هـل انـتـهى دور الإنسان؟
شهد الأدب المعتمِد على الذكاء الاصطناعي تطورًا كبيرًا في عصرنا الراهين، فتح الأبواب أمام طيف واسع من النماذج الإبداعية الجاهزة، التي تنوعت ما بين قصص الأطفال، وروايات الخيال العلمي، والسير الذاتية، وصولاً إلى الروايات الاجتماعية والرومانسية. وقد أثار هذا التطور السريع تساؤلات كثيرة؛ إذا أصبح من الممكن اليوم إنتاج مؤلفات كاملة، بل وأعمال أدبية ضخمة، من خلال تلقين ذكي ودقيق لهذه الأنظمة. إذن، كيف سننظر إلى الكتاب في المستقبل؟ وما هو شكل العلاقة الجديدة بين القارئ والنص؟ وماذا سيعني الأدب في زمن تُكتب فيه القصص بواسطة آلات؟ أو كيف سيؤثر “شات جي بي تي” (ChatGPT) على تعريفنا لمفهوم الأدب ذاته؟
وفي رواية “سيدة المتاهات” للكاتب “كارل شرودر”، الصادرة عام ٢٠٠٥م، والتي تنتمي لأدب الخيال العلمي، نجد تصورًا استباقيًّا لقدرات الذكاء الاصطناعي على إنتاج ونشر ملايين القصص حول العالم. كما أن هذا التدفق الهائل من الأعمال الأدبية المصقولة والاحترافية، يفوق قدرة أي فرد على قراءته في عمرٍ واحد؛ إذ يقدم محتوى غنيًّا يواكب الأذواق المختلفة للقراء. ومع إطلاق “شات جي بي تي” في أواخر عام 2022م، لم يعد هذا السيناريو محض خيال، بل تحول إلى واقع ملموس؛ حيث أصبح للذكاء الاصطناعي دور حقيقي ومؤثر في صناعة المحتوى الأدبي.
ولا شك أن هذا التحول الكبير، جاء مدفوعًا بانتشار واسع للنماذج اللغوية المعتمدة على التلقين، ما أدى إلى زيادة ملحوظة في إنتاج المحتوى المكتوب بواسطة الآلات. وبالتالي لم تعد هذه التقنية حكرًا على نوع معين من الأدب، بل امتدت إلى مختلف التصنيفات، بدءًا من الكتب الأكاديمية، مرورًا بأدب الخيال والجريمة، وصولاً إلى كتب الأطفال واليافعين.
والجدير بالذكر أنّ من أبرز القطاعات التي تأثرت بهذا التغير الكبير، هو قطاع النشر الذاتي الذي بات يشكل ساحة تنافس جديدة في عالم النشر. ومع استمرار الانكماش في أعداد القرّاء منذ سنوات، زادت التحديات التي تواجه الناشرين والمؤلفين على حد سواء، خاصة مع التدخل القوي للذكاء الاصطناعي في عمليات الإنتاج الأدبي.
وعليه، لم تعد المنافسة محصورة بين دور النشر التقليدية، بل ظهرت أشكال جديدة من “الوساطة الأدبية” ومنصات النشر الرقمي، التي قلبت معادلات السوق، وقدّمت حلولاً مرنة ومغرية للكتّاب المستقلين، الأمر الذي غير جذريًّا خريطة الأدب توزيعًا وترويجًا على مستوى العالم.
في زمن تهيمن فيه منصات -مثل أمازون وغودريدز (Goodreads)- على حركة النشر والتقييم، أصبح القارئ جزءًا فعّالاً في تشكيل مستقبل الأدب؛ إذ أصبح المتلقي لا يكتفي بالقراءة فقط، بل يعلّق ويقيّم، مما يفرض على الأعمال الأدبية الجديدة أن تُصمم -منذ بدايتها- لتلائم هذه البيئة الرقمية التفاعلية، وتكسب رضا المستخدمين. ويمكننا القول إن الخوارزميات تحوّلت إلى أداة محورية في توجيه الاهتمام وتحديد الأعمال الرائجة، بينما تتكفّل تقنيات الذكاء الاصطناعي بتحليل تلك البيانات وتقديم توصيات دقيقة. وهكذا، بات التحليل الرقمي أحد الأعمدة الأساسية في صناعة النشر الحديثة.
وفي موازاة هذا الواقع، يبرز الذكاء الاصطناعي كأداة مبتكرة لإنتاج محتوى إبداعي بطريقة تلقائية تُحاكي الأسلوب البشري. كما أن هذا التقدم لم يُحدث تغييرًا في طبيعة التأليف فقط، بل نقل الكتابة الإبداعية إلى قلب العصر الرقمي، وقد تجلّى هذا التوجّه في إدماج الذكاء الاصطناعي في برامج تحرير النصوص، التي بدأت تؤدي دورًا متزايدًا في توليد النصوص وتحسين جودتها، رغم محدودية إمكانياتها الحالية.
وعليه، إن الاعتماد على أدوات مثل “شات جي بي تي” كمساعد أساسي في الكتابة، لا يزال موضع جدل عالمي واسع؛ فقد ناقشت صحف ومجلات كبرى هذه الظاهرة، بينما أبدى كثير من الكتّاب استعدادهم للاستفادة منها في عملياتهم الإبداعية الخاصة، مثل الكاتبة اليابانية “ري كودان” مؤلفة رواية “طوكيو”، التي حصلت على جائزة “أكوتاغاوا” اليابانية للكتَّاب الشباب عام 2023م، والتي استخدمت الذكاء الاصطناعي في كتابتها لهذا العمل الذي نال تقديرًا كبيرًا، وإشادة جماهيرية ونقدية.
ومع كل هذه الإنجازات التي أحدثها الذكاء الاصطناعي في هذا المجال الإبداعي، يبقى سؤال جوهري معلقًا: هل ما تنتجه هذه النماذج الآلية تُضاهي فعلاً ما يبدعه الإنسان؟ وهل يمكننا أن نثق بتلك النماذج غير الإنسانية؟ وإذا كانت الخوارزميات قادرة على إنتاج نصوص رفيعة المستوى، فما الذي يتبقى -إذن- من جوهر الأدب الإنساني، ومن فرادة العلوم الإنسانية؟
السرد القصصي المرتقب
يُعد فك غموض النماذج اللغوية الجاهزة، من أكبر التحديات التي تواجه مطوري أنظمة الذكاء الاصطناعي في مجال الكتابة الإبداعية؛ لأن فهم هذه النماذج لا يقتصر على استخدامها، بل يتطلب الكشف عن أوجه القصور الكامنة في بنيتها، وذلك من أجل فهم أعمق لخلفياتها التقنية ووظائفها التشغيلية. وهذه النماذج لم تُبْنَ من فراغ، بل جاءت نتيجة تجميع ومعالجة كميات هائلة من البيانات، واعتمدت على هندسة تلقين فوري دقيقة، ينفذها المستخدمون لتوجيه الأنظمة نحو إنتاج نصوص جديدة.
وبالرغم من القدرات المبهرة التي أظهرها “شات جي بي تي”، إلا أنه لا يمتلك -حتى اللحظة- وعيًا عامًّا أو معرفة مجسدة كالتي يمتلكها الإنسان، بل يعمل عبر منظومة برمجية محددة تقوم بتحليل الأنماط اللغوية واستنساخها ببراعة، لإنتاج محتوى يبدو مبتكرًا. ومع أن هذه النماذج باتت تقدم دعمًا ملموسًا في تحسين جودة النصوص، أو في المساهمة التدريجية في تأليف القصص والروايات، إلا أن استخدامها ما زال يثير تساؤلات قانونية، لا سيما فيما يخص حقوق الملكية الفكرية. ومن ثم ظهرت خلال الأعوام الماضية عدة دعاوى قضائية ضد شركات الذكاء الاصطناعي، من أبرزها تلك التي رفعتها صحيفة “نيويورك تايمز” ضد شركة “OpenAI” عام 2023م، في إطار دفاعها عن حقوق محتواها الصحفي.
وعلى الرغم من هذه العقبات، فإن السنوات القليلة الماضية شهدت تطورًا ملحوظًا في قدرات هذه النماذج الذكية، خاصة فيما يتعلق بإنتاج سرد قصصي متكامل، وتوسيع إمكانيات الخطاب الأدبي الآلي. في السابق، لم يكن بالإمكان أن يُنتج “شات جي بي تي” قصة متماسكة من البداية إلى النهاية، لكن بفضل التحسينات التي أُدخلت على هندسة التلقين وأساليب إدخال البيانات، بات يستطيع توليد نصوص قصصية متكاملة البناء، بل وتقديم مشاهد تفصيلية بناءً على التوجيهات الفردية التي يتلقاها.
ومع كل هذا التقدم، تبقى جودة ما يُنتَج، محلَّ جدل واسع. فقد تبين أن هذه النماذج تقدم أفضل نتائجها عندما يُمنح لها هامش أكبر من الاستقلالية، وعندما تكون تعليمات التلقين المقدمة مختصرة وواضحة. ففي مثل هذه الحالات، تكون النتائج أكثر تماسكًا واتساقًا، وهو ما يعزز من فاعلية الذكاء الاصطناعي كأداة في صناعة الأدب المعاصر.