حوار حضاري

في أقصى الطريق، يجلس شيخ جليل، وقد اشتعل رأسه شيبًا، وجزء كبير من لحيته… يجلس جلسة القرفصاء، يلبس جلبابًا صوفيًّا أبيض، ملفوفًا بسلهام أسود اللون، وفوق رأسه تعلو عمامة بيضاء يمتد فرعها إلى نصف ظهره الذي انحنى بفعل السنين الكثيرة التي عاشها. يتكئ على عصا سميكة، ينظر إلى إبريق الشاي النحاسي الذي يتربع على مِجمر من الفخار، مملوء عن آخره فحمًا قد احمرّ، يأكل بعضه بعضًا.

غير بعيد عنه، تجلس صبية في سن الزهور، لا تقل عن سبع سنين تقريبًا، ولا تزيد عن تسعة أعوام، تلبس قفطانًا مغربيًّا أصيلاً، وقد لفت شعرها بوشاح حريري زادها هيبة ووقارًا، غطت قدميها بحذاء تقليدي مطرّز بتطريزة تعود إلى زمن المرابطين… وهي تنظر إلى الشيخ نظرة تعجب ممزوجة بشيء من التهكم.

نهضت “حدوثة” قاصدة الشيخ الجليل، تمشي الهوينى، حتى إذا مرّت من أمامه على استحياء، وقد وضعت يديها على حزام قفطانها الأصيل، خاطبته ساخرة:

– عمو وارث… أتظن أنك قادر على مجاراة كل هذا التطور التقني والعلمي؟

أجابها بنبرة حزينة متحسّرة:

– وهل تعلمين، بنيتي، أن كل هذا الزخم العلمي الذي تشاهدينه بُني على أساس تراثنا العلمي المجيد؟

قاطعتْه وهي تململ رأسها تهكمًا:

– وأي تراث علمي عندنا؟!

أجابها وقد رسمت على وجهه ابتسامة هادئة:

– على رسلكِ بنيتي، فإن أردتِ معرفة ذلك، فاصبري قليلاً…

هل تعلمين أن واضع علم الجبر هو الخوارزمي؟ وأن غياث الدين الكاشي عمّم مبرهنة فيثاغورس حتى أصبحت هذه الأخيرة حالة خاصة جدًا من مبرهنته، وصنع أضخم تلسكوب في زمانه؟ وأن الرياضي المغربي ابن البنّاء المراكشي أبلى بلاءً حسنًا في هذا العلم العتيد، وبرز كذلك في علم الفلك، بل وطبّق الرياضيات في علوم البلاغة!

واللائحة لم تنتهِ بعد… لنبدأ بلائحة علم الفيزياء، فيلوح اسم ابن الهيثم كأول من علّم العالم كيف نرى! حيث كان العالم آنذاك يظن أن العين هي من ترسل أشعة لرؤية الأشياء، فأثبت عالمُنا العكسَ تمامًا. وفي علم الطيران، قام العالم الأندلسي عباس بن فرناس بأول محاولة للطيران في التاريخ، ولا زالت اللائحة طويلة لا يتسع المقام لذكرها…

وأما الطب الحديث، فجلّ مداخله مبنية على كتب أطباء المسلمين، وأشهرهم ابن سينا. أما علم الجغرافيا وعلم البحار، فكان للمسلمين فيهما باعٌ كبير، فالعالِم المسلم إبراهيم الفزاري هو أول من صنع الأسطرلاب، وقد توفي سنة 796م، في حين رسم الشريف الإدريسي أول خريطة للعالم، وكانت قريبة جدًّا من خرائط اليوم!

واللوائح لم تنتهِ، وكذلك لم أسرد لكِ، بنيتي “حدوثة”، كل ما في جعبتي!

فبهتت التي سخرت من عمّها، وتلعثمت في الكلام، قائلةً وعلامات الدهشة تلوح من ملامحها:

– أكل هذا موجود في تراثنا؟!

أجابها بابتسامة لطيفة يملؤها الحنان الأبوي، واضعًا يده على وشاحها الحريري:

– نعم، بنيتي، وما خفي أعظم…

أمسكت “حدوثة” يد عمها، فخورةً به، وقد زالت كل ملامح الحيرة التي ملأت وجهها البريء، وتابعا سيرهما في منحى الطريق.