منذ بداية التاريخ البشري، وصولاً إلى القرن التاسع عشر، كان الملح هو المادة الأعز، التي بذل الإنسان جهودًا مريرة للحصول عليها على مر العصور، ومنذ استقرار الجنس البشري عبر الزراعة وتدجين الحيوانات، برز الملح بوصفه مادة أساسية يحتاج إليها الإنسان والحيوان، ومادة لحفظ الأطعمة، ولعل أول استخدام تاريخي لافت وكثيف، هو استعمال الفراعنة للملح في التحنيط.
المعلوم أن معتقدات الفراعنة كانت تتركز بقوة على فكرة الخلود لديهم، لذا فقد امتلأ التاريخ بجهود البحث عن الملح والإتجار به والقتال من أجله، ولآلاف السنين كان الملح هو الثروة، واحتفظ به التجار في مخابئ تحت منازلهم، وفرضت الحكومات الضرائب عليه لتمويل الحروب، وأحيانًا دفعت رواتب الجند مِلحًا، وكثيرًا ما استخدمت تلك المادة البيضاء نقودًا.
اليوم تغير الحال إلى النقيض تمامًا، إذ تجتاح أوروبا وأمريكا في الفترة الأخيرة مؤتمرات طبية وعلمية ضد مضار ملح الطعام، حتى إن إحدى المؤسسات الصحية الأمريكية طالبت المسؤولين بضرورة إصدار قانون يحتم وضع تحذير شديد ينبه إلى أن الملح يضر حتمًا بصحة الإنسان؛ وذلك على معلبات السردين والتونة والمخللات وغيرها من المعلبات التي تحتوى على نسبة كبيرة من الملح، كما هو مطبوع على علب السجائر من تحذيرات أضرار التدخين.
يتزعم الدكتور كلاريبون أكبر حملة في أمريكا ضد ملح الطعام، وتقوم الدوائر الصحية الأمريكية بتوجيه العديد من الاتهامات إلى ملح الطعام بعد أن ثبت علميًّا أنه أحد الأسباب الرئيسة لارتفاع ضغط الدم عند الإنسان، وأن الإفراط في استخدامه يؤدي إلى أمراض خطيرة، منها أمراض القلب وتصلب الشرايين والفشل الكلوى وغيرها من الأمراض المؤذية.
كما قام الدكتور لوت بيدج على رأس فريق من أطباء جامعة (تافت) الأمريكية بدراسة حالات أكثر من ألفي شخص من سكان جزر سليمان الواقعة جنوب المحيط الهادي وشمال غينيا، وكلهم من القبائل التي تتغذى على الخضراوات والأعشاب والبطاطس والحشرات ونوع من الدرنات، فلم يجد بين سكانها أي أثر لارتفاع ضغط الدم، بل ويندر جدًّا أن يرتفع لديهم حتى في أعمار الشيخوخة.
ثم قام د.بيدج بتقديم الوجبات الأوروبية الغذائية لعدد من أفراد تلك القبائل مع المحافظة على مظاهر الحياة البدائية حتى يكون التغير هو العامل الغذائي فقط، أي حتى لا يكون للمظاهر المدنية من تلوث وإرهاق عصبى تأثير على الجسم البشري. كان الفارق الوحيد بين غذاء القبائل البدائية في جزر سليمان وبين غذاء الحيوانات التي تجرى عليها التجارب هو احتواء الغذاء الجديد على الملح، وبعد عامين وجد الكوليسترول في الدم وارتفع الضغط وزادت السمنة وانتشرت هذه الأمراض بين القبائل التي كانت تنعم في الحياة بصحة جيدة وبقلوب خالية من الأمراض وشرايين وأوردة سليمة.
الملح بين الثورة والثروة
أصدر الدكتور كلاريبون كتابًا يوضح فيه أسباب الحملة الصحية التي يقودها ضد ملح الطعام، واعتبر أن الملح هو السبب الرئيسي في الإصابة بالبدانة المفرطة ويقول: أؤكد بكل ثقة علمية وتجريبية أنك عندما تخفف من ملح الطعام تخفف وزنك حتمًا وبشكل ملحوظ وفعال، وقد أوصى بثلاث وصايا للحماية من أضرار الملح وهي:
ـــ عدم وضع المخللات نهائيًّا على مائدة الطعام على الرغم من أنها لا تزيد الوزن في حد ذاتها، إلا أنها تساعد على احتجاز الماء في الجسم، وعليه يستحسن تناول السلطة الخضراء مع عصير الليمون الطازج.
ـــ الحد من تناول الموالح والمسليات مثل الفول السوداني المملح واللوز والبندق وكل المسليات المملحة.
ـــ التقليل من استخدام الملح عند طهيك للطعام، ولا داعي لوضع الملاحات على طاولة الطعام.
إن معظم الأطعمة التي يتناولها الإنسان خلال يومه العادي مثل الخبز والجبن والأسماك واللحوم تحتوي على نسب مختلفة من الأملاح تكفي حاجاته اليومية بل وتزيد.
في الحضارة الصينية، تفوق الملح في التاريخ الصيني بفضل الشخصية الأسطورية “هوانغدي”، الذي ابتكر الكتابة والأسلحة والنقل، والذي تذكر الأساطير أنه حظى بامتياز قيادة الحروب الأولى التي تم خوضها لأجل الملح. ويذكر أنه تم العثور على نصوص يرد فيها فرض ضرائب على الملح تعود إلى قرون قبل الميلاد. والواقع أن جذور الجداول حول الضريبة على الملح تمتد إلى زمن كونفوشيوس، ففي عهده أسس حكام الولايات الصينية ما يسمى اليوم بالمؤسسات الاستشارية، حيث يجتمع المفكرون المختارون لخوض النقاشات فيما بينهم، وتقديم النصح والمشورة للحاكم، وباعتباره المفكر الأول المعني بالأخلاقيات في الصين.
الملح يثير المقاومة العلنية
كان كونفوشيوس يبدي اهتمامًا بمواطن الضعف لدى البشر، ويسعى للارتقاء بمستوى السلوك البشري، وكان واحد منهم يدعى “شانغ”، من أنصار فلسفة الالتزام بحرفية القانون، فجاء “الغوانزي”، وهو أول نص مكتوب عن الإدارة الصينية للملح، وهو عبارة عن استشارة اقتصادية ومجموعة من الأفكار، تقضي بزيادة سعر بيع الملح، بحيث يتجاوز سعر الشراء ما يسمح للدولة بأن تستورده وتحقق بعض الأرباح من بيعه، وقيل إن سكان المناطق غير المنتجة للملح كانوا يصابون بالمرض، نظرًا للنقص في هذه المادة، ما يجعلهم يقومون بدافع اليأس بتكبد ثمن الملح وإن كان باهظًا، واعتبر أن الملح سيحمي اقتصاد الولايات.
في عام 1875م وضع عالم نباتات ألماني يدعى ما فيه جاكوب شليدن كتابًا يدعي فيه وجود علاقة مباشرة بين الضرائب على الملح والطغاة، أما الحجة التي تقف وراء الضريبة الفرنسية على الملح، فتمثلت بواقع أن الضريبة على الملح قد تشكل جزية أو ضريبة متساوية، يكلف بها كل شخص ما دام الأغنياء والفقراء على حد سواء يستخدمون الملح بنسب متساوية إلى حد ما.
ونشأت الضريبة الفرنسية على الملح بصورة تدريجية، تجلت بالمحاولة الأولى لإرساء نظام إداري شامل للملح في عام 1259 بالقرب من مارسيليا في ملاحات بيرري، وكان صاحب المبادرة الكونت شارل دى بروفانس، وبقيت الضريبة معمولاً بها إلى أن تم إلغاؤها نهائيًّا عام 1946.
كانت علاقة الهند ببريطانيا في ظل الاستعمار قائمة على اقتناص الملح الهندي، فقد كان الهدف من الاقتصاد الهندي تعزيز ثروات بريطانيا العظمى، وكان الملح الهندي يدار لمصلحتها. فقد أنشأت بريطانيا شركة تجارية، تعرف باسم شركة الهند الشرقية، لتدير مصالحها في الدول التي تقع تحت وصايتها. وكانت الهند تملك مخزون ملح جاهزًا في معظم المناطق، ومنذ العصور القديمة فرضت على معظم أنحاء الهند ضرائب متواضعة على الملح.
كانت منطقة أوريسا من أغنى المناطق الهندية بالملح، والضريبة فيها منخفضة، وفي عام 1790 طلب البريطانيون الإذن بشراء كامل إنتاج الملح في أوريسا، لكن حاكم المنطقة الهندي رفض لاعتقاده أنهم يريدون القضاء على ملح أوريسا، بغية الحفاظ على الأسعار المرتفعة للملح البريطاني.
بسبب هذا الطلب عمد البريطانيون إلى منع أوريسا من دخول البنغال، وفي عام 1803 احتل البريطانيون أوريسا بحجة محاربة التهرب وألحقوها بالبنغال، ومنذ عام 1804 أصبح ملح أوريسا موضع احتكار بريطاني بموجب إعلان رسمي، ومنع بيع الملح من قبل منتجين خاصين، وفي غضون عشر سنوات أصبح تصنيع الملح من قبل أي جهة أخرى غير الحكومة البريطانية تصرفًا غير مشروع. وقد انطلقت البذور الأولى للمقاومة في أوريسا بفضل شيوخ القبائل الذين تقيدت امتيازاتهم وسلطاتهم بفعل تدمير قطاع إنتاج الملح.
وفي عام 1817 اندلعت ثورة قام خلالها الأهالي بمهاجمة مكاتب الملح وقاموا بطرد العملاء وبعد أن فشلت حركة العصيان تخلى السكان المحليون عن المقاومة العلنية المفتوحة، وشرعوا ينتجون الملح ويتاجرون به في الخفاء، وعرف الجميع في إنجلترا أن الهنود مستاؤون من سياسة الملح البريطانية.
المراجع:
1-GINA KOLATA US NEWS LETTER BILD D. WISSEN. 1/2023.
2–GINA KOLATA BLUT HOCHDRUCK:IST SALZQOCH DER MIS SETAETER ?BILD D.WISSEN 12/2022.
3- J.M.MILES EL TUZ VE SAGLIDIMI.TUBITAK. 8 /2022.
4- ALFRED SCHUERMANN. TMA VE BIZ. TUBITAK 6/2021.
5-JUERGEN-PETER SYOESSEL.BLU-THOCHDRUCH:VORSICHT MIT SALZ.BILD D.WISSEN.8/2020.
6-BLUTHOCHORUCK:ZWEO DEUTSCHE WISSEN SCHAFTLER.WIDERSPECHEN DEM SU- REPORT.BILD D. WISSEN 1999.