حفظ اللسان.. مفتاح الإيمان

يُعد اللسان من أهم أجزاء الجهاز الصوتي لدى الإنسان، ولأهميته البالغة سُميت اللغات باسمه، إذ يُقال: “اللسان العربي” أو “لسان العربية”، والمقصود بذلك هو اللغة العربية. ويُعتبر اللسان من أكثر أعضاء الجسم مرونةً وسرعةً في الحركة، وله دور كبير في عملية النطق، حيث يتخذ أوضاعًا وأشكالاً متعددة، مما يمكنه من الانتقال من وضعٍ لآخر، ما يُمكّنه من تشكيل الصوت اللغوي وفق أوضاعه المختلفة.

اللسان: عضو يرفع صاحبه أو يدنيه

على الرغم من أن اللسان عضوٌ واحدٌ بين أعضاء الجسد، إلا أنه أكثرها تأثيرًا وثنائية؛ فهو مفطورٌ على قول الخير، إلا أن قول الشر سرعان ما يطرأ عليه. فمن خلاله يُنطق لفظ التوحيد، وفي المقابل قد يخرج منه لفظ الكفر. ويمكن أن تُرتكب به أعظم الكبائر، إذ تخرج منه السخرية والاستهزاء، بمعنى الاحتقار والاستهانة، والتعرض لعيوب الآخرين ونقائصهم على وجه يُضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، أو حتى بالإشارة والإيماء، وكل ذلك ممنوع في الشرع، حيث ورد النهي عنه في الكتاب والسنة.

وباللسان قد يرتفع صاحبه ليبلغ أعلى المراتب، ويحصد أعلى الدرجات. ولأهمية حفظ اللسان قال الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: “اللسان معيار، أطاشه الجهل، وأرجحه العقل”. كما ورد عنه أنه أنشد بلسانه قائلاً:

يموت الفتى من عثرة لسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
فعثرته من فيه ترمي برأسه وعثرته بالرجل تبرأ على مهل

وقال الحسن البصري: “اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئًا جنت، وإذا عفَّت عفَّت”. وقال يحيى بن أبي كثير: “ما صلح منطق رجل، إلا عُرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطق رجل قط، إلا عُرفت ذلك في سائر عمله”.

وقال أحد الشعراء:

رأيت العز في أدب وعقل وفي الجهل المذلة والهوان
وما حسن الرجال لهم بحسن إذا لم يسعد الحسن البيان
كفى بالمرء عيبًا أن تراه له وجه وليس له لسان

 أقوال الحكماء والأدباء عن اللسان

قال بعض الحكماء: “الزم الصمت، تُعد حكيمًا، جاهلاً كنت أو عليمًا”. ويقول بعض الأدباء: “سعد من لسانه صموت وكلامه قوت”. كما يقول بعض العلماء: “من أعقل ما يتكلم به العقل، ألا يتكلم إلا بحاجته، ولا يتفكر إلا في عاقبته أو آخرته”.

وقال بعض البلغاء: “الزم الصمت؛ فإنه يكسبك صفو المحبة، ويؤمنك سوء المغبة، ويكسبك ثوب الوقار، ويكفيك مؤونة الاعتذار”. وقال بعض الفصحاء: “اعقل لسانك، إلا عن حق توضحه، أو باطل تدحضه، أو كلمة تنشرها، أو حكمة تبثها، أو نعمة تشكرها”.

الكلام والصمت في الأحاديث النبوية

لا شك أن الكلام هو معيار فضل المرء وأدبه، وهو ترجمة لما يدور في الضمير ويكشف عن مكنونات السرائر، إلا أنه لا يمكن استرجاعه أو تدارك آثاره. لذلك، على العاقل أن يحتاط من زلات اللسان، سواء بالصمت أو بالإقلال من الحديث.

وقد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: “رحم الله عبدًا قال خيرًا فغنم، أو سكت عن سوء فسلم” (حسنه الألباني في صحيح الجامع). وهذا الحديث يعالج مسألة شديدة الأهمية في حياة الإنسان، وهي متى يتكلم الشخص ومتى يصمت.

وفي حديث آخر قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ: “يا معاذ، أنت سالم ما سكتَّ، فإذا تكلمت فعليك أو لك” (رواه البيهقي). وقال أيضًا: “من حفظ لي ما بين لحييه وما بين رجليه، أضمن له الجنة” (أخرجه أحمد).

أقوال التابعين عن اللسان

يقول الحسن البصري: “لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام تفكر، فإن كان له قال، وإن كان عليه أمسك، وقلب الجاهل من وراء لسانه، فإن هم بالكلام تكلم، له وعليه”.

وقال ابن مسعود: “ما شيء أحوج إلى طول سجن من لساني”. وقال أبو الدرداء: “أنصف أذنيك من فيك، فإنما جعلت لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم”. كما قال مخلد بن الحسين: “ما تكلمت من خمسين سنة بكلمة، أريد أن أعتذر منها”.

صغر الحجم وعظم الشأن 

على الرغم من صغر حجم اللسان، إلا أنه يكون سببًا في دخول صاحبه الجنة أو انكبابه على وجهه في النار. لذا، ينبغي على المرء حفظ لسانه، وألا يخرج منه لفظة دون حساب، فلا يتكلم إلا بما يهدف من ورائه إلى الربح والزيادة في دين الله. وعندما يعتزم الشخص الحديث بكلمة، يجب أن ينظر أولاً فيما إذا كانت تنطوي على منفعة أو فائدة، فإن لم تكن كذلك فالأفضل الإمساك عنها. وإن وجد فيها منفعة، فلينظر إن كان بالإمكان استبدالها بكلمة أنفع منها، فلا يضيع الأولى بالأخرى. 

ويُعد اللسان مرآةً لما في القلب، إذ إن حركة اللسان تعكس بوضوح محتوى القلب، سواء أراد صاحبه ذلك أم لا. وقد قال يحيى بن معاذ: “القلوب كالقدور تغلي بما فيها وألسنتها مغارفها”، فالإنسان حين يتكلم يُخرج (يغرف) ما في قلبه، فيظهر عذوبة حديثه أو مرارته، وما يحتويه قلبه من خفايا. 

خطورة الكلمة وأثرها

وسُئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: “تقوى الله وحسن الخلق”، وعن أكثر ما يُدخلهم النار، فقال: “الفم والفرج” (أخرجه الترمذي).

يشير الحديث إلى أن الفم قد يكون سببًا لدخول النار إذا استُخدم في النطق بالباطل أو أكل الحرام، لكنه في الوقت نفسه وسيلة لدخول الجنة إذا استُخدم في قول الحق وحفظ أمر الدين. وفي حديث آخر قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يُلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم” (أخرجه مسلم).

يبين الحديث أهمية الكلمة وأثرها؛ فقد تكون سببًا في رفع درجات الإنسان أو هلاكه. الكلمة إذا لم تُنطق ملكها صاحبها، ولكن إذا خرجت أصبح أسيرها، مما يستدعي التأمل والتفكر فيما ينطق به الإنسان.

ارتباط اللسان بالقلب والإيمان

وفي حديث أنس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه” (رواه أنس بن مالك). 

يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث أن استقامة إيمان العبد تكون باستقامة أعمال جوارحه، وأعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب، الذي يجب أن يكون ممتلئًا بمعرفة الله، ومحبته، وطاعته، وكراهية معصيته. ولا يستقيم القلب حتى يستقيم اللسان، فاللسان والقلب مرتبطان ارتباطًا وثيقًا؛ إذ يعبر اللسان عما ينعقد عليه القلب من الإيمان أو الكفر. ومن ثم، يجر اللسان صاحبه إما إلى الجنة وإما إلى النار. 

أما قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه”، فإن البوائق جمع “بائقة”، وتعني الغائلة والشرور. فالحديث يحذر من إيذاء الجار أو إلحاق الضرر به، إذ إن ذلك يتعارض مع استقامة الإيمان. 

حفظه أو التحدث بالصدق 

أنعم الله تعالى على الإنسان باللسان الذي يعبر به عما يحب أو يكره، ويبوح به عن مشاعره وأحاسيسه، ويتواصل به مع الآخرين. في المقابل، أمر الله تعالى الإنسان بحفظ لسانه وصونه من الشرور، كالغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية. وقد وردت العديد من الآيات الكريمة التي تحث على حفظ اللسان وتحث على الصدق والقول السديد، ومنها قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(الحجرات: 12). 

في هذه الآية يخاطب الله تعالى الذين صدقوا الله ورسوله وعملوا بشريعته، بأن يجتنبوا كثيرًا من ظن السوء بالمؤمنين، لأن بعض ذلك الظن يُعد إثمًا. كما يحذرهم من التجسس على عورات المسلمين أو الاغتياب، حيث إن الغيبة تمثل أكلاً للحوم إخوانهم الأموات، وهو أمر تكرهه النفوس. ويختم تعالى الآية بالدعوة إلى تقواه، مؤكدًا أنه تواب على عباده المؤمنين ورحيم بهم. 

وفي آية أخرى يقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الحجرات: 11).

تطالب هذه الآية المؤمنين بألا يسخروا أو يهزؤوا من بعضهم البعض، حيث قد يكون المهزوء به خيرًا من الهازئ. كما تنهى عن عيب الآخرين، أو استخدام ألقاب مكروهة، وتصف ذلك بالفسوق. ومن لم يتب عن هذه الأفعال، فإنه يظلم نفسه. 

ويقول تعالى:{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(ق: 18). في هذه الآية يتضح أن كل ما يلفظ الإنسان من قول، حتى أبسط الكلمات، يراقبه رقيب عتيد (حافظ) يكتبها ويحصيها، ليتم الحساب عليها يوم القيامة. 

لسان الصدق وأثره

ومن دعاء سيدنا إبراهيم -عليه السلام- قوله تعالى:{وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}(الشعراء: 84)، أي: اجعل لي ذكرًا حسنًا بعد موتي، واقتداءً بي في قول الحق والخير. 

وفي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا}(الأحزاب: 70)، يحث الله تعالى المؤمنين على تقواه، والالتزام بالقول السديد الذي يحقق الغايات الصالحة، ويجنبهم المحرمات، ويصلح أقوالهم وأعمالهم. 

المصادر:

  1. أدب الدين والدنيا، الطبعة الأولى، صفحة 442، أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي، دار المنهاج، جدة، 2013م.
  2. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، الطبعة الأولى، صفحة 310–311، ابن قيم الجوزية، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1996م.
  3. منهج القاصد تهذيب مختصر منهج القاصدين، الطبعة الأولى، ابن قدامة المقدسي، ترتيب: محمد صالح، الريان للطباعة والنشر والتوزيع، جدة، 2000م.