الأنقليس الرعاد وتصميم أول بطارية في التاريخ

مخلوق بقدرات كهربائية فريدة أثارت اهتمام العلماء.. إنه كائن بحري قادر على إنتاج صدمات كهربائية تصل قوتها إلى 650 فولت.. ورغم حجمه الصغير، فإن شحناته الكهربائية قادرة على إلحاق ضرر بالغ بالإنسان. إنه الأنقليس الرعاد، أو الأنقليس الكهربائي، الذي أحدث تقدمًا مهمًّا في مجال العلم والهندسة الكهربائية، وألهم العلماء لتطوير تقنيات مبتكرة، أبرزها اختراع البطارية.
الأنقليس الكهربائي المعروف علميًّا بـ”Electrophorus electricus”، يعيش في المياه العذبة لنهر الأمازون في أمريكا الجنوبية، يبلغ طوله حوالي 2.5م، ويتمتع بلون زيتوني بني، ويمثل ذيله الطويل المدبب أربعة أخماس طول جسمه. هذا الكائن العجيب يتمتع بقدرة فريدة في إنتاج الطاقة والكهرباء التي تصل قوتها إلى ٦٥٠ فولت، والتي يولِّدها في الواحد من الألف من الثانية، وذلك بفضل أعضائه الكهربائية الخاصة التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيه، والتي كانت مصدر إلهام حقيقي في اكتشاف تقنيات جديدة في عالم اليوم وتطويرها.
على الرغم من أن الأنقليس ينتج الكهرباء من أجل البقاء على قيد الحياة، إلا أن فسيولوجيته المعقدة قدَّمت نموذجًا علميًّا لدراسة آليات توليد الكهرباء؛ حيث وجدوا أن هذا الكائن يمتلك خلايا كهربائية تحتوي على مكونات يمكن محاكاتها باستخدام تقنيات العلوم الحديثة. وبعد البحث في هذه الخلايا، بدأ العلماء في فهم الآليات الدقيقة للتوليد الكهربائي.
استُخدمت المعرفة المكتسبة من دراسة هذا المخلوق، لإيجاد بطاريات تعتمد على نفس المبادئ الفيزيائية، حيث تركزت الأبحاث على إنشاء خلايا بطارية قادرة على تخزين وإفراز الطاقة بشكل أكثر كفاءة. لقد أصبح الأنقليس الرعاد مصدر إلهام علمي قاد إلى ابتكارات تكنولوجية حديثة؛ ففي عام ١٧٩٩م استلهم العالم الفيزيائي الإيطالي “ألساندرو فولتا” (Alessandro Volta) من هذه القوة المذهلة في الأنقليس الرعاد، تطوير أول بطارية كهربائية في التاريخ تُعرف بـ”العمود الفلتائي”.
لقد أثار الأنقليس فضول “ألساندرو فولتا” بشكل كبير، ما دفعه إلى التساؤل عن كيفية عمل هذه الظاهرة المذهلة! اكتشف أثناء دراسته أن الكهرباء تنتج من خلايا خاصة في جسم الأنقليس، فلاحظ أن هذه الخلايا تُنتج شحنة كهربائية قوية عندما تتحد.. ألهمته هذه الملاحظة ابتكار أول بطارية كهربائية في التاريخ؛ حيث استخدم أقراصًا معدنية من النحاس والزنك مفصولة بقطع من الكرتون، ووضعها في محلول ملحي، لتعمل هذه الأقراص المعدنية مثل خلايا الأنقليس الرعاد عندما تتفاعل مع المحلول الملحي، ومن ثم تنتج تيارًا كهربائيًّا مستمرًّا.
شكل هذا الاكتشاف نقطة تحول محورية في تاريخ العلوم والتكنولوجيا.. فتحت البطارية الباب أمام العديد من الاختراعات والاكتشافات الأخرى، ولا يزال تأثيرها مستمرًّا حتى يومنا هذا. ولكن كيف تعمل هذه الخلايا الكهربائية في جسم الأنقليس الرعاد لإنتاج الكهرباء؟
إنتاج الكهرباء عملية معقدة
إن آلية إنتاج الكهرباء لدى الأنقليس الرعاد معقدة للغاية.. فقد وُهب هذا المخلوق العجيب ثلاثة أعضاء رئيسية في جسمه، تحتوي على آلاف الخلايا العضلية التي تعمل على توليد الكهرباء، وهي مرتبة بشكل متسلسل تشبه إلى حد كبير البطاريات المتصلة ببعضها البعض.. عندما يشعر الأنقليس باقتراب فريسة أو خطر ما، ويريد إطلاق شحنة كهربائية؛ ترسل الخلايا الأولى إشارة كهربائية صغيرة، لتتضخَّم وتنتقل إلى الخلايا التالية، وهكذا حتى تصل هذه الإشارات إلى نهاية الجسم.. وبهذا التفاعل المتسلسل العجيب في الجسم، يتمكن الأنقليس الرعاد من إنتاج صدمات كهربائية قوية مميتة.
نعم، عند الاصطياد يقوم هذا الكائن الخطير بتكثيف شحناته الموجبة، في منطقة ذقنه، ثم يضغط بها على جسم الفريسة، ليُحدث صدمة قد تكون قاتلة. إنه أيضًا ينتج صدمات كهربائية خفيفة للتواصل مع بنات جنسه الأخرى، وتحديد موقع فريسته في المياه العكرة. والملفت للنظر أن هذه العملية، تَحدث بسرعة فائقة تصل إلى واحد من الألف من الثانية (١/١٠٠٠ من الثانية).
البطارية وتأثيرها على العالم
إن اختراع البطارية لم يكن مجرد خطوة هامة في تاريخ العلم، بل كان نقطة تحول غيرت وجه العالم برمته. البطارية مكنت العلماء من إجراء تجارب جديدة واختراعات لا تعد ولا تحصى؛ حيث تطورت تكنولوجيا البطاريات وظهرت أنواع جديدة ذات أحجام وأشكال مختلفة وقدرةٍ على تخزين طاقة أكبر؛ مثل البطاريات القلوية التي تستخدم على نطاق واسع في الأجهزة الإلكترونية المحمولة، وبطاريات الليثيوم أيون في الهواتف والحواسيب المحمولة والسيارات الكهربائية، وبطاريات الوقود في المركبات الفضائية والغواصات، وغيرها.
حتى يومنا هذا، يستمر الأنقليس الكهربائي في إلهام العلماء والباحثين.. فما زالت الأبحاث الحالية تدرس الأنقليس الكهربائي، كنموذج لتطوير تكنولوجيات جديدة في الأجهزة الطبية لعلاج الأمراض العصبية والعضلية، وفي تطوير مصادر طاقة مستدامة تعتمد على الطاقة الحيوية.. ما يعني أن الأنقليس الكهربائي فتح آفاقًا جديدة لتطوير تقنيات الطاقة المستدامة.. هذا التفاعل بين الطبيعة والعلم، يوضح كيف يمكن لأبسط الكائنات أن تشكل مصدر إلهام لأعظم الاكتشافات. والقصة المدهشة للأنقليس الكهربائي تذكرنا بأن الطبيعة مليئة بالقصص الملهمة، وأن العلم يستطيع أن يجد مصادر نافعة للبشرية في أماكن غير متوقعة من هذا الكون الشاسع.
هذا ولا بد للإنسان -بعد كل ما ذُكر- أن يدرك أن اختراع البطارية لم يكن مجرد تقدم تقني فحسب، بل كان نعمة من نعم الله الكبرى على البشرية قاطبة، مكنتهم من الاستفادة من الطاقة الكهربائية لتسهيل حياتهم اليومية. والأنقليس الذي علَّمه الله تعالى توليد الكهرباء وإنتاجها بطريقة خارقة، كان مصدر إلهام للعلماء والمهندسين من جانب، ومن جانب آخر مظهرًا من المظاهر الكونية التي تدل على قدرة الله تعالى وعظمته.

(*) كاتب وباحث تركي.
المراجع
(1) https://www.theatlantic.com/science/archive/2017/12/a-new-kind-of-soft-battery-inspired-by-the-electric-eel/548261/
(2) https://www.facebook.com/ScreenPlusPage/videos/881398970713098/?mibextid=xfxF2i&rdid=cm0j4sq1kb4r2vHY