إنها أحد أبرز أعضاء الجهاز الهضمي في الإنسان، وتعد أكبر تجاويفه، ارتبط اسمها بالغذاء وطريقته ونوعيته، بل تخطت ذلك وارتبطت بصحة الإنسان وجودة حياته؛ إنها المعدة. ففي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما ملأ ابنُ آدمَ وعاءً شرًّا من بطنِه، حسْبُ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقمْنَ صلبَه، فإن كان لا محالةَ فثُلثٌ لطعامِه وثلثٌ لشرابِه وثلثٌ لنَفَسِه” (رواه الترمذي)، والمقصود ببطنِه معدتَه. برغم ذلك يمكث الطعام فيها أقل مدة مقارنة بأماكن مكوثه الأخرى، فيمكث فيها نحو ساعتين، وترتفع هذه المدة لتصل من ٤ إلى ٦ ساعات في الأمعاء الدقيقة، وتتضاعف لتصل إلى ما يقرب من ٣٦ ساعة في القولون. وقد يرجع هذا لشدة تركيز حموضة المعدة التي تبلغ بمقياس الحموضة (pH) ١.٥-٣.٥ وتُعتبر قيمة عالية جدًّا، ما دفع العلماء لوصف المعدة أنها عضو شبه مُعقم تستحيل فيه الحياة. ولكن ما مدى صحة هذا الوصف؟
مقدمة لا بد منها
مع مطلع القرن التاسع عشر، بزغت شمس الاهتمام بالتركيب الميكروبي للجهاز الهضمي، عندما أكد الفرنسي “لويس باستير” أهمية الكائنات الحية الدقيقة لحياة الإنسان، وتلاه افتراض الروسي “إيلي ميتشنيكوف” أن لبكتيريا حمض اللاكتيك دورًا صحيًّا في تعزيز طول العمر.
يُصنف بعض العلماء الإنسان على أنه كائن خارق، يتكون من خلايا وكائنات دقيقة تكافلية، حيث يبلغ عدد الكائنات الحية الدقيقة التي تستعمر جسم الإنسان ١٠ أضعاف عدد خلايا جسمه، كما أن عدد جينات هذه الكائنات الدقيقة يزيد ١٥٠ ضعفًا عن عدد جينات خلايا الإنسان.
في عام ٢٠٠٠م تنبأ محررو مجلة “Science” بأن “أبحاث الميكروبات البشرية ستصبح موضوعًا ساخنًا جديدًا في جميع أنحاء العالم”. وفعلاً في عام ٢٠٠٧م أطلق المعهد الوطني الأمريكي للصحة مشروع “الميكروبيوم البشري”، وبعد عام واحد فقط، أطلق الاتحاد الأوروبي تمويل مشروع مخصص “لعلم الميتاجينوم” في الجهاز المعوي البشري. وأخيرًا، في عام ٢٠٠٩م بدأ الاتحاد الدولي للميكروبات البشرية يستكشف العلاقة بين الميكروبات الحيوية وصحة الإنسان والمرض. ومنذ ذلك الحين، تم إنتاج كمية هائلة من البيانات، خاصة حول الميكروبات المعوية. وفي هذا المقال نحاول كشف اللثام عن الحياة في المعدة، والعوامل المؤثرة في تكويناتها وعلاقة بعضها ببعض، والعدوى المحتملة وتفاعلها مع بعضها.
في عام ١٩٨٢م اكتشف “Robin Warren” و”Barry Marshall” سلالة بكتيرية نامية في المعدة سُميت آنذاك Campylobacter Pyloridis، وبذلك هدمَا عقيدة “المعدة العقيمة”. وبعد عامين أعيد تسمية هذه البكتيريا بـ”Helicobacter pylori” والمعروفة باسمها الدارج “جرثومة المعدة” التي تستعمر الغشاء المخاطي للمعدة وتدمره من خلال آلياتها البكتيرية. تنجو بكتيريا “H. Pylori” من حموضة المعدة التي لا تُطاق ولا تُحتَمل، بإنتاجها أنزيم اليورياز الذي يحلل اليوريا إلى الأمونيا التي تعمل على تحييد تأثير حمض المعدة عالي التركيز (تخفيف تركيز حموضة المعدة)، وبالتالي تتمكن البكتيريا من اختراق الطبقة المخاطية، واستعمار الطبقة الظهارية، وتعزيز الاستجابة الالتهابية للمعدة التي تُلحق الضرر بالغشاء المخاطي للمعدة، مما يُؤدي إلى التهابها المزمن لدى غالبية الأشخاص المصابين، أو إلى قرحة هضمية في أقل من ١٠٪ منهم، أو ظهور أورام خبيثة في المعدة في أقل من ١٪ من المصابين.
سلالات بكتيرية تستوطن المعدة
قبل أشهر قليلة من اكتشاف بكتيريا جرثومة المعدة (H. Pylori)، أي في عام ١٩٨١م ذكرت مجلة “The Lancet” أن عددًا كبيرًا من السلالات البكتيرية المقاومة للأحماض يمكن اكتشافها في المعدة، ومن بينها Streptococcus, Neisseria and Lactobacillus، لكن وجود هذه البكتيريا ليس مفاجئًا؛ فالمعدة تتعرض للعديد من أنواع البكتيريا القادمة من تجويف الفم أو ارتجاع البكتيريا من الإثني عشر. تم وصف أكثر من ٦٥٪ من الأنماط الميكروبية التي تم تعريفها في المعدة، مصدرها الفم. وبالتالي فإن أنواع البكتيريا مثل “Veillonella” و”Lactobacillus” و”Clostridium” الموجودة في عصير المعدة، قد تكون عابرة فقط وليست مقيمة.
تقوم هذه البكتيريا العابرة بإنشاء مستعمرات صغيرة لفترات قصيرة من الزمن، دون احتلال الغشاء المخاطي في المعدة، ولا تتفاعل مع العائل المُضيف، ومع ذلك، هناك شك ما إذا كانت البكتيريا الأخرى غير جرثومة المعدة تستعمر الغشاء المخاطي في المعدة، وتتفاعل مع العائل المضيف عن طريق اختراق الطبقة المخاطية السميكة أم لا.. وبالتالي فإن دراسة عصارة المعدة وحدها للكشف عن وجود البكتيريا ليست حاسمة، بل قد تقلل من وجود المجتمع البكتيري الحقيقي -كمًّا ونوعًا- مقارنة بالغشاء المخاطي. وبالرغم من أن الاجناس البكتيرية “Firmicutes” و”Bacteroidetes” و”Actinobacteria” هي التي تهيمن على عينات السوائل المعدية، إلا أن “Firmicutes” و”Proteobacteria” هي الشعب الأكثر وجودًا في عينات الغشاء المخاطي في المعدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن تحديد السلالات البكتيرية بالطرق التقليدية القائمة على زرع العينة على بيئات متخصصة، يوفر صورة غير كاملة ومتحيزة للتنوع البيولوجي للميكروبات المعدية، لأن أكثر من ٨٠٪ من الكائنات الحية الدقيقة غير قابلة للنمو بهذه الطريقة.
في الآونة الأخيرة، تم تطوير طرق جزيئية لتحديد الأنواع البكتيرية تعتمد على الحمض النووي (RNA) واستنساخ وتسلسل الحمض النووي الريبوزي (rDNA) التي سهلت تحديد وتصنيف البكتيريا المعدية. في عام ٢٠٠٦م كانت معدة ٢٣ متطوعًا بالغًا صحيحًا، على موعد مع أول تحليل لبطانتها المخاطية “Mucosa” باستخدام التحليل الجزيئي، حيث تم تعريف ١٠٥٦ سلالة مكروبية ليس منها جرثومة المعدة، تنتمي إلى ٢٧ نوعًا ميكروبيًّا، مشتقة من ٥ أجناس تستوطن الطبقة المخاطية، وهي “Streptococcus, Prevotella, Rothia, Fusobacterium and Veillonella”. وبعد عدة سنوات تم تحليل المحتوى الميكروبي للمعدة لـ١٠ أصحاء بالغين آخرين، تبين سيادة ٥ أجناس، وهي “Streptococcus, Prevotella, Neisseriae, Haemophilus and Porphyromonas” يتبعها ١٢٢٣ سلالة ليس منها جرثومة المعدة. في عام ٢٠١٣م تم تحديد ٥ عائلات سائدة في المعدة، وهي “Prevotella, Streptococcus, Veillonella, Rothia, Pasturellaceae” يتبعها مئات الأنواع. ومع دراسة عامل اختلاف بيئة وجنسية الأشخاص (الأمريكية، الأفريقية، والإسبانية، والصينية، والأوروبية)، تم عزل ٣ أجناس بكتيرية وهي “Streptococcus, Propionibacterium and Lactobacillus”.
العوامل المؤثرة في التكوين الميكروبي للمعدة
يخضع المحتوى الميكروبي للمعدة لتاثير عدة عوامل، أهمها النظم والعادات الغذائية والأدوية المتناولة والحالة الصحية للغشاء المخاطي للمعدة، لذلك فإن المحتوى الحيوي للمعدة دومًا في حالة ديناميكية متغيرة، بما في ذلك وجود جرثومة المعدة وأعدادها، إلا أنه لا يوجد سوى عدد قليل من الأدلة، يعتمد بشكل أساسي على دراسات النماذج الحيوانية، التي تتناول آثار النظام الغذائي على مكون الكائنات الحية الدقيقة في المعدة.
ولقد أظهرت دراسة أجريت على الجسم الحي، مستويات أعلى من إجمالي البكتيريا الهوائية واللاهوائية الكلية و”Lactobacilli” في معدة الفئران التي تم تغذيتها بنظام غذائي غير منقى (أغذية مشتقة من مصدر طبيعي)، مقارنة بالفئران التي تم تغذيتها على نظام غذائي منقى (أغذية مُنقاة)، ترتبط هذه الزيادة بمستويات أقل من مستقبلات “Toll-like (TLR2) mRNA” في المعدة. كما يؤثر كل من الاستخدام طويل الأمد لمثبطات مضخة البروتون (PPIs) ومضادات H2 والتهاب المعدة الضموري، على مكونات الكائنات الحية الدقيقة في المعدة. وهذا ليس مفاجئًا، نظرًا لأن الكائنات الحية الدقيقة في المعدة تتأثر بشدة بإفراز حمض المعدة. لذلك لوحظ حدوث فرط نمو بكتيري عندما تقل حموضة المعدة، ويرتفع الرقم الهيدروجيني للعصير المعدي من ١.٥ إلى ٣.٨ أو أكثر. غالبية هذه الأنواع البكتيرية تكون كائنات شبيهة بالمبيضات الفموية (سلاق الفم)، وكذلك بكتريا البراز، وذلك في المرضى الذين يتلقون علاج مثبطات مضخة البروتون بهدف تقليل حموضة المعدة مقارنة بالمرضى الذين يتلقون مضادات H2 والأشخاص الخاضعين للمراقبة غير المعالجين. وثبت أن العلاج لمدة أسبوعين بمثبطات مضخة البروتون، يقلل إفراز حمض المعدة بنسبة ٧٥٪، وكان هذا كافيًا للسماح بالاستعمار البكتيري للمعدة لدى متطوعين أصحاء. أما استخدام ميبرازول (٤٠ ملغ/يوم) لمدة ٣ أشهر، فيسبب فرط نمو بكتيريا المعدة في ١٠ من إجمالي ٣٠ مريضًا، مقارنة مع ١ من ١٠ كمجموعة قياسية. ومع ذلك، بعد ١٤ يومًا فقط من العلاج بمثبطات مضخة البروتون (أوميبرازول ٣٠ ملغ/يوم)، ارتفع العدد الإجمالي للبكتيريا في المعدة إلى مستوى ملحوظ.
المضادات الحيوية
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن المضادات الحيوية تلعب دورًا سلبيًّا على البنية الطبيعية للمكون الميكروبي للمعدة، وأول ما تخسره المعدة البكتيريا النافعة
“Lactobacilli”، كما يعزز ذلك زيادة ملحوظة في أعداد الخمائر غير المرغوبة، كما أن العلاج بـ”Cefoperazone” في الإنسان، يسبب تغيرات طويلة المدى في الكائنات الحية الدقيقة في المعدة، مثل انخفاض كبير في عدد “Lactobacilli” وفرط نمو “Enterococci” غير المرغوبة.
بين جرثومة المعدة والتركيب الميكروبي للمعدة
أظهرت دراسات النماذج الحيوانية أن الإصابة بجرثومة المعدة طويلة المدى، تؤثر على البنية الميكروبية للمعدة، حيث تُحدث خللًا في توازن البكتيريا المتعايشة في الغشاء المخاطي في المعدة، بالإضافة إلى أنها أحدثت تغيرات ميكروبية في الأمعاء البشرية كذلك. فإنها تؤثر على التركيب الميكروبي والتنوع في الغشاء المخاطي في المعدة أكثر من تأثيرها على عصير المعدة والبراز. كانت نتائج الإصابة بجرثومة المعدة فيما يتعلق بالتنوع البكتيري، مثيرة للجدل؛ حيث كانت أعداد جنس “Lactobacillus” النافعة أعلى في المرضى المصابين بالجرثومة مقارنة بالأشخاص غير المصابين -وهو أمر مُحير للغاية- مما أدى إلى حماية الأمعاء البشرية من الاستعمار الجرثومي، من خلال الحفاظ على حاجز الأمعاء.
وفي دراسة تمت في ٢٠١٨م وُجد أن المصابين بجرثومة المعدة بدرجة محدودة، أظهروا نسبة متزايدة من بكتيريا “L. Acidophilus” (المفيدة) مقارنة بالأفراد غير المصابين بسبب قمع إفراز حمض المعدة عن طريق جرثومة المعدة بما تفرزه من أنزيم اليورياز، وقد أبلغ عن وجود وفرة عالية من “Lactobacillus” النافعة في المرضى المصابين بجرثومة المعدة والذين يعانون من التهاب المعدة الضموري الحاد، مقارنة بالمرضى المصابين بالتهاب المعدة الضموري الخفيف أو بدون التهاب المعدة، مما يدل على تأثر الكائنات الحية الدقيقة في المعدة وفقًا لشدة الأعراض.
يمكن التحكم في العلاقة بين جرثومة المعدة والميكروبات المعوية الأخرى من خلال آليات متعددة، مثل عوامل الضراوة، وتعديل حموضة المعدة، والاستجابات المناعية للمضيف، والمنافسة بينهما. أظهرت السلالات المقاومة للبكتيريا الحلزونية اتجاهًا متزايدًا للتنوع والتساوي مقارنة بالسلالات الحساسة. انخفضت وفرة السلالات المقاومة مع زيادة تعايش البكتيريا المسببة للأمراض. كما ارتبطت مقاومة جرثومة المعدة بالتنوع المخصب لتكوين الميكروبيوم المعدي.
في الختام، ما كان لهذه الكائنات المجهرية أن تسكن وتستقر وتتكاثر في هذه البيئة شديدة القسوة (المعدة)، إلا بما جبلها الله عليه، وبما منحها من قدرة فائقة يفقدها البشر، قدرة نقف أمامها عاجزين.
(*) أستاذ علوم الأغذية / مصر.