الباراسيكولوجي هو علم يُعنى بالبحث في الظواهر الخارقة والقوى الغامضة، مثل التخاطر، والجلاء البصري والسمعي، والقدرة على تحريك الأشياء بالفكر، واختراق الماضي والمستقبل، والتعرف على مواقع المياه والمعادن في باطن الأرض، وغيرها من الطاقات الكامنة التي بدأت تخضع للأساليب العلمية والمعملية منذ عدة عقود. وقد شهد البحث العلمي في هذا المجال طفرات متقدمة، مع تطور الأساليب التقنية.
هذا الفرع من العلم، الذي أفردت له الجامعات ومراكز الأبحاث أقسامًا خاصة، يشرف عليه علماء يؤمنون بوجود ظواهر غريبة تستحق الدراسة، ويسعون إلى رصدها وتحليلها بأساليبَ موضوعية ومحايدة لاكتشاف آلياتها وقوانينها. ويعتمد البحث في هذا المجال على مناهج التحقق من الفروض العلمية، وتحويلها إلى نظريات قابلة للتجربة والاختبار، وصولاً إلى ترسيخها كحقائق علمية، مما جعل البعض يطلق على الباراسيكولوجي لقب “علم المستقبل”.
الظواهر الخارقة ما هي؟
الظواهر الخارقة هي أحداث استثنائية تختلف عن الظواهر الطبيعية، لندرتها وعدم مألوفيتها. غير أن هذه الخصوصية تجعلها ذات قيمة علمية استثنائية، إذ لطالما أسهمت دراسة الظواهر النادرة في تطور العلوم المختلفة. فكثيرًا ما لاحظ العلماء ظواهر غير مألوفة خلال أبحاثهم، أدت إلى تطورات علمية هامة.
من الأمثلة على ذلك، شعور داخلي ينتاب شخصًا بشأن حدث معين، فيقع بعد ساعات، أو تذكر شخص لم يُذكر منذ سنين، ثم الالتقاء به فجأة بعد دقائق. كذلك، قد يحلم شخص بحادثة معينة، ثم تتحقق كما رآها وكأنه كان على علم مسبق بها. وهناك أيضًا حوادث غريبة تناقلتها الكتب والروايات، مثل الكرامات التي نُسبت لبعض الأولياء والمتصوفة وأصحاب البصيرة، الذين يُقال إن لديهم القدرة على قراءة أفكار الآخرين، أو اكتشاف معلومات تخصهم دون استخدام الوسائل التقليدية في ذلك.
تاريخ الأبحاث الباراسيكولوجية
أدى الاهتمام المتزايد بدراسة الظواهر الخارقة، إلى قيام مجموعة من الأكاديميين في جامعة كامبريدج البريطانية بإنشاء أول جمعية متخصصة لدراسة هذه الظواهر، وهي “جمعية بحث الخوارق”، وذلك عام 1882م. وكان أول رئيس لها الفيلسوف “هنري سيدويك”. وقد ساهمت هذه الجمعية في تنظيم دراسات الظواهر الخارقة، ووضْع معايير للبحث العلمي في هذا المجال كما أصدرت دورية متخصصة ذات مستوى أكاديمي، مما ساهم في تحول دراسة الظواهر الخارقة تدريجيًّا إلى علم نظري.
وفي عام 1885م، قام مجموعة من الأكاديميين الأمريكيين -وعلى رأسهم عالم النفس الشهير “ويليام جيمس”- بتأسيس جمعية بحث الخوارق الأمريكية في بوسطن. وتركزت بحوث الجمعيتين البريطانية والأمريكية على دراسة الحالات الخارقة وإجراء البحوث الميدانية. وقد نشرتا العديد من التقارير والبحوث التي ساعدت في تطوير المعرفة بهذا المجال.
لكن التحول الحقيقي في دراسة الظواهر الخارقة، حدث في العقد الثالث من القرن العشرين، مع ظهور البحوث المختبرية لهذه الظواهر على يد عالم بيولوجيا النبات “جوزيف راين”. فقد أجرى “راين”، دراسات حول الظواهر الخارقة في ظروف مختبرية مضبوطة، وأخضع نتائج بحوثه لتحليلات إحصائية دقيقة، مما أدى إلى ظهور فرع جديد يُعرف اليوم بـ”الباراسيكولوجيا التجريبية”.
إن “جوزيف راين” هو من وضع مصطلح “باراسيكولوجي”، حيث اشتقه من الألمانية. وقد ساهمت أبحاثه في إنشاء أول مختبر متخصص في الباراسيكولوجي بجامعة ديوك، مما جعل دراسة الظواهر الخارقة تخضع لمعايير البحث العلمي التجريبي، كما هو الحال مع الظواهر الفيزيائية. وهكذا، تحول الباراسيكولوجي إلى علم يُمكن إخضاع نتائجه للتقييم الكمي والنوعي، وفق الأساليب العلمية المتبعة في العلوم التقليدية الأخرى.
وقد ساعد تبني المنهج التجريبي المختبري في دراسة الظواهر الخارقة، على إعطاء هذا العلم زخمًا قويًّا، مما مكنه من فرض نفسه كعلم لا يقل منهجية عن بقية العلوم المعترف بها.
علم الملكات الخارقة
تركزت الأبحاث التجريبية في مجال الباراسيكولوجي على نوعين رئيسيين من الظواهر الخارقة، هما التحريك الخارق، والإدراك الحسي المسبق. ويمكن إيجازهما كما يلي:
التحريك الخارق: يشير التحريك الخارق إلى قدرة الإنسان على التأثير في الأجسام عن بُعد، دون استخدام أي وسيلة فيزيائية مدرَكة، مثل الجهد العضلي أو أي نشاط للجهاز الحركي في الجسم. يستطيع الأشخاص الذين يمتلكون هذه القدرة تحريك الأشياء دون لمسها بأي جزء من أجسادهم، ومن غير استخدام أي وسائط نقل للحركة التقليدية، كالمعدات أو الهواء.
يفسر بعض العلماء هذه الظاهرة بأنها هيمنة الذهن على المادة، ويعتقد بعض علماء الآثار أنه قد يكون لهذه الطاقة دور في بناء المعابد والأهرامات القديمة، خاصة في العصور التي لم تكن فيها وسائل نقل أو آلات رفع أثقال كما نعرفها اليوم.
كما يشمل التحريك الخارق القدرة على نقل الأشياء من مكان إلى آخر، أو استحضارها من أماكن بعيدة خلال لحظات. وأبرز مثال على هذه القدرة، ما ورد في القرآن الكريم عن النبي سليمان عليه السلام، عندما جيء بعرش “بلقيس” في لحظة زمنية وجيزة، مما يمكن تفسيره بأنه طاقة نفسية مكّنت صاحبها من استحضار الأشياء ونقلها بسرعة فائقة.
الإدراك الحسي الفائق
تم استخدام هذا المصطلح لأول مرة في منتصف العشرينيات من القرن الماضي، لكنه انتشر على نطاق واسع بعد أن نشر “جوزيف راين” عام 1934م كتابه الشهير “الظواهر أو الإدراك الحسي الفائق”، الذي تضمّن خلاصة تجاربه العلمية في جامعة ديوك. كان لهذا الكتاب أثرٌ بالغ في إدخال الأساليب العلمية لدراسة هذه الظواهر، والتي يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع:
1- توارد الخواطر: يُقصد بتوارد الخواطر، انتقال الأفكار والصور العقلية بين الكائنات الحية، دون الاستعانة بأي من الحواس التقليدية. فهو شكل من أشكال الإدراك خارج مجال الحواس، وله تطبيقات كثيرة في الحياة اليومية، حيث يكثر بين الأفراد الذين تجمعهم علاقات عاطفية قوية، مثل الأم وطفلها، أو الزوج وزوجته، أو بين الأشقاء.
يعتقد العلماء أن فهم آليات توارد الخواطر، قد يفتح آفاقًا جديدة في مجال التواصل الإنساني، إذا أمكن التحكم به وتوظيفه بطريقة فعالة.
2- الإدراك المسبق: يشير الإدراك المسبق، إلى قدرة الإنسان على توقع أحداث مستقبلية قبل وقوعها. وهناك نوع مشابه يُعرف بـالإدراك الاسترجاعي، وهو القدرة على معرفة أحداث من الماضي دون الاستعانة بأي من الحواس التقليدية، أو وسائل اكتساب المعلومات المعروفة.
3- الاستشعار (الاستبصار): الاستشعار أو ما يُعرف بالاستبصار، هو القدرة على اكتساب معلومات عن حادثة أو جسم بعيد، دون استخدام أي من الحواس التقليدية. ويرى العلماء أن الاستبصار يمثل تجاوزًا لحاجز المكان، وقد خضع لدراسات علمية مكثفة.
من أشهر أمثلة الاستبصار في التراث الإسلامي ما رُوي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين حذّر أحد قادته في ساحة المعركة من وجود العدو خلف الجبل، بينما كان في المدينة المنورة على بُعد مئات الأميال، وقد تلقى القائد التحذير وعمل به.
علم المستقبل
يطرح الباراسيكولوجي تساؤلات علمية جوهرية، جعلته في نظر العديد من العلماء علمًا واعدًا قد يكون له تأثير كبير في تشكيل مستقبل الحضارة الإنسانية. ومن أبرز هذه التساؤلات: هل يمكن للقدرات الكامنة لدى الإنسان، أن تساهم في بقائه في ظل التقدم العلمي القادم؟ هل من الممكن أن يتمكن الإنسان، بفضل هذه الطاقات، من التأقلم مع الظروف المستقبلية على كوكب الأرض؟ هل يستطيع الإنسان استخدام هذه القدرات للتواصل مع مخلوقات وكائنات أخرى، إذا ما اضطر للانتقال إلى كواكب بعيدة؟
مع تزايد الشعور بضرورة إحداث تغييرات جذرية في الحضارة الحالية، يرى بعض الباحثين أن الباراسيكولوجي قد يكون المفتاح لهذا التغيير؛ لأنه يُسلط الضوء على الإمكانات غير المستغَلة للعقل البشري. وقد عبّر عن هذا المفهوم رائد الفضاء “إدغار ميتشل” بقوله: “يبدو لي أن وجودنا نفسه أصبح يعتمد قبل أي شيء آخر، على وجوب إيقاظ الضمير وتطوير الذهن”.
وبذلك، فإن الباراسيكولوجي قد يمثل نقلة حضارية جديدة، قد تفوق في أهميتها ثورتي الزراعة والصناعة، من خلال إبراز الطاقات الروحية والعقلية الكامنة لدى الإنسان، وتوظيفها لصالح البشرية جمعاء.
(*) كاتب وباحث مصري.
الهوامش
(1) علم واعد أم خرافة علمية؟ الباراسيكولوجي، حواس محمود، مجلة العربي، الكويت، العدد: أغسطس 2001م.
(٢) الظواهر الخارقة والباراسيكولوجيا المعاصرة، د. جمال نصار حسين، مجلة الهلال، العدد: مارس 1997م.
(٣) المصدر السابق.
(٤) الباراسيكولوجي والتحريك النفسي، د. لؤي فتوحي، مجلة البحرين الثقافية، العدد:19 (يناير 1999م).
(٥) الباراسيكولوجي أو وراء علم النفس، محمد العزب موسى، مجلة الدوحة، العدد: نوفمبر 1983م.