العمر لحظة طالت أم قصرت فهي لحظة، لحظة في عمر الدهر، لحظة نحصيها بالسنين ونعدها بالأشهر، ونحسب أيامها ولياليها، ونجمعها بالساعات والدقائق والثواني، ولكنها في النهاية لحظة، لا يعلم مداها أحد سوى الله عز وجل، ولا أحد غيره يعلم متى تبدأ ومتى وكيفما تنتهي.
ولبيان مدى استشعارنا بقلة أيامنا على الأرض وقصر عمرنا فيها، يقول الله تعالى: ﴿وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاَثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا﴾(الكهف:25)، وهذا تقرير القرآن في مدة مكث أهل الكهف في الكهف، وإن كانوا قد استقصروها، كما حكى عنهم القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾(الكهف:19)، فانظر كيف مرت هذه السنون على أهل الكهف وكانت عندهم يومًا أو بعض يوم؟! ومثل ذلك حدث لعزير كما قال تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ﴾(البقرة:259)، فهذه المائة عام عند عزير المؤمن كانت يومًا أو بعض يوم.
وقد أوردت السنة المطهرة ما يبين أن هذه الدنيا ما هي إلا ساعة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا؛ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها)، فهذا مثل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الدنيا كالمسافر المستظل تحت شجرة ثم ترك الظل والشجرة واستأنف السفر. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ “قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم” قال لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين. ثم قال يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم، فيقول بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم، ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين).
وإلى ذلك تشير الآيات الكريمة في قوله تعالى: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ﴾(المؤمنون:112-113)، وإن الله سبحانه وتعالى ليعلم كم لبثوا، ولكن السؤال هنا لاستصغار أمر الأرض، واستقصار عمرهم فيها، وكذلك جاءت إجاباتهم بإحساسهم بقصر تلك الحياة وضآلتها فقالوا (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾(الروم:55)، أي إنهم يقسمون بأنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في هذه الدنيا.
وكذلك حال الفرد منا عندما يتذكر الأيام الخوالي من حياته بحلوها ومرها، مرحلة طفولته وهو يمرح ويلعب في كنف والديه، ثم مرحلة شبابه مرحلة الصحة والقوة والحصول على الشهادات الدراسية، ثم التوظف والترقي في السلم الوظيفي والزواج والإنجاب، ثم مرحلة الشيخوخة واقتراب العمر من نهايته، عندما يتذكر كل هذه المراحل وما بها من أحداث صغرت أم كبرت يجدها مرت أمامه في لحظات قليلة، ويستشعر وكأنها قد حدثت في زمن أقل بكثير عما استنفذته من عمره المديد، ويستشعر أيضًا كما لو أنها وقعت في الأمس القريب وليس منذ عقود بعيدة مضت، ويستغرب مما وصل إليه حاله، ويندهش كيف مر منه كل هذا العمر بهذه السرعة.
حينئذ يتمنى الرجوع إلى سابق عهده ليعمل صالحًا ويصلح ما أفسده في حياته، لا يتمنى العودة لجمع المال وغرس الأشجار وبناء البنيان ولا لأي متعة من متع الدنيا ولكن ليعمل عملاً صالحًا، قال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾(المؤمنون:99)، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾(السجدة:12)، وسؤال الرجعة ليس مختصًّا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾(المنافقون:10-11).
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر: (ألا أبشرك يا جابر “وكان قد استشهد أبوه يوم أحد” فقال: بلى بشرك الله بالخير فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أحيا أباك وأقعده بين يديه وقال تمن علي يا عبدي ما شئت أعطيكه فقال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك فأقتل فيك مرة أخرى قال له إنه قد سبق مني أنك إليها لا ترجع). وحياة الفرد منا وإن طالت فهي محدودة، بينما حياة الإنسان في الأرض مستمرة حتى قيام الساعة. ومهما طال عمر الإنسان فالموت حتمًا نهايته.
وقد قيل: وما المرء إلا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق
وقد لبث نوح عليه الصلاة والسلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا ثم مات بعد ذلك، ولبث أصحاب الكهف في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا ثم ماتوا بعد ذلك، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك) (رواه الترمذي).
فالكل ميت لا محالة، يقول الحق جل وعلا مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾(الزمر:30) لبيان حتمية الموت ووجوبه على الجميع، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾(آل عمران:185)، ويقول: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾(الأنبياء:34)، ويقول سبحانه وتعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾(المؤمنون:15-16)، وكذلك في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾(البقرة:28)، وغير ذلك من آيات القرآن الكريم التي تدل دلالة قاطعة على حتمية موت كل إنسان، حتى الملائكة وغيرهم من مخلوقات الله الذين لا تدركهم حواسنا مثل الجن والشياطين لا بد أن يذوقوا الموت، وقد وردت الآثار التي تبين كيف أن ملك الموت هو آخر من يموت من الملائكة، ويفنى كل من عليها ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ﴾(الرحمن:27)، أي يبقي الملك الديان، الحي القيوم مالك كل شيء وخالق كل شيء.
وأخيرًا، فها هي الأيام تنطوي بلمح البصر، وها هي لحظتنا تكاد أن تنقضي، وها نحن نساق إلى ما آل إليه سالف الآباء والأجداد، فليس إلى التأخير من سبيل، فمن ذا الذي يترك بصمة على كتف الزمن، وينقش اسمه بحروف من ذهب على صفحات التاريخ، ليبقى راسخًا في أذهان الأمم كل الأمم، مع ما ينتظره من حسن الجزاء في الآخرة، قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ﴾(القصص:67)، وقال عز وجل: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(النحل:97).