الرفق بالحيوان في التراث العربي

رعاية الحيوان ومساعدته في مطعمه ومشربه، وفي صحته ومرضه في التراث العربي والإسلامي.

لم يخلق الله الإنسان ككائن حي وحده، وإنما خلق معه عددًا لا يحصى من حيوانات البر والبحر والجو، منها ما هو مأنوس يعاشره المرء، بل ويتعامل معه في حياته مثل الفرس والحمار والبقر والكلب والقط وطيور الزينة، ومنها الجوارح والضواري والوحوش التي لا يأمن الإنسان شرها، فإما أن يسعى إلى القضاء عليها، وأما أن يقيّد حريتها ويجعلها متاعًا للنظر في حدائق الحيوان، سواء في باحات بغير أسوار أو في أقفاص مدججة بثقيل الأقفال. أما المؤنس من الطير والحيوان فيألفه الإنسان، لأسباب عدة أهمها الملكية والملازمة والتعود.

والحضارة العربية لها السبق في الرفق بالحيوان، ليس باعتباره ممارسة اجتماعية من قبيل التقليد والعرف الاجتماعي ولكن رأفة ورحمة به، على سبيل المثال المتصفح لديوان الشعر العربي الجاهلي، قلما يجد قصيدة تخلو من ذكر الناقة، سواء كان وصفًا مباشرًا أم تشبيها لحيوانات أخرى بها أو محادثة بين الناقة وصاحبها لبث الشكوى أو المناجاة.

وهناك ظاهرة في الشعر العربي تعرف بتضييف الذئب، فالذئب الجائع- كحيوان- لا يروم أكثر من الطعام، فإذا قدم له وشبع ترك صاحبه وولى.

فالشاعر الجاهلي المرقش الأكبر (ربيعة بن سعد بن مالك) يشير في إحدى قصائده إلى أنه عندما أوقدا النار للشواء، (عراه) ألم به، (أطلس اللون) ذئب فيه غبرة إلى سواد، فرمى له (حزة) قطعة من الشواء، فهو يكرم ضيفه ولا يفحش عليه. (فآض) رجع الذئب فرحًا وهو ينفض رأسه كما يرجع بالنهب (الكمي) الفارس الشجاع، (المحالس) الذي يصمد في الحرب ولا يبرح مكانه، فيقول:

 ولما أضأنا النار عند شوائنا        عَرانا عليها أطلسُ اللون بائسُ

نبذتُ إليه حُزّةً من شِوائنا            حياءً وما فُحشي على من أجالس

فآضَ بها جذلانَ ينفضُ رأسه       كما آب بالنهب الكمي المحالِس

فمنذ القدم وللحيوان شأن كبير لدى العرب، لأنه كان ولا يزال من مكونات حياتهم الأساسية، فهو وسيلة السفر والترحال لديهم، ومعينهم في الزراعة والحصاد، كما كان معينهم في الحرب والصيد والسباق.

ولما جاء الإسلام برسالته السامية، حث المسلمين على تكريم الحيوانات والرأفة بها، وذلك بتعدد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في هذا الشأن، والتي بنى عليها الفقهاء أحكامًا شرعية وآدابًا التزم بها المسلمون في الحواضر والبوادي، ونشأت لها عمائر ومنشآت لرعاية الحيوان والرفق به، صارت عبر العصور من شواهد العظمة والريادة والتحضر في الحضارة الإسلامية، فالقرآن الكريم حين يصف أصنافًا من الحيوانات بالنعم والأنعام، فإنه يكرّم هذه المخلوقات، كما تسمّت سور عديدة بأسماء عدد من الحيوانات، كسورة البقرة والأنعام والنحل والنمل والفيل، وذكر القرآن الكريم عديدًا من الحيوانات والطيور وربطها بالإنسان عامة، وبكثير من الأنبياء والصالحين خاصة، واستعملها القرآن الكريم كمضرب للأمثال، مثل: ناقة صالح وحوت يونس وغنم داوود وهدهد ونمل سليمان وطير إبراهيم، كما ضُرب بالحمار مع الرجل الصالح دليل على “البعث”، وضُرب المثل بالكلب في مواقف، وبالذباب في مواقف، وبالطير في مواقف أخرى، قال تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾(الأنعام:38)، وقوله تعالى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾(النحل: 5-8).

وقد استنبط الفقهاء والمفسرون من هذه الآيات أن الحيوان شديد الارتباط بالإنسان، وثيق الصلة به، قريب الموقع منه، ومن هنا كان للحيوان على الإنسان حرمة وذمام، كما جاء في تفسير القرطبي.

كما أرسى الرسول صلى الله عليه وسلم حضارة الرحمة الإسلامية بمعناها الشامل ومنها الرحمة بالحيوان، ظهر ذلك جليًّا من دعوات الرسول الكريم المتكررة التي لم تتوقف بالرحمة بالحيوان بكل أصنافه وأنواعه كقوله صلى الله عليه وسلم: “الراحمون يرحمهم الرحمن” (رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم) كما دعا إلى الشفقة بالحيوان والرفق به ومساعدته في مطعمه ومشربه وفي صحته ومرضه، بل وأثناء ذبحه، قال صلى الله عليه وسلم: “من أُعطِي الرِّفق فقد أعطي حظه من خير الدنيا والآخرة” (رواه احمد)، وقال: “بينما رجل يمشي بطريق إذِ اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها، فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئرَ فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفِيه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله تعالى له، فغَفَرَ له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟ فقال: “في كل ذات كبد رطبة” (أخرجه البخاري، ومسلم، ومالك، وأحمد، وأبو داود) وقال صلى الله عليه وسلم: “دخلتِ امرأةٌ النار في هرة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض” (أخرجه البخاري ومسلم) وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة، وكلوها صالحة” (رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه) كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا، وعلى منهجه صلى الله عليه وسلم سار المسلمون، وعليه قرر علماء الأمة وفقهاؤها من أحكام كفيلة برعاية الحيوان، تبين وجوه الرحمة بذلك المخلوق، بدءًا من حرمة إجاعته وتعريضه للهزال والضعف، وطول المكوث على ظهره، وتحميله أكثر من طاقته، إلى رحمته قبل ذبحه إن كان مما يؤكل.

كما قرر فقهاء المسلمين أن النفقة على الحيوان واجبة على مالكه، فإن امتنع أُجبر على بيعه أو الإنفاق عليه أو تركه إلى مكان يجد فيه رزقه ومأمنه، أو ذبحه إن كان مما يؤكل.

كما قرر بعض الفقهاء أنه إذا لجأت هرة عمياء إلى بيت شخص وجبت نفقتها عليه حيث لم تقدر على الانصراف، وكان الصالحون والأعلام ينادمون القطط وتصحبهم، وما أحسن قول أحمد بن فارس صاحب كتاب المجمل في اللغة:
 إذا ازدحمتْ همومُ الصدرِ قلنا       عسى يومًا يكون لها انفراجُ
  نديمي هرتي وأنيس نفسي           دفاتر لي ومعشوقي السراج

بل كانت الدولة الإسلامية ترى أن من واجبها متابعة رفق الناس بالحيوانات، فقد أذاع عمر بن عبد العزيز في إحدى رسائله إلى ولاته أنْ ينهوا الناس عن ركض الفرس في غير حق.

كما ورد عن فضائل عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى صاحب السكك: “ألَّا يسمحوا لأحد بإلجام دابته بلجام ثقيل، ولا بنخسها بمقرعة في أسفلها حديده”.

وكتب أيضًا إلى عامله بمصر: “بلغني أن بمصر إبلاً نقّالات يُحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفن أنه يُحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل”.

وأمر المحتسب أن يمنع تحميل الدواب فوق ما تطيق، أو تعذيبها وضربها أثناء السير، ولديه الصلاحية لتأديب ومعاقبة من يراه يفعل ذلك.

ومن صور رحمة المسلمين أن تعدت أوقافهم حاجة الإنسان لتفي بحاجة الحيوان، وبنوا لذلك عمائر لرعاية الحيوان، انتشرت على طرق الحج والقوافل في القرون الوسطى، وما زال بعضها قائمًا حتى اليوم في عديد من المدن العربية والإسلامية، وهي عمائر تهتم بشؤون الحيوانات، من حيث سقايتها وإيواءها وإطعامها، وتمثلت في أحواض سقي الدواب والاسطبلات، وما كانت تضمه الوكالات والخانات التجارية من أماكن مخصصة لإيواء الحيوانات وإطعامها، وقد عمل الخيرون ممن أنشؤوا هذه الأحواض على تعيين خادم للحوض أو قيم أو فراش، لتمكين الدواب من الشرب بسهولة، ومساعدة الناس للاستفادة من ماء الحوض، كما أوكل إليه تنظيف الحوض وكنسه وغسله، وتجفيف أرضيته، والرش أمامه، والعمل على ملء الحوض بالماء بصفة دائمة، وكان العمل يبدأ من مشرق الشمس إلى آخر النهار أو أذان العشاء.

فقد وجدنا في ثبت التاريخ أوقافًا خاصة لتطبيب الحيوانات المريضة، وأوقافًا لرعي الحيوانات المسنة العاجزة كوقف أرض المرج الأخضر بدمشق، والشام وقفًا للقطط الضالة يطعمها ويسقيها، سميت بمدرسة القطاط، ووقفًا للكلاب الشاردة يؤويها ويداويها، سمي اسمًا غريبًا “محكمة الكلاب”.

وداخل القاهرة وجدت الأحواض المائية، إما منفردة أو ملحقة بالعمائر الدينية والمدنية والتجارية والحربية، حيث اتخذت موضعًا متميزًا في العمائر بالواجهات الرئيسة لها، ليسهل شرب الدواب منها، من هذه الأحواض حوض قجماس الإسحاقي الملحق بمجموعته بشارع الدرب الأحمر، وحوض السلطان قايتباي بقرافة صحراء المماليك، وحوض إبراهيم آغا بباب الوزير، وحوض عبد الرحمن كتخدا بالحطابة، كما أوقفت في العهود الإسلامية العديد من الأوقاف الذي خصص ريعها لخدمة الحيوانات والرفق بهم، من ذلك أوقاف للخيول المُسنة، وأوقاف للطيور خاصة طيور الحرم، وكان -إلى عهد قريب- هناك وقفًا خاصًّا لمركب شيخ الأزهر عُرف بمسمى “وقف بغلة شيخ الأزهر” ليوفر الدابة التي يركبها شيخ الأزهر ونفقاتها وعلفها ورعايتها.

وفي مدينة فاس خصص وقف على نوع من الطير يأتي في موسم معين، فوقف له بعض الخيِّرين ما يعينه على البقاء، ويسهِّل له العيش في تلك المدة من الزمن، وكأن هذا الطير المهاجر الغريب له على أهل البلد حق الضيافة والإيواء! وغيرها الكثير.

وقد كان للحيوان نصيب كبير في المؤسسات الاجتماعية الإسلامية، إذ عرفَت الحضارة الإسلامية منذ ابن البيطار -من أطباء القرن السابع الهجري- أوقافًا خاصة لتطبيب الحيوانات المرِيضة، وأوقافًا لرعي الحيوانات المسنة، وكان من بين أوقاف دمشق وقف للقطط تأكل منه وترعى وتنام فيه! حتى إنه كان يجتمع في دارها المخصَّصة لها مئات القطط السمينة التي كان يقَدم لها الطعام، وهي مقيمة لا تتحرك.

كما وجدنا في العصر المملوكي الكثير من المنشآت الوقفية التي خصصت لرعاية الحيوانات، فهناك منشآت معمارية كاملة خصصت للدواب، مثل حوض الدوابِّ الذي أوقفه السلطان قايتباي في صحراء المماليك، لتشرب الدواب أثناء سيرها من هذه الأماكن وتستريح من السير في أماكن ظليلة بعيدة عن الشمس، وتعالج إذا كانت مصابة أو مريضة في العيادة الملحقة بالحوض، أو إسطبلات لينام فيها الحيوان. وكانت الوقفية تنص على أن يحصل أرباب الوظائف من البيطاريين والمدربين والمسؤولين عن إطعام الحيوانات ورعايتهم على رواتب من ريع أراضي زراعية موقوفة على ذلك، وكانت هناك مدارس خاصة لتدريب الخيول على الفروسية، أما الفقراء فكانوا يضعون أمام بيوتهم ما يسمى “ميلغة الكلب”، وهي عبارة عن حجر صغير مجوف يُملأ بالماء حتى تشرب منه الكلاب التي لا تستطيع الشرب من أحواض الدواب الكبيرة التي كانت مخصصة للخيول والحمير والبغال، وما زالت هذه الأحجار موجودة أمام بيوت البعض خاصة في الأحياء الشعبية بالقاهرة، حيث يعتبرون ذلك سبيلاً يرجون به الثواب من الله تعالى، وداخل البيوت نلاحظ أن الزير الذي كان يشرب منه أهل البيت الماء، يُرفَع على حمَّالَة معلق فيها حوض صغير يتجمع فيه ماء من الزير، لتشرب منه الطيور الموجودة في المنزل أو العصافير التي لها حرية الحركة.