الروائح وتأثيرها على المزاج

العطر لغةٌ لها مفرداتها وحروفها وأبجديتها التي تليق بحضورها الراقي في حياتنا على الدوام. وله أسراره الكثيرة التي قد تساعدنا على فك رموز مشاعرنا حينًا، وعلى التخلص من العديد من المشكلات والهموم والسلبية التي تصيبنا أحيانًا أخرى. ويُعَدُّ العلاج بالزيوت العطرية إحدى الطرق الشائعة منذ قديم الأزل لعلاج أنواع مختلفة من الأعراض النفسية والجسدية، حيث يرتكز هذا العلاج على مبدأ التأثير العلاجي للزيوت النباتية الأساسية بعد امتصاصها عن طريق الجلد. ويوجد أكثر من 300 نوع مختلف من الزيوت العطرية التي يمكن استخدامها بشكل فردي أو ممزوجة مع غيرها، ويمنح كل نوع تأثيرًا مختلفًا.

تاريخ العلاج بالروائح

يُعَدُّ العلاج العطري تقنية طبية عريقة وحقيقة علمية وطبية ذات جذور تاريخية، حيث يعود تاريخه إلى العصر الفرعوني؛ إذ شاع استخدام الروائح والزيوت العطرية ضمن الطقوس الدينية والمعالجات الروحانية. ولم يقتصر استخدام هذا العلاج على مصر القديمة، بل انتشر في معظم الحضارات القديمة، مثل الصين والهند واليونان وغيرها. فقد استخدم اليونانيون القدماء الزيوت والعطور للتداوي والزينة، كما استخدم زيت اللافندر لتعطير حمامات الرومان، ولأكثر من مائة عام مضت كان يُستخدم في العلاجات العشبية. كذلك، اعتمد الطب الهندي على التدليك العطري، بينما استخدم هنود أمريكا الشمالية الزيوت العطرية في العلاجات الشعبية.

يقول قيس كاظم الجنابي في كتابه العطر عند العرب: “تُعَدُّ العُطارَة من الفنون العربية الأصيلة التي ارتبطت بتاريخ الجزيرة العربية قديمًا وحديثًا، وقد ازدادت أهميتها بمجيء الإسلام. وقد ساهم التفوق العربي في الكيمياء وعلم النبات في تطوير صناعة العطور وانتشارها في العالم الإسلامي”. ولا تزال جذور هذا الفن واضحة المعالم في منطقة الخليج والإمارات، من خلال الممارسات اليومية في التعطّر وحرق البخور.

تحضير الزيوت العطرية

لا شك أن الحصول على الزيوت العطرية عملية معقدة تتطلب العديد من الإجراءات لاستخلاصها وتحضيرها للأغراض الطبية. وعادةً ما تكون مصادر هذه الزيوت نباتات عشبية مختلفة، حيث يتم استخراجها عن طريق التقطير أو العصر البارد، وذلك للوصول إلى أعلى درجات التركيز والنقاء. وهناك بعض الخطوات التي ينبغي اتباعها عند الحفظ والتخزين، أهمها عزل هذه الزيوت عن الضوء والاحتفاظ بها في حاويات معتمة وأماكن مظلمة حتى لا تفسد أو تفقد فعاليتها بفعل التفاعل الضوئي أو التطاير.

وبالإضافة إلى المصادر النباتية، هناك بعض الزيوت الشهيرة ذات المصادر الحيوانية، مثل العنبر، الذي يُستخرج من الحوت الأزرق في صورته الخام، ثم يُعالَج ليصبح صالحًا للاستخدام، والمسك الذي يُستخرج من بطن الغزلان، حيث يجفف ويُنقع في الزيت لمعالجته.

أشهر الزيوت العطرية وفوائدها

هناك مجموعة كبيرة من الزيوت العطرية المستخدمة في العلاج العطري للاستشفاء من الأمراض المختلفة، ومنها:

– زيت النعناع: يُعَدُّ من أشهر الزيوت المستخدمة في العلاج العطري، حيث توضع بضع قطرات منه على كمية مناسبة من الماء الساخن في كوب صغير، ثم يُستنشق البخار المتصاعد، ما يساعد على علاج مشاكل القصبة الهوائية والرئتين. يُنصَح به للمدخنين الراغبين في التخفيف من أثر التبغ أو المقلعين حديثًا عن التدخين لإزالة آثار الدخان في المجاري التنفسية.

– زيت الكافور: يُستخدم غالبًا عن طريق الاستنشاق، إلا أنه من الأفضل تناوله عن طريق الفم لتطهير الحلق وعلاج اضطرابات الحنجرة، ويتم استخدامه بنفس طريقة زيت النعناع.

– زيت حبة البركة: يُعدُّ من أفضل الزيوت لعلاج أمراض الجهازين الهضمي والبولي، حيث يساعد في التخفيف من الأعراض المؤلمة التي قد تصيب أعضاء هذين الجهازين. يُنصَح بوضع قطرات قليلة منه على مشروب عشبي، مثل اليانسون أو النعناع، وتحليته بعسل النحل، ثم تناوله على الريق يوميًا لتخفيف آلام المعدة والأمعاء والقولون، وطرد الغازات، والمساعدة في التخلص من الحصوات المرارية، فضلًا عن دوره في التخفيف من التهابات المثانة والبروستاتا، وتعزيز المناعة.

– زيت بذرة الخس: يُستخدم في العلاج العطري لاحتوائه على عناصر مضادة للأكسدة، مثل فيتامين هـ، ما يساعد على حماية الخلايا من التلف.

– زيت بذرة الجرجير: يمكن تناوله في صورة بضع قطرات مع مشروب ساخن أو إضافته إلى الأطعمة، حيث يُعَدُّ مفيدًا لتعزيز الطاقة وتدعيم القدرة الجنسية عند الرجال.

– زيت القرنفل: يحتوي على مسكنات طبيعية لآلام الأسنان، فضلًا عن قدرته على معالجة التهابات اللثة والإسراع في التئام جروحها.

– زيت الصبار: يُستخدم لعلاج التهابات البشرة المختلفة، ويمكن وضعه على الوجه كقناع لشد البشرة وإزالة آثار التجاعيد والهالات السوداء أسفل العينين.

– زيت الصندل: يُستخدم في تدليك عضلات الجسم المرهقة أو المفاصل التي تعاني من الالتهابات والخشونة، إلا أنه يجب استشارة الطبيب قبل استخدامه في حالات الأمراض المزمنة.

كيفية الاستخدام

يتم العلاج بالروائح من خلال:

1- الاستنشاق: يمكن استنشاق الزيوت العطرية بتبخيرها في الهواء باستخدام وعاء ناشر، أو رذاذ قطرات زيت، أو إضافتها إلى حمام بخار.

2- التطبيقات الموضعية: يتم تطبيق الزيوت العطرية من خلال تدليك الجسم بها، أو استخدامها في منتجات الاستحمام والعناية بالبشرة، حيث تُمتص من خلال الجلد.

آلية التأثير

تنشّط الزيوت العطرية مستقبلات الشم في الأنف، والتي ترسل إشارات إلى الدماغ عبر الجهاز العصبي. وتؤثر هذه الزيوت في مناطق معينة من الدماغ، منها الجهاز الحوفي المسؤول عن المشاعر. كما يمكن أن تؤثر على منطقة ما تحت المهاد، التي تستجيب بإفراز مواد كيميائية، مثل السيروتونين، مما يساعد على تحسين المزاج.

السلامة والآثار الجانبية

يُعَدُّ العلاج بالزيوت العطرية آمنًا بشكل عام، لكنه قد يُسبب بعض الآثار الجانبية، مثل تهيج العينين والجلد والأغشية المخاطية، أو حدوث رد فعل تحسسي طفيف. كما توجد حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتحديد تأثير الزيوت العطرية على الأطفال والنساء الحوامل أو المرضعات، وكذلك مدى تفاعلها مع بعض الأدوية وطرق العلاج الأخرى.

بين الرفض والقبول

على الرغم من الشعبية التي تتمتع بها علاجات الزيوت العطرية، هناك الكثير من الأشخاص الذين يعارضونها. ويدّعي المشككون أن الآثار المفيدة للزيوت العطرية تعود في الواقع إلى تأثير الدواء الوهمي، حيث يقنع الأشخاص الذين يخضعون للعلاج أنفسهم بأنهم يشعرون باسترخاء وهدوء أكثر، وبالتالي يعتقدون أن العلاج مفيد. ويرى المعارضون أن هناك أدلة علمية قليلة جدًا على فعالية الزيوت العطرية في علاج الألم، الإصابات، وتقوية جهاز المناعة.

أما أنصار العلاج بالزيوت العطرية، فيدّعون أنها فعالة في علاج الاضطرابات العضلية، أمراض الجلد، مشاكل الجهاز الهضمي، والتوتر النفسي. فعلى سبيل المثال، أظهرت الدراسات أن بعض الزيوت العطرية، مثل زيت شجرة الشاي، تمتلك تأثيرات مضادة للبكتيريا، لكن لا توجد أدلة كافية حول فعاليتها ضد الفيروسات أو الفطريات، وفقًا لموقع “ويب طب”. ولا يُعد العلاج بالروائح العطرية بديلاً عن العلاجات الطبية، إلا أن الأبحاث وجدت أنه مفيد في بعض الحالات، إذ إنه – بحسب موقع “ويب ميديا” – يعزز الشعور بالاسترخاء، ويحسن جودة النوم، ويخفف من القلق والاكتئاب والضغط، كما يساعد على تحسين جودة الحياة لدى مصابي الأمراض المزمنة كالخرف، ويقلل من بعض الآلام، مثل آلام الفصال العظمي، حصى الكلى، والركبة، بالإضافة إلى دوره في محاربة البكتيريا عند تطبيقه على الجلد، والتخفيف من الأعراض الجانبية لعلاج السرطان، مثل الغثيان.

دراسات وأبحاث تثبت فعالية العلاج العطري

أكدت العديد من التجارب صحة هذا العلاج، فمن خلال تقنية التخطيط الموجي للدماغ، أمكن تحديد فعالية الكثير من الروائح والعطور في تغيير أو إلغاء موجة “ألفا”. وقد قُسمت الروائح وفقًا لهذه الدراسة إلى روائح مستثيرة تُغلق هذه الموجة، وأخرى مهدئة تزيد من قوتها ومدتها. واكتشف الباحثون أنه عند ارتباط الروائح بمستقبلات خاصة، تنتج شحنات كهربائية تنتقل عبر أعصاب الشم إلى المخ، ليصل تأثيرها إلى الجهاز الحافي، المسؤول عن معالجة المشاعر والذاكرة.

درست عدة مراجعات منهجية الفعالية السريرية للعلاج بالروائح في إدارة الألم أثناء المخاض، وعلاج الغثيان والقيء بعد الجراحة، وإدارة السلوكيات الصعبة لدى المصابين بالخرف، وتخفيف أعراض السرطان. وخلصت بعض هذه الدراسات إلى أنه في حين يحسن العلاج العطري مزاج المرضى، لا يوجد دليل قاطع حول كيفية تأثيره على إدارة الألم. ومع ذلك، فقد أظهرت بعض الدراسات فوائد صحية للعلاج بالروائح. إليكم نظرة على بعض النتائج المتاحة:

  • وفقًا لتقرير نُشر في “العلاجات التكميلية في الممارسة السريرية” عام 2017، حلّل الباحثون التجارب السريرية السابقة، ووجدوا أن التدليك بالروائح يحسن من آلام الدورة الشهرية مقارنةً بالتدليك دون استخدام الزيوت العطرية.
  • في دراسة نُشرت في “Worldviews”، أُجريت على النساء اللواتي يخضعن لخزعة الثدي، وُجد أن استنشاق مزيج من زيت الخزامى، وخشب الصندل، والنعناع البرتقالي، قد خفف من القلق، لا سيما مع استنشاق زيوت الخزامى وخشب الصندل.
  • وفقًا لدراسة أُجريت عام 2013 في قسم التخدير والإنعاش، تبين أن الغثيان انخفض بشكل ملحوظ بعد العلاج بالروائح باستخدام زيت الزنجبيل الأساسي، أو مزيج من الزيوت الأساسية للزنجبيل والنعناع والهيل.
  • قيمت دراسة نُشرت عام 2016 في “العلاجات التكميلية في الممارسة السريرية” فعالية العلاج العطري في تخفيف الألم والقلق قبل الجراحة. وُجد أن المشاركين الذين استخدموا زيت اللافندر الأساسي شعروا بتخفيف أكبر للألم والقلق مقارنة بأولئك الذين استخدموا العلاج الوهمي.

الخلاصة

العلاج بالروائح هو نوع من العلاج الذي يعتمد على الروائح، حيث يكون الأنف، الجلد، والدماغ هم الأساس فيه. وهو فن قديم يستخدم فيه العطور أو الزيوت الأساسية والمطلقة وغيرها من المواد لتحقيق فوائد بدنية ونفسية. وتتمتع كل رائحة أو زيت بخواص علاجية مميزة، مثل تخفيف التوتر، مقاومة العدوى الميكروبية، زيادة الإنتاجية، أو تحفيز الرغبة الجنسية.

يسهم العلاج بالعطور في الشعور بالاسترخاء، ويخفف من القلق والتوتر، كما يساعد في علاج العديد من الأمراض النفسية والعضوية، مثل الحروق، الالتهابات، الاكتئاب، الأرق، وارتفاع ضغط الدم. ومع ذلك، لا توجد حتى الآن سوى أدلة علمية محدودة تثبت أن العلاج بالروائح يمنع أو يشفي بعض الأمراض بشكل قاطع.

كما يساعد العلاج بالروائح في تحسين المزاج العام، خاصةً عند استخدام بعض الزيوت العطرية، مثل اللافندر، الورد، البرتقال، الليمون، البرغموت، وخشب الصندل. وقد كشفت العديد من الدراسات الطبية أن الزيوت العطرية التي كانت تستخدمها المولّدة “الداية” تقلل من الشعور بالخوف والتوتر لدى المرأة الحامل، كما أنها قد تقلل من حاجتها إلى المسكنات أثناء الولادة.