اغتراب الإنسان في المدينة الحديثة
تخيل ليلة صافية، حيث تتلألأ النجوم كأحجار كريمة في قبة سماوية مظلمة.. تخيل الشعور بالرهبة والإعجاب وأنت تنظر إلى هذا المنظر البديع.. ولكن ماذا لو اختفت هذه السماء الساحرة، واستبدلت بها سماء ملوثة بالضوء ليلاً وبسحب الدخان نهارًا؟ هذا هو الواقع الذي نعيشه في العديد من المدن اليوم، حيث تختفي روعة الكون خلف أضواء وملوثات المدن الصناعية، فقدان السماء ليس مجرد فقدان لمشهد جميل، بل هو فقدان لجزء من هويتنا الإنسانية، ولصِلتنا بالطبيعة وبالكون الفسيح الذي نعيش فيه.
تعتبر السماء جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان، فهي مصدر الإلهام والتعجب، ورمز للامتناهي والجمال.. ومع تزايد التمدن ونمو المدن، بدأت السماء تختفي تدريجيًّا خلف سحب التلوث الضوئي وأبراج المباني الشاهقة، هذا التغييرُ الجذري في بيئتنا الحضرية، له آثار عميقة على الإنسان وعلى المدن نفسها، سواء على المستوى المادي أو الروحي.
السماء في الرؤية القرآنية
إن من عظمة الإسلام أن جعل السماء هي قبلة الدعاء، كما حث المولى سبحانه وتعالى على النظر إلى السماء (والأرض) من أجل التدبر، حيث يقول: (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)(يونس:101)، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك، الذين يسألونك الآياتِ على صحّة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا أيها القوم ماذا في السمواتِ من الآيات الدّالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله سبحانه وتعالى، من شمسها وقمرها، واختلافِ ليلها ونهارِها، ونـزول الغيث بأرزاق العبادِ من سحابها؟ وهذا ما أورده الإمام القرطبي في تفسير الآية الكريمة.
بل إن المولى سبحانه وتعالى عَدّ التفكر في خلق السموات والأرض من صفات أولي الألباب، حيث يقول تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ)(آل عمران:190).
من تلك التوجيهات القرآنية -وهي كثيرة في القرآن الكريم- يتضح لنا أن أهمية السماء لمدن المجتمعات الإسلامية، ليس فقط من النواحي البيئية والصحية والجمالية، ولكن أيضًا من جوانب التفكر والتدبر من أجل زيادة الإيمان والوصول إلى مرحلة اليقين، أي الإيمان الثابت الراسخ الذي لا يتزعزع، لذلك يقول المولى سبحانه وتعالى منبهًا إلى ذلك: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)(الأنعام:75)، وأنّى يتحقق لنا ذلك في مدن بلا سماء مرئية، سواء أكان هذا الحجب لها كليًّا أم جزئيًّا؟
السماء في الأدب والشعر
لعبت السماء دورًا محوريًّا في روايات الأدباء وقصائد الشعراء، فإن الروائي العالمي “تولستوي” -على سبيل المثال- في عمله الملحمي (الحرب والسلام)، كتب مشهدين عن السماء، كل مشهد منهما له ظروفه الخاصة وطبيعته، المشهد الأول كان في حالة حرب من خلال شخصية الأمير “آندرية بولكونسكي”، والثاني في حالة سلام من خلال شخصية الكونت “بيير بيزوخوف”.. ومن الغريب أن ينهي “تولستوي” الجزء الأول من كتابه في ذروة الحرب بمشهد السماء، وفي نفس الوقت ينهي الجزء الثاني في زمن السلام بمشهد السماء كذلك.
كثير من الشعراء أيضًا، قد ربطوا في شعرهم وأبيات قصائدهم، بين السماء والحب وبين السماء والكرم، ومن جميل ما قاله الهادي آدم في رائعته أغدًا ألقاك عن السماء: “هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر”، ويقول التيجاني يوسف بشير:
“أنتِ السماءُ بدت لنا *** واستعصمت بالبعدِ عنّا”. كما كانت السماء بنجومها وكواكبها ملهمة للشعراء أيضًا قديمًا، فالشاعر الجاهلي النجدي بشر بن أبي حازم يقول: أراقب في السماء بنات نعش ***** وقد دارت كما عطف السوارُ
آثار حجب السماء
فقدان السماء -هذه القبة الزرقاء التي لطالما ألهمت البشرية- يترك أثرًا عميقًا على الإنسان، فحجْب النجوم والكواكب والشمس والقمر، يحرم الإنسان من تجربة حسية غنية، ويقلل من شعوره بالاتصال بالكون الواسع. فالنظر إلى السماء يرتبط بالهدوء والاسترخاء والتأمل، مما يساعد على تخفيف التوتر وتحسين المزاج.. لذا فإن فقدان هذا المنظر الهادئ، يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للإنسان، وقد يساهم في زيادة معدلات الإصابة بالأرق واضطرابات النوم.
حجْب جزء من السماء نهارًا يعني قلة الإضاءة الطبيعية، مما يؤثر سلبًا على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان، كما يجعل المباني تعتمد بصورة أساسية على الإضاءة الصناعية، وذلك له تأثيرات -أيضًا- اقتصادية على المدى الطويل، نتيجة زيادة استهلاك الكهرباء والطاقة.
علاوة على ذلك، فإن السماء تحمل أهمية رمزية عميقة في العديد من الثقافات والأديان، وارتباطها بالقداسة واللامتناهي يجعلها عنصرًا أساسيًّا في الحياة الروحية للفرد.
لا يقتصر تأثير فقدان السماء على الفرد، بل يتعداه ليصل إلى المجتمع ككل، فالتلوث الضوئي الناتج عن الإضاءة الزائدة، يؤثر سلبًا على الحياة البرية، خاصة الطيور والحيوانات الليلية التي تعتمد على الظلام للصيد والتكاثر.. كما أن فقدان جمال السماء يؤثر سلبًا على قطاع السياحة، حيث تعتبر السماء النقية عاملَ جذب مهم للسياح، وعلى المستوى الاجتماعي يعتبر النظر إلى السماء تجربة مشتركة تجمع الناس وتقوي الروابط الاجتماعية.. لذلك فإن فقدان هذا المشهد المشترك، يؤدي إلى فقدان الشعور بالانتماء للمجتمع المحلي أو الإنساني بصفة عامة.
السماء في المدن القديمة والحديثة
في المدن القديمة، كانت السماء جزءًا لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية؛ كانت السماء هي السقف الذي يغطي الجميع، وكانت مرتبطة بالزراعة والأرصاد الجوية والطقوس الدينية، وكانت المباني القديمة مصممة بحيث تسمح بمشاهدة السماء من خلال تصميمها حول أفنية داخلية مكشوفة، وكان الفناء الداخلي مصدرًا للضوء الطبيعي والهواء النقي، إلى جانب توفير الخصوصية ومكان لاجتماع العائلة الواحدة.
وكانت دراسة السماء من أهم العلوم في الحضارات القديمة، وكان الفلكيون يراقبون النجوم والكواكب لتحديد الأوقات المناسبة للزراعة والحصاد، ومعرفة المواقيت والمواسم وتحديد الزمن بصفة عامة.
في المدن الحديثة، تغيرت العلاقة بين الإنسان والسماء بشكل كبير؛ مع نمو المدن وتزايد المباني والأبراج شاهقة الارتفاع، أصبح من الصعب رؤية السماء بوضوح، مما أدى إلى فصل الإنسان عن الطبيعة، كما أصبح للتلوث -بشقَّيه الهوائي والضوئي- تأثيراتٌ كبيرة ومدمرة على بيئة تلك المدن.
ومع تطور التكنولوجيا، أصبح الإنسان يقضي وقتًا أطول داخل المباني، بعيدًا عن الطبيعة والسماء. وتغيرت مفاهيم الإنسان عن السماء، وأصبحت أقل ارتباطًا بالدين والروحانية. وربما يؤدي فقدان الاتصال بالطبيعة والسماء، إلى مشاكل نفسية مثل الاكتئاب والقلق.
لذلك فإن الإنسان الذي يقضي حكمًا بالسجن -بغض النظر عن جريمته- يكون له الحق في مدة زمنية محددة للتريض يوميًّا في إحدى ساحات السجن المكشوفة، لأهمية ذلك على صحته الجسدية والنفسية وربما العقلية أيضًا.
استعادة السماء في العمران المعاصر
إن أهمية التواصل البصري مع السماء كبيرة، ولها تأثيرات على الإنسان مهمة جدًّا، لذلك اتجه بعض المصممين عند تهيئة بعض الفراغات الموجودة تحت الأرض، أو في بعض الغرف التي يقضي فيها الإنسان أوقاتًا طويلة كمرضى العناية المركزة بالمستشفيات، إلى استخدام تقنيات إضاءة حديثة بالسقف تشابه شكل السماء وضوء النهار، كنوع من الخداع البصري، لتحقيق غاية التواصل البصري مع السماء أو ما يشبهها.
من هنا تظهر أهمية أن يأخذ التخطيط العمراني للمدن في الاعتبار أهمية الحفاظ على السماء، من خلال تقييد ارتفاع المباني وتقليل التلوث الضوئي، والحد من ظاهرة الضبخان التي تكون سببًا مباشرًا لتلوث الهواء الذي يصل إلى حد الاختناق، بخاصة عند الأطفال وكبار السن، وكذلك حجب السماء نتيجة السحب الدخانية.
وإذا كانت توعية المجتمعات الإنسانية بأهمية الحفاظ على بيئة الأرض قد أصبح توجهًا عالميًّا، فلا بد أن تأخذ السماء نصيبها الوافر والمستحق من هذه الأهمية، مع تشجيع الأنشطة الخارجية، وتشجيع الناس على الخروج إلى الطبيعة ومشاهدة السماء، ويساعد على ذلك مراعاةُ توفير الأماكن والساحات والفراغات والحدائق العامة التي تشجع على ذلك وتجعله متاحًا للجميع.
من جانب آخر، يجب إعادة صياغة قوانين البناء بحيث تشجع على وجود الأفنية الداخلية، في المباني الحديثة بمختلف وظائفها، وهذا سيساهم في إعادة العلاقة البصرية والمعنوية بين الإنسان والسماء طوال فترة تواجده بالمبنى، ولا تصبح أسقف وجدران المبنى هو ما يراه الإنسان باستمرار طوال الليل والنهار.
إن العودة إلى الاستفادة من أسطح المباني بإيجاد حدائق سطح وبرجولات خشبية، تحول هذه الأسطح من مساحات مهملة غير مستفاد منها، إلى أماكن جاذبة للتجمعات واللقاءات بخاصة في المباني السكنية، ومن جانب آخر توفر إطلالات مفتوحة على السماء بمختلف أوقات اليوم، وربما تكون مكانًا مناسبًا لوجود بعض التليسكوبات البسيطة لهواة علم الفلك، لمراقبة النجوم والكواكب بالليل.
مدن حديثة دون سماء
إن العلاقة بين الإنسان والسماء هي علاقة قديمة قدم التاريخ بل ووجود الإنسان نفسه على الأرض، ومع تطور الحضارات، تغيرت هذه العلاقة بشكل كبير. وإن فقدان السماء في المدن الحديثة له آثار سلبية على الإنسان والبيئة، مما يستوجب علينا جميعًا العمل على استعادة صلتنا بالسماء وحماية بيئتنا.
ولا أجد في ختام المقال أفضل من تلك الآيات الكريمات التي وردت في سورة الملك، كي أدلل على أهمية وعظم السماء في الرؤية والمفهوم الإسلامي، وعلاقة ذلك بالإنسان باني الحضارات قديمًا وحديثا، حيث يقول الله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ * وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ)(الملك:٣-5).
(*) أستاذ ورئيس قسم العمارة بمعهد الطيران / مصر.