عندما يطرق آذننا مصطلح “عبادة” فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا الصلاة والصيام وبر الوالدين وصلة الأرحام وغيرها من العبادات التي تتبادر إلى الذهن عادة، ورغم عظم شأن هذه العبادات وكبير فضلها إلا أن هناك عبادات أصبحت خفية –ربما لزهد الناس بها وغفلتهم عنها- وأجر هذه العبادات في وقتها المناسب يفوق كثيرًا أجور العبادات والطاعات، ومن هذه العبادات عبادة جبر الخواطر ومما يعطي هذا المصطلح جمالاً أن الجبر كلمة مأخوذة من أسماء الله الحسنى وهو “الجبار” وهذا الاسم بمعناه الرائع يُطمئنُ القلبَ ويريحُ النفس فهو سُبْحَانَهُ “الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ”. تفسير أسماء الله للزجاج (ص: 34).
جبر الخواطر وتطييب القلوب عبادة وتشريع إلهي حفل به القرآن الكريم في سور كثيرة منه، ومن أعظم السور التي جاءت لجبر الخواطر سورة الضحى والشرح والكوثر وردت لجبر خاطر النبي صلى الله عليه وسلم، وسورة عبس حيث نزلت جبرًا لخاطر عبد الله بن أم مكتوم، كما حفل القرآن أيضًا في مواضع كثيرة على جبر خاطر الأنبياء والرسل وغيرهم كآدم وإبراهيم وموسى ويوسف وعيسى ومريم وأم موسى، وجاءت السنة النبوية المطهرة أيضًا في كثير من نصوصها، تحث على جبر الخواطر وتحض على تطييب القلوب، وبينت فضل هذه العبادة وعظم أجر من تحلى بها، لما لها من الأثر الطيب على الأمة.
وجبر الخواطر هو مصطلح يعني تسلية النفس المكسورة وتهدئة القلب المضطرب وتفريج الهم والغم عن الإنسان المحتاج.. وهو من الصفات الحميدة والأخلاق الإسلامية التي يحث عليها القرآن والسنة.
ما هو جبر الخواطر
جبر الخواطر هو إظهار التعاطف والمشاركة مع الآخرين في أحزانهم ومصائبهم ومشكلاتهم، ومحاولة تخفيف عبئها عنهم بالكلمة أو الفعل أو الدعاء. وهو إدخال السرور والبهجة إلى قلوب المحزونين والمكروبين والمحتاجين، وإشعارهم بأنهم ليسوا وحدهم في هذه الدنيا، بل لهم إخوة في الإيمان يساندونهم ويعينونهم. وهو سد حاجات الناس بقدر المستطاع، سواء كانت حاجات مادية أو معنوية أو اجتماعية أو نفسية، وتقديم المساعدة والإغاثة للفقراء والمساكين والأيتام والأرامل والمحرومين. وهو تقدير قدر الآخرين واحترام شعورهم وكرامتهم، وعدم إذلالهم أو إهانتهم أو إزعاجهم أو إغضابهم، بل التعامل معهم بلطف وحسن خلق. وهو تصحيح المفاهيم الخاطئة والأفكار السلبية التي قد تصيب بعض الناس في ظروف صعبة، وإرشادهم إلى ما فيه خير لهم في دينهم ودنياهم، وتذكيرهم بفضل الصبر والتوكل على الله.
وهو تقوية الروابط بين المسلمين، وبث روح التآخي والتضامن بينهم، وتحقيق مبدأ التكافل الاجتماعي، وتجنب كل ما يثير الفتنة أو يزرع الشقاق أو يولد البغضاء.
أمثلة لجبر الخواطر
في هذا الزمان تشتد الحاجة إلى مواساة الناس والتخفيف عنهم وتطييب خاطرهم؛ لأن أصحاب القلوب المنكسرة كثيرون، نظرًا لشدة الظلم الاجتماعي في هذا الزمان، وفساد ذمم الناس واختلاف نواياهم، ففي مجتمعاتنا ترى أن هذه معلقة لا هي زوجة ولا هي مطلقة، وهذه أرملة، وذاك مسكين، وهذا يتيم، والآخر عليه ديون وغم وهم، وهذا لا يجد جامعة، وذاك لا يجد وظيفة، وهذا لا يجد زوجة، أو لا يجد زواجًا، وذاك مريض والآخر مبتلى… والهموم كثيرة.
رغم تكرار تلك الكلمات على مسامعنا، “جبر بخاطري” “كسر بخاطري” “الله يجبر بخاطرك”، إلا أننا في بعض الأحيان لا نبالي لسماعها ولا نلقي لها بالاً؛ وذلك لأنها كلمات اعتدنا على سماعها دون الخوض في معانيها، ولا في تأثيرها علينا كأفراد أو على من حولنا، في حين أننا لو راقبنا تأثير الكلمات التي نتلقاها في نفوسنا، أو الكلمات البادرة منا وتأثيرها في نفوس الآخرين، لغيَّرنا من أنفسنا وطريقة تعاملنا، لا سيما مراعاة المشاعر.. فما أجمل أن نجد من يُعزّينا في حزننا، ويُساندنا في شدّتنا، ويُبشّرنا بالخير في كربتنا، ويُشاركنا الفرح في سعادتنا، وما أروع أن نكون نحن هؤلاء الذين نجبر خواطر إخواننا المسلمين، ونُسعدهم بكلمة طيبة أو فعل حسن أو دعاء مخلص.
هناك قول مشهور بين الناس: “من سار بين الناس جابرًا للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر”، أي إن الإنسان الذي يُغيث الملهوف، ويُسارع في جبر خاطر المنكسرين من حوله، فإنّه وفي يوم من الأيام عندما يقع في شدة كبيرة سوف ينقذه الله عز وجل من هذا الخطر، كما سارع في إنقاذ غيره وجبر بخاطره. أجمل شعورٍ يُمكن أن ينقلك إلى عالم من السعادة هو أن تجبر خواطر الناس.
ومن الأمثلة أيضًا: أن تشكر من قدَّم لك خدمة ولو كانت واجبة عليه، كأن يشكر الزوج زوجته وتشكر الزوجة زوجها، ويشكر الوالدين أبناءهم، وأن تثني على من بذل جهدًا ولو لم يستطع إتقانه، وتمدح ما قام به من جهد، ولا سيما إذا كنت مسؤولاً عنه، كالمدير حين يشكر موظفيه، أو المسؤول حين يثني على المجتهدين من عماله، فإن هذا الثناء سيرفع هِمَّتهم ويُطيب نفوسهم، والهدية ولو لم تكن شيئًا ثمينًا، ففيها جبر للخواطر وتطييبٌ للنفوس، فهي من أسباب زرع المحبة بين الناس، ففي الحديث عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم قال: (تَهادَوا تحابُّوا) (أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي، وصححه الألباني).
ومن جبر الخواطر حين تتقصد الشراء من البائع البسيط الذي يكد في طلب لقمة العيش الحلال، ولا تبخسه بضاعته، بل ربما تعطيه أكثر من قيمة بضاعته.
وقبول اعتذار المخطئ من جبر الخواطر، فحين يأتيك أخوك متأسفًا على ما بدر منه يرجو عفوك وصفحك، ينبغي عليك ألا تخيب ظنَّه فيك، فاعفُ واصفح واجبُر خاطره، والله يجبر خاطرك ويرفع قدرك؛ لأنك رفعت قدر أخيك. وحين تحزَن مع أخيك الحزين، وتعزِّيه وتواسيه، وتفرح معه إذا كان مسرورًا وتبارك له وتظهر له السرور والبهجة، فإن هذه مواقف راقية مؤثرة تجبر الخواطر، وتراعي المشاعر.
عديدة هي المواقف التي يمكن استغلالها للجبر بالخاطر وإسعاد الناس من حولنا، فكل منا يستحق أن يفرح، فجزئيات الحياة وتفاصيلها التي نتغاضى عنها أحيانًا، هي مصدر السعادة لنا ولغيرنا إن أحسنَّا استغلالها، فعلى سبيل المثال منصات التواصل الاجتماعي من أكثر الوسائل استخدامًا في عصرنا هذا، وبالتالي أبلغها لإيصال رسالة ما، لجبر أو كسر خاطر شخصٍ ما.
فبكبسة زر إعجاب فقط تستطيع أن تدخل الفرحة لقلوب لا تعرفها، وتسعد آخرين بتعليق ينم عن محبة ومشاعر نبيلة، وهذا كله لا يكلفك شيئًا سوى التغلب على نفسك إن منعتك، وهذا لا يمنع من تعبيرك عن عدم إعجابك بذات المنشور أو الصورة، ولكن دون أن تجرح الآخرين.
اجعل من تعاملاتك اليومية نورًا يتسلل إلى القلوب، فيضيئها ويدفئها ولا تسهتن بذلك، فكم من قابع في ظلام مشاكله، تنير دربه كلمات تشجيع بسيطة، وكم من مرتجف وسط زوابع الحياة، تشرق شمس ربيعه مع ابتسامة عطف هامسةً “ها نحن هنا لأجلك”.
وختامًا، فإن جبر الخواطر عبادة يسيرة، ليس شرطًا أن تبذل فيها مالاً، أو جهدًا، فيمكن أن تتحقق بابتسامة، مسحة على رأس يتيم، إماطة أذى، تواضع مع الغير ورفع الحرج عنهم… وهي من أعظم العبادات إلى الله عز وجل لذا كان من ثواب فاعلها أن يكافأه الله عز وجل بجبر خاطره، ويكفيه شر المخاطر. وجبر الخواطر أدب وخلق رفيع لا يتخلق به إلا أصحاب النفوس النبيلة والطيبة، فعلينا بهذه العبادة وهذا الخلق كي يجبر الله خاطرنا في زمن أغلقت الأبواب على أصحابها، وزاد الهلع والخوف بين البشر وتوقفت شرايين الحياة في كثير من البلدان والمجالات.. فيالها من عبادة يحبها الله.
وكما أن جبر الخواطر له أثرٌ طيب في النفوس، فإن كسر الخواطر قد يحدث أثرًا سيئًا في نفس الإنسان، فرُبَّ كلمة قيلت من شخص كانت سببًا في تدمير سعادة آخرين، فالكلمة قد تجبر وقد تجرح، الكلمة تصل إلى القلب ويحللها العقل، وربما يستمر التأثير حتى يصل إلى جميع الجوارح، فكم من مبدع قتلت إبداعه كلمات المثبِّطين، وكم من مريض تحطمت معنوياته بسبب عبارات بعض الزائرين، وكم من مجتهد في عمله أصبح متكاسلاً بسبب كسر خاطره وعدم تقدير جهده من المسؤولين، ولكن ينبغي على المسلم أن يحرص على ألا تفتَّ عزمه إساءة الآخرين، أو تجاهل الغافلين، وأن يمضي قُدمًا في همة عالية، كعلو الجبال الراسية، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
لن تستطيع أن تجبر خواطر من حولك، إذا كنت تمتلك صفة الأنانية وحب الذات، ففي ذلك الوقت سوف تشعر بأنك فوق الجميع، ولا أحد يرتقي أن تتحدث معه، وستشعر بأنك تعيش في دنيا لا يوجد بها أحد غيرك؛ أنت الوحيد المستحق فيها أن تعيش سعيدًا، مما يجعلك تقلل من مشاكل وأزمات الآخرين، وتفضح أسرارهم وتذكر عيوبهم وتهزأ بأعمالهم، لأنك لن ترى حينئذ سوى نفسك؛ لذا عليك بالتخلي عن هذه الصفات اللعينة، والتحلي بالتواضع، كي تستطيع خدمة الآخرين بمحبة.