ملامح بنيتنا الاجتماعية والاقتصادية

قراءة تحليلية نقدية للكتاب

صدر عن دار الانبعاث في مطلع عام 2022 الطبعة الأولى لكتاب ملامح بنيتنا الاجتماعية والاقتصادية للمفكر التركي الشهير محمد فتح الله كولن، بترجمة الدكتور عبد الله محمد عنتر، وهو الإصدار رقم (28) في سلسلة كتبها. يضم الكتاب مجموعة من الدروس الوعظية التي ألقاها كولن في المساجد خلال سبعينات القرن الماضي، بالإضافة إلى مقالات حررها لاحقًا، وقد تولى تحقيقه وتخريج مصادره مجموعة من المفكرين والباحثين.

يُعد هذا الكتاب جزءًا من المشروع الحضاري للأستاذ كولن، الساعي إلى “إنشاء جنة على الأرض” عبر توجيه الناس لتنظيم حياتهم الدنيوية والسير في طريق الآخرة المنير.

أولاً: نبذة عن المؤلف

محمد فتح الله كولن، مفكر وعالم تركي، وُلد عام 1938 في قرية بمحافظة أرضروم التركية. نشأ في بيت علم ودين؛ فقد تلقى تعليمه الأولي في القرآن وهو دون الرابعة، وختمه خلال شهر واحد. تعلم اللغة العربية والفارسية، ودرس النحو والبلاغة والفقه والعقيدة على يد كبار العلماء، أبرزهم الشيخ عثمان بكتاش.

تأثر برسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي، واطّلع لاحقًا على الفلسفات الغربية والشرقية، وقرأ في العلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء والفلك. عمل إمامًا وهو في العشرين من عمره، وعُرف بزهده وورعه وانقطاعه للعلم والدعوة.

بدأ دعوته العلنية من جامع “كستانه بازاري” بمدينة إزمير، ثم صار واعظًا متجولاً يلقي الخطب والمحاضرات في شتى أنحاء تركيا، وكان يؤكد فيها على تزكية النفوس وربط الناس بالله. منذ تسعينات القرن العشرين، انطلق بمشروع حواري عالمي بين الأديان والثقافات، قائم على التسامح والانفتاح، رافضًا العنف والصدام، وقدم الإسلام بوصفه دين سلام وتعاون عالمي.

جوهر مشروعه الفكري والاجتماعي

تتمحور فلسفة حركة كولن (المعروفة بـ”الخدمة”) حول بناء مجتمع إسلامي ملتزم روحيًّا، ومتقدم علميًّا وتكنولوجيًّا، يدمج بين الحداثة والتدين، والقومية والتسامح، والديمقراطية والانفتاح. ويرى أن العلل الكبرى في المجتمعات الإسلامية هي: الجهل، الفقر، والفرقة، وقد كرّس حياته لمحاربتها من خلال مشروع تربوي متكامل.

دعا كولن إلى:

  • نشر العلم والمعرفة لمواجهة الجهل.
  • التضامن الاجتماعي والاستثمار في التعليم لمحاربة الفقر.
  • الحوار والتفاهم لتجاوز الفرقة والنزاعات.

ركز كولن على بناء الإنسان الصالح، الذي يجمع بين الجذور الروحية والانفتاح على العالم، لتقديم نموذج المسلم المثالي الذي يسهم في نهضة أمته ويساهم بفعالية في بناء حضارة إنسانية مشتركة.

ثانيًا: عرض أبرز مضامين الكتاب وأفكاره

جمع هذا الكتاب، الذي يقع في (463) صفحة، سلسلة من الدروس الأسبوعية المتفرقة والمقالات التي كُتبت خلال فترات زمنية مختلفة لمؤلفه الأستاذ محمد فتح الله كولن، وقد حوى الكتاب بعض الضوابط الأخلاقية في الاقتصاد، مثل: أهمية العمل، وتحري الحلال فيه، والجهد الصادق، وعرق الجبين، ومراعاة معايير العدالة.

كما تطرق الكتاب إلى موضوعات متنوعة، مثل مسألة أخلاق السوق والتجارة، وضرورة التمسك بالقيم الإنسانية العالمية، وعالمية الدين الإسلامي، واستغلال المصادر المادية على الوجه الأمثل والصحيح، والاستفادة من نعم الله تعالى دون إسراف أو تبذير، والتوازن في عمليات الإنتاج والاستهلاك، وتحري أوامر الله ونواهيه في كل هذه الأمور، واحترام الحقوق التي تتعلق بالإنسان لكونه إنسانًا، أي تلك الحقوق التي تتعلق بذاتيته، وتلزمه، ولا تنفك عنه، وتأثير الإيمان والأخلاق في الحياة الإدارية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والالتزام بالضوابط الخاصة بأخلاق الوظيفة، ويُقصد بها مراعاة العامل والموظف، وصاحب العمل للقواعد والمعايير الأخلاقية، وقيام الحياة الفردية والاجتماعية على الحكمة والاعتدال دون إفراط أو تفريط.

وقد اشتمل الكتاب على: مقدمة، وفصلين، ثم الخاتمة، مع عرض للأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب، وأخيرًا المصادر التي رجع إليها هذا العمل. وسوف نعرض بالتفصيل محتوى الكتاب وتحليله، وذلك على النحو الآتي:

1- مقدمة الكتاب

تضمنت المقدمة، التي أعدّها الأستاذ الدكتور إسماعيل أوزوسوي، عرضًا للهدف من هذا الكتاب، والمتمثل في التأسيس لمجتمع “الجنة على الأرض”، من خلال بناء المقومات الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، واستخلاصها من خلال سلسلة الخطب والمقالات للأستاذ فتح الله كولن. وقد جاءت المقدمة في (12) صفحة.

أشارت المقدمة إلى أن الكتاب استند إلى أربعة مصادر رئيسة هي:

  • القرآن الكريم: الذي يمثل المصدر الإلهي.
  • السنة النبوية المطهرة: والتي تمثل التطبيق العملي للقرآن الكريم.
  • الإجماع: وهو اتفاق علماء الأمة على حكم من الأحكام.
  • القياس: وهو إلحاق واقعة غير منصوص عليها بأخرى منصوص عليها لاتفاقهما في العلة.

وهذه المصادر كفيلة بضمان سلامة أفكار الكتاب، وهي نفس المصادر التي اعتمد عليها علماء الأمة وفقهاؤها على مرّ العصور، ويشير هذا التنوع إلى انفتاح مؤلف الكتاب ومرونته، وسعيه لإحداث توازن في معالجة قضايا العصر ومتغيراته.

كما أشارت المقدمة إلى نظرة الكتاب في أهمية الرحمة والتسامح في التعامل مع بني الإنسان، والمساواة بين جميع الأفراد والمجتمعات في الحقوق، وأهمية حفظ النفس والمال والعِرض لجميع الإنسانية دون استثناء، مما يُبرز أهمية التعايش بين أصحاب العقائد والملل المختلفة، كما كان الحال في المجتمع العثماني، حيث التعايش بين المسجد والكنيسة والمعبد اليهودي، والذي قام على المساواة والعدالة والوحدة والتضامن والأمان.

ومن جهة أخرى، أوضحت المقدمة أهمية التعامل مع الإنسان كفرد قائم بذاته، له بنية وميول فطرية ونقاط ضعف، مع التأكيد على قيمته كإنسان. كما شددت على أهمية بناء مجتمع سليم يقوم على بنية أسرية متماسكة، وتوفير بنى اجتماعية واقتصادية قوية تُمهد الطريق لإنشاء “مجتمع الجنة” الذي تنعم فيه البشرية كافة.

وأشارت المقدمة إلى أولوية البنية الاجتماعية على البنية الاقتصادية، مستندة إلى أدلة تاريخية تثبت أن المجتمعات السليمة بنيويًّا تستطيع التغلب على المشكلات الحتمية الناجمة عن طبيعة الإنسان وتقلبات العالم.

ويراعي الكتاب التوازن بين بعدي الدنيا والآخرة؛ فالدنيا، رغم أنها ممر، إلا أنها تمهيد للآخرة، لذا فإن السعي والعمل فيها مطلوبان، ولا بد أن تُنظم الحياة الدنيوية على ضوء الحياة الأخروية. ويؤكد الكتاب على أهمية المسار الاقتصادي في حياة الإنسان، والحاجة لتحقيق أقصى درجات الرفاهية الاقتصادية، مع الحث على العمل والكسب، وأهمية عدالة توزيع الدخل والمساواة، مع التأكيد على أن مرضاة الله تظل القيمة العليا التي تعلو فوق جميع القيم.

وتنبه المقدمة إلى أن بعض القيود المفروضة على سلوك الفرد تهدف إلى رعاية مصالح المجتمع، وتحرير الإنسان من شهواته، أي إنها تهدف إلى منحه الحرية الحقيقية.

كما احتوى الكتاب على صفحة توضيح من المؤلف الأستاذ محمد فتح الله كولن، تتضمن عرضًا موجزًا لفكرة الكتاب، والذي جاء تجميعًا لخطب ومقالات أُلقيت منذ السبعينات، ثم توالت في فترات لاحقة، وتسعى جميعها إلى التأسيس للمشروع الحضاري الذي ينشده المؤلف، والمتمثل في إنشاء مجتمع الجنة على الأرض، القائم على بنية اجتماعية متماسكة، وبنية اقتصادية تُراعي الضوابط الأخلاقية للاقتصاد.

2- الفصل الأول: المقومات الأساسية للبنية الاجتماعية

تضمن الفصل عرضًا لـ(12) مقومًا للبنية الاجتماعية الإسلامية، أبرزها: الجمع بين العقيدة والعمل، الحق والعدالة، محاربة الطبقية، متانة الروابط الاجتماعية، وأهمية الصبر والأمل والكفاح. كما ناقش التسامح مع المنكرات وخطورته، وأهمية الأمر بالمعروف لتحقيق التوازن المجتمعي.

توسع المؤلف في الحديث عن الصراط المستقيم والنبوة، وخصائص المجتمع القرآني، وقيمة الإنسان في التصور الإسلامي، وأهمية توقير العلم والعلماء، واحتواء الإنسان روحًا وجسدًا.

تطرّق أيضًا إلى أركان البنية الاجتماعية: طهارة الوجدان، والمساواة أمام القانون، والتكافل، والتساند، والتعاون، وهي قيم تتقاطع مع المواثيق الدولية.

كما تناول أهمية الأسرة كحاجة فطرية، وأساس لتكوين مجتمع سليم، إضافة إلى الحديث عن مقاصد الشريعة في حفظ النفس والعقل والنسل والمال. واختتم الفصل بعرض العلاقة بين الحاكم والمحكوم، مستشهدًا بأقوال العلماء كابن القيم.

3- الفصل الثاني: البنية الاقتصادية

تطرق المؤلف إلى الأنظمة الاقتصادية، وأصالة الاقتصاد الإسلامي، وركائزه الأساسية، مثل: الملكية، الإنتاج، توزيع الدخل، العمل، رأس المال، الأجر، والبنية التجارية.

تناول قضايا مثل المقايضة، السَلَم، الاحتكار، العدالة، المضاربات، الإغراق، الربا وتاريخه، الفارق بين الربا والاستثمار، والمصارف غير الربوية، وبيت المال ووظائفه.

وقد أُدرج ضمن هذا الفصل موضوع “العثمانيون والعالم العربي”، رغم تعلقه أكثر بالبنية الاجتماعية، مما يقترح إعادة ترتيبه مستقبلاً.

يبرز في هذا الفصل الجهد المبذول في معالجة قضايا الاقتصاد المعاصر من منظور إسلامي أخلاقي، وتحديث لغة الخطاب الديني بما يلائم التحديات الراهنة.

النتيجة

يختم المؤلف بأن الإسلام دين عالمي ديناميكي، يظهر أثره في التطبيق والمعايشة، ويركز على الإنسان بوصفه حجر الزاوية في بناء المجتمع. ويؤكد على غرس القيم في ضمير الفرد لتحقيق السلام والعدالة، ودعوة مفكري العصر إلى التمهيد لهذا المناخ الإنساني.

تعقيب عام

1- البنية الفكرية للكتاب تتأسس على مصادر الشريعة الإسلامية المتفق عليها.

2- اللغة ميسّرة، والطرح يجمع بين الأصالة والمعاصرة.

3- اتسم الكتاب بتوازن واضح بين الجوانب الدنيوية والأخروية، والفردية والمجتمعية.

4- يسعى المؤلف لتقديم مشروع حضاري عصري يقوم على الشريعة.

5- يُظهر الكتاب اطلاعًا واسعًا على العلوم الشرعية والدنيوية، وانفتاحًا على الثقافات المختلفة.

6- يشدد المؤلف على أهمية التربية القيمية للفرد وأثرها المجتمعي والعالمي.

الخلاصة: يُعد هذا الكتاب عملاً فكريًّا مميزًا، متماسكًا في خطه ومنطقه، يسعى لتأسيس مجتمع إسلامي حديث، منفتح على العالم، ومتوازن في رؤيته للإنسان والمجتمع، ويقدم خطابًا دينيًّا متجددًا يلامس مشكلات العصر. ومجتمعاتنا اليوم في أمسّ الحاجة لمثل هذه المشاريع الفكرية الرصينة في ظل ما تواجهه من تحديات.