من الطبيعي أن يواجه الإنسان في حياته مواقف صعبة وتحديات كبيرة قد تسبب له التوتر، لكن الحياةَ لا تستقيم ولا تهنأ بكثرة اللوم، وليس من الحكمة أن يسمح الإنسان لكل ما يمر به أن يُقلقه أو يُرهق مشاعره ويستنزف طاقته على أمور صغيرة لا قيمة لها؛ لذلك نبّه العقلاء على ضرورة وجود مبدأ في التعامل بين الناس بعضهم مع بعض حتى تسير الحياة في راحة وهدوء ومحبة، ألا وهو فن التغافل. ويجب الانتباه إلى أن التغافل ليس ضعفًا في الشخصية أو وهنًا في القوة، بل هو سمو في الذات، وطموح في الآمال، وعلو في السعي نحو الكمال. وهو من سمات تمام الثقة بالنفس، فالشخص المتغافل يترك الكثير ويتغاضى عن السفاسف في الأقوال والأفعال لكسب القلوب، ورص الصفوف، واجتماع الكلمة. وهو من فنون الحياة، ومهارة اجتماعية ذكية قد لا يتقنها الجميع.
مفهوم التغافل
التغافل لغةً: تغافل يتغافل تغافلاً، فهو متغافل، والمفعول متغافَل عنه. ويقال: تغافل فلان: تظاهر بالغفلة أو تعمّدها.
ولا يخرج المعنى الاصطلاحي للتغافل عن المعنى اللغوي، حيث إن التغافل اصطلاحًا يعني: أن تغضّ الطرف عن الهفوات، وألا تحصي السيئات، وأن تترفع عن الصغائر. ولقد قالت العرب قديمًا: ليس الغبي بسيدٍ في قومه … لكن سيد قومه المتغابي.
ويمكننا تعريف فن التغافل في الوقت الحاضر بأنه: التعامل مع المواقف المزعجة أو التصرفات السلبية بتجاهل متعمّد، مع وعي تام بها، بهدف تجنّب ردود الفعل التي قد تزيد من تفاقم المشكلات أو تؤدي إلى توتر العلاقات. وهو سلوك يدل على النضج والحكمة، ونوع من التسامح الذكي، ويتيح للفرد الحفاظ على استقراره النفسي وعلاقاته الاجتماعية دون تضخيم الأمور الصغيرة.
الفرق بين التغافل والتجاهل
لا بد من التمييز ومعرفة الفرق بين التغافل والتجاهل، حيث إن التغافل ينتج عن وعي بالخطأ أو التصرف غير المناسب، لكن يتم تجاوز ذلك بحكمة، لأسباب تتعلق بالحفاظ على العلاقة أو السلام النفسي، فهو رسالة ودّ واحترام.
أما التجاهل، فهو عدم الاهتمام بشيء معين أو عدم ملاحظة أمر ما، عن قصد أو غير قصد، وغالبًا ما يكون متعمّدًا دون إدراك للعواقب، فهو دلالة إهمال وازدراء.
وقد قيل: إن التغافل يكون من شخص لشخص محب أو ذي قرابة ونسب، كأن يرتكب من نحب خطأ فنتغافل عنه كأنه لم يفعله. أما التجاهل، فيكون مع من نصادفهم في حياتنا العابرة، ممن أساء وأخطأ، فنتجاهله كأنه لا يعني لنا هذا الشخص شيئًا.
فوائد فن التغافل
نتيجة الاحتكاك والمخالطة بين البشر تقع بينهم عثرات وزلات، تكون مقصودة أحيانًا وأخرى من غير قصد، وتتفاوت مواقف الناس مع أخطاء الآخرين وإساءاتهم:
-
فمنهم من يضخّم الإساءة وينفخ في نارها، فتنقطع العلاقات وتتفكك الروابط، وينعدم التواصل المجتمعي.
-
ومنهم من إذا تعرض لزلة أو إساءة عفا وسامح، لحسن خلقه، وطيب نفسه، وكرم ذاته.
-
ومنهم من يتعمد ترك الزلات، والإعراض عن الهفوات، ويتقصد غض الطرف عن الإساءات، رغبةً منه في استمرار الحياة والمحافظة على العلاقات.
فالتغافل يساعد على تجنب الخلافات والحفاظ على علاقات ودّية، ويقلل من احتمالية نشوب الخلافات، ويحقق الراحة النفسية، ويقلل من التوتر والضغط النفسي، ويزيد من قدرة الإنسان على التسامح مع الآخرين وتقبّلهم، ويعمل على زيادة الإنتاجية في العمل بتجنب التركيز على الأمور السلبية أو المشكلات الصغيرة، وتوجيه طاقة الفرد نحو الأمور الأكثر أهمية.
ولكل شيء مقومات ودعائم تؤسس له، ومن أهم مقومات فن التغافل:
-
الوعي الذاتي: فيجب أن يكون لدى الشخص وعي بقدراته العاطفية وقدرته على التحمل.
-
الصبر والحِلم: لتجنب ردود الأفعال السريعة والتعامل بهدوء.
-
القدرة على الفصل بين المهم وغير المهم.
-
التمييز بين الأمور الكبيرة التي تستدعي التدخل والصغيرة التي يمكن التغافل عنها.
-
التمييز بين الهفوات التي يمكن التغاضي عنها والأمور التي تحتاج إلى حزم.
ولا بد من التغافل عن الأخطاء البسيطة في العلاقات الاجتماعية والحياة الزوجية، فالأزواج غالبًا ما يواجهون مواقف صغيرة قد تتسبب في الخلاف، لكن التغافل عن هذه المواقف الصغيرة يعزز التفاهم والمحبة بين الزوجين.
ومن المهم التغافل عن التصرفات غير اللائقة في العمل، مما يُجنب وجود النزاعات في بيئة العمل، ويزيد من التعاون بين أعضاء الفريق، ويساهم في خلق جو من الثقة والاحترام.
مع أهمية التغافل عن سلوكيات الأبناء التي لا تستدعي عقابًا مباشرًا، حيث يجب على الوالدين تعلم التغافل عن بعض التصرفات الطفولية أو الأخطاء التي قد يرتكبها الأطفال في سياق نموهم، ذلك أن التغافل المتزن يساعد على تعزيز الثقة لدى الأبناء وتطوير شخصياتهم دون أن يشعروا بالتوبيخ المستمر.
وأخيرًا، فإن التغافل عن الزلات العفوية بين الأصدقاء والأقارب يعزز من وحدة النسيج الاجتماعي والتفاعل المجتمعي.
أنواع التغافل
1- التغافل الشخصي: بأن نعتبر أن الشخص وكأنه غير موجود، حتى ينتبه ويعود لرشده ويعتذر عما بدر منه. وقد قيل: إن القليل من التغافل والتجاهل لفعل شخص ما يعيد ذلك الشخص إلى حجمه الطبيعي.
2- التغافل عن الذكريات والمواقف المؤلمة: حيث نجعلها وراء ظهورنا، ولا نفكر فيها كثيرًا، ونبدأ صفحة جديدة في حياتنا، وننطلق نحو الحياة الجديدة والأمل المشرق.
3- التغافل السلوكي الهادف: ربما يكون السلوك غير لائق، عندها يجب أن نتذكر ما فعله النبي ﷺ مع ذلك الأعرابي الذي شدّ ثوب النبي ﷺ، فعن أنس قال: “كنت أمشي مع رسول الله ﷺ وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله ﷺ وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ﷺ، فضحك، ثم أمر له بعطاء”.
لكن من الأهمية أن نشير هنا إلى أن ليس كل سلوك خاطئ يُفضَّل تجاهله، فمواقف التعدي على الغير أو انتهاك حقوق الله تستلزم التدخل المباشر الحكيم.
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
كيفية إتقان فن التغافل
التغافل فن اجتماعي مهم للحفاظ على العلاقات الإنسانية وحل الخلافات الصغيرة قبل أن تتفاقم، سواء أكانت في الأسرة أو العمل أو المجتمع، فمن خلال التغافل يمكن للإنسان تجنب الكثير من الخلافات والمشاحنات التي قد تؤدي إلى توتر العلاقات، كما يُسهم التغافل في تعزيز التفاهم والانسجام ويساعد في الحفاظ على السلام الداخلي، مما يجعله وسيلة لحياة أكثر سعادة وارتياحًا. ويمكن تعلم وإتقان فن التغافل من خلال الخطوات الآتية:
1- التحكم في ردود الأفعال: فالإنسان يتعلم كيفية ضبط النفس والتحكم في ردود الأفعال تجاه المواقف التي قد تثير الغضب أو الإحباط، والتدريب على الصبر وضبط النفس، حيث إن إتقان فن التغافل يتطلب الصبر على تصرفات الآخرين وعدم التسرع في الرد أو الحكم.
2- قبول الواقع المفروض على الفرد: فالأشخاص في الحياة لا يتشابهون دائمًا في الأخلاق والوعي والمبادئ، ولن تكون تصرفاتهم وردود أفعالهم واحدة في معظم الأحيان، ويمكن للإنسان بعد معرفتهم وتجربتهم توقع تصرفاتهم وأفعالهم، مما يُسهم في التقليل من الصدمات وإنجاح العلاقات الاجتماعية.
3- الوعي: فكلما ازداد وعي الإنسان ازدادت قدرته على التغافل، وتتمثل هذه المهارة بترفعه عن المشكلات، ويتسامى عن إرهاق نفسه وإهدار وقته ومشاعره على أمور لا تستحق، ولا يأخذ موقفًا حازمًا إلا فيما يستحق الاهتمام.
4- ضرورة عدم التدقيق على المواقف الحياتية غير المهمة: وتفعيل مبدأ التسامح وتجاهل الأمور السلبية والتركيز على الأمور الإيجابية، فالتعامل مع أخطاء الناس يجب أن يكون عابرًا، حيث لا يقف الإنسان في تعامله مع الآخر عند صغائر الأمور؛ لأن لدى الفرد ما يستحق أن يستثمر طاقته من أجله، ولعل إدراك أن بعض الأمور ليست ذات أهمية كبيرة تستحق الانشغال بها، والتسامح في بعض الأمور الصغيرة، هو مفتاح للتغلب على الكثير من المشاكل.
5- التفرقة بين الأمور الكبيرة والصغيرة: فلابد من التركيز على الأمور المهمة فقط وترك الأمور الثانوية التي قد لا تؤثر على المدى الطويل.
موقف الإسلام من التغافل
الإسلام يدعو إلى التسامح والعفو، وهو أمر مرتبط بفن التغافل، فالتغافل يُعتبر نوعًا من الترفّع عن الزلات الصغيرة وحسن الخلق، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في العفو والتسامح، وكان يحرص على التعامل بحلم مع الأخطاء، وبيّن عليه الصلاة والسلام أهمية التحكم في النفس والتغافل عن الأمور التي تثير الغضب، فقال: “ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”.
ودعا القرآن الكريم إلى الإحسان في التعامل مع الآخرين والتغافل عن الأخطاء، فقال تعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾(آل عمران: 134)، فالمسلم يتغافل عن هفوات المسلمين كلهم، فلا يتوقف عند كل صغيرة، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾(القصص: 55)، والتغافل من علامات الحكمة وصفات عباد الرحمن، كما قال الله في وصفهم: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾(الفرقان: 63).
ولقد سمع النبي يوسف عليه السلام كلمة نابية قاسية يومًا، ووصفوه بأنه يسرق، فأعرض عن قولهم كأنه لم يسمعه، ولم يعاتبهم أو يعاقبهم، وهذا من باب الحكمة والصبر والتغافل عن سفاسف الأقوال. ولا يزال التغافل عن الزلات من أرقى شيم الكرام، فالعاقل الفطن يتغافل عن بعض الأخطاء والزلات ويبذل جهده ويسعى في إصلاحها ومناصحة أصحابها. وكان هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام التغافل في كثير من المواقف، ومنها ما جاء في الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾(التحريم: 3).
فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة رضي الله عنها ببعض ما أخبرت به عائشة رضي الله عنها معاتبًا لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وتكرمًا.
حقيقة إن التغافل أدب إسلامي ومبدأ يأخذ به العقلاء في تعاملهم مع سائر أبناء المجتمع، وقد قيل للإمام أحمد رحمه الله: “العافية عشرة أجزاء، تسعة منها في التغافل”. فقال: “العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل”.
أقوال العلماء عن التغافل
لقد أشار الشافعي – رحمه الله – إلى أن الإنسان العاقل يدرك ما يدور حوله، ولكنه يختار التغافل عند الضرورة، بقوله: “الكيس العاقل هو الفطن المتغافل”.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: “ما زال التغافل من فعل الكرام”.
وقال معاوية رضي الله عنه: “العقل مكيال، ثلثه الفطنة، وثلثاه التغافل”.
ولعل تتبع سير العظماء يؤكد أن التغافل من أعظم صفات الإنسان العاقل الذكي، حيث قال ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي: “وكان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره ولا يُعلمه بذلك ولا يتغير عليه”.
ومن نافلة القول: حقيقة إن التغافل يساعد على خلق بيئة متسامحة ومتفهمة للآخرين، وهو أداة فعالة في مجتمعاتنا للحفاظ على العلاقات الإنسانية، والحد من التوترات، وتحقيق التوازن النفسي والاجتماعي، فالتغافل المتزن يُمكن الأفراد من العيش بسلام داخلي وبناء علاقات متينة مع من حولهم، ومن خلاله يتمتع الإنسان بحياة سعيدة دافئة.