تنامي هوسه، يسعى العاشق إلى التفاعل مع من يحب أكثر فأكثر، وذلك التفاعل يُسمى في أدبيات الإدمان بـ “التكثيف”، وفي نفس الوقت يفكر العاشق في من يحب بصورة قهرية، على اعتبار ذلك شكلاً من أشكال التفكير المتطفل، الذي يشكل الملامح الرئيسية في إدمان المواد المخدرة، هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، قد يشوه العاشق الواقع من حوله، ويغير أولوياته وعاداته اليومية، أملاً في استيعاب من يحب، وطالما يعمل أشياء غير لائقة، تتسم تارة بالخطورة وتارة أخرى بالتطرف، لإثارة إعجاب من يحب، أو للإبقاء على تواصل دائم معه.

ومن الغريب أن شخصية المرء قد تتغير، ويُسمى ذلك في علم النفس بـ “اضطراب العواطف”، لأن العديد من الذين وقعوا في دائرة الحب، يكونون على استعداد للتضحية من أجل حبيبهم، بل الأكثر غرابة أنهم يصلون إلى مرحلة يمكنهم عندها الموت من أجل حبيبهم.

وعلى غرار المدمن، الذي يعاني حالات الهوس والقلق وعدم الاتزان، حالة عدم تمكنه من الحصول على المواد المخدرة، يعاني أيضًا العاشق من حالات تُعرف بـ “قلق الانفصال” عندما يكون بعيدًا عن الحبيب.

وهناك العديد من المشاكل تبدأ بالظهور، عندما يرفض الحبيب، إذ يعاني أغلب الرجال والنساء المهجورين جملة من المشاكل الشائعة لأعراض الانسحاب من المخدرات، كالاحتجاج ونوبات البكاء والقلق، والخمول والتهيج والشعور بالوحدة الدائمة، واضطرابات النوم (نوم طويل أو عدم النوم)، بجانب فقدان الشهية أو الإفراط في الأكل.

عند التملكي (استغلال واعتمادية)

من المعلوم أن الإنسان منذ طفولته يسعى إلى الأمن، وفي نفس الوقت يخشى فقدان الحب ورعاية الأبوين، وفي حالة قسوة والديه عليه، فإنه يشعر على نحو يُرثى له أن الحبيبين ينبذانه، ويعتقد في قرارة نفسه أن أبويه يعاقبانه لأخطائه.

وعلى ذلك، يتحدث الطبيب والمحلل النفسي البلجيكي بيير داكو (1936 – 1992م)، الذي اعتمد التحليل النفسي الفرويدي لتوضيح الآليات الكامنة (اللاواعية) التي تقف وراء كل الاستجابات السلوكية للإنسان، ليؤكد أن المَنال شابًا يتضرع من الخوف أمام العالم كله رجالًا ونساء، حيث يبدأ في التراجع خوفًا، حتى لا يصبح موضعًا للعقاب، وعلى نفس المنوال يتسع المجال من الخاص، أي الأسرة، إلى العام، أي المجتمع.

وذلك الشخص يتوارى لدى أدنى تقطيب للسلطة، فيمكن أن يصبح منافقًا خالصًا، ويمكن أن يصبح دبلوماسيًا كاذبًا، أو مخادعًا دون أن يدري، وكل ذلك يعني أن عليه الاستمرار في أفعاله، حتى لا يشعر أنه شخص آثم، بأن يطمئن إلى الرأي العطوف للآخرين، وهو ما يُطلق عليه علماء النفس بـ (الإنسان المجتمع التملكي)، الذي يشعر بحساسية شديدة تجاه أي نقد يوجه إليه.

لديه دومًا شعور عميق بأن الخطأ عقابه الهجر والنبذ من السلطة ومن الأب والأم، ما يجعله ينكر ويقاوم أي نقد يوجه إليه بضراوة شديدة، ولا يملك سوى تبني شخصية الأب والأم والسلطة المستبدة، لإكمال مسيرة المجتمع التملكي، وإعادة إنتاج التملُّك.

لذلك، فإن تجربة الحب، بالنسبة لإنسان المجتمع التملكي المشوه نفسيًّا، تكون نوعًا من التعويض والتطفل والاستغلال والاعتمادية، يبحث في المرأة عن أمه، لتحقيق احتياجاته المعنوية والمادية، ولديه رغبة دائمة في أن يكون محبوبًا، حتى مع فقدان القدرة على العطاء.

والمفارقة العجيبة هنا أن التملكي، يكون في حالة شك لا تنقطع أبدًا، كونه جديرًا بالحب! لأن التملكية رسخت بأعماقه نقصه ودونيته، ما يسبب فشله في علاقاته المتعددة، ببحثه اليائس عن الحب.

الهوامش
(1) ضحايا الحب، د. عائض بن عبد الله القرني، مكتبة العبيكان (الرياض) 2011م.
(2) 7 وجوه في الحب، أحمد خالد توفيق، دار ليلى ودايموند للنشر والتوزيع، 2007م.
(3) الحب السائل: عن هشاشة الروابط الإنسانية، زيجمونت باومان (ط1)، تعريب – حجاج أبو جبر، الشركة العربية للأبحاث والنشر (بيروت)، 2016م.
(4) الحياة الجديدة: فيتا نؤوفا، دانتي ألغييري، تعريب – محمد بن صالح، منشورات الجمل (بيروت)، 2009م.