من هو الأستاذ فتح الله كولن؟

فتح الله كولن هو باحث ومفكر وكاتب وشاعر وقائد رأي وناشط تعليمي وداعية للسلام وواعظ تركي مسلم. وهو يعتبر المنشئ والملهم لحركة المجتمع المدني المنتشر في جميع أنحاء العالم، والمعروف باسم حركة الخدمة أو حركة كولن والتي تهدف إلى التعليم والحوار والسلام والعدالة الاجتماعية والتناغم الاجتماعي. تركيزًا على التعليم الذي يتم فيه تدريس المناهج العلمانية من قبل المعلمين الذين يطمحون إلى “تمثيل” قيم عالية من الإنسانية، هذه الظاهرة الاجتماعية تهزم التصنيف السهل. المتطوعين المشتركين في الحركة والموؤلفين من طلاب وأكاديميين وأصحاب أعمال ومهنيين وموظفين عموميين وعمال ومزارعين، رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، يساهمون بطرق متعددة في هذه الحركة، ويتمثل ذلك في المراكز التعليمية والمدارس والكليات والمستشفيات ومنظمات إغاثة ودور للنشر ومؤسسات إعلامية في تركيا وفي أكثر من 170 بلدًا في العالم.

وقد نُشر لكولن أكثر من ثمانين كتابًا باللغة التركية، وقد ترجمت العديد منها إلى أكثر من ثلاثين لغة، وتُرجم منها للغة العربية ما يقرب من أربعين كتابًا. ولقد أدرج فتح الله كولن في مجلة “فورينك بوليسي” كأفضل مفكر لشهر مايو ٢٠٠٨.

ويعرف فتح الله كولن بموقفه الفلسفي والنشط تجاه حقوق الإنسان والديمقراطية والحوار بين الأديان والثقافات والعلوم والقيم الروحية وموقفه ضد العنف والتمييز. وعرف أيضًا بموقفه النشط تجاه تحويل الدين إلى أيديولوجيا سياسية في المراحل الحاسمة في تاريخ مجتمعه. خطابات كولن وحياته تجسد قيم مثل تقبل وخدمة أي مجتمع بشكل خاص والإنسانية بشكل عام والإخلاص والصدق والنظرة الشمولية للإنسان وتعميق الإيمان ومحبة الخلق. المبادئ الأساسية لمفهوم الخدمه لدى كولن هي “خدمة الإنسانية لخدمة الله” و “العيش لندع الآخرين يعيشون”.

أفضل طريقة لفهم ترويج كولن للحوار والقبول والتعايش المتناغم؛ هي مقارنته مع تلك التي روجها جلال الدين الرومي، الشاعر الأناضولي في القرن الثالث عشر والذي يعتبر واحدًا من مصادر الإلهام لكولن.

كولن بدأ حياته المهنية كواعظ وناشط تعليمي. وقد نجح في حشد مئات الآلاف من الناس لغرض خدمة المجتمع من خلال التوحيد حول القيم الإنسانية العالية. ورغم مكانته بين الناس، إلا أن كولن لا يعتبر نفسه إلا واحدًا من المتطوعين في حركة المجتمع المدني ولم يعتبر نفسه قائدًا.

مشاركته لمعاناة البشر في كل ركن من أركان العالم

عرف كولن باحترامه العميق وتواصله بجميع الناس. “العيش لتدع الآخرين يعيشون” (“yasatmak icin yasamak” باللغة التركية) هو مبدأ أساسي للخدمة من وجهة نظر كولن. أفضل طريقة لفهم ترويج كولن للحوار والقبول والتعايش المتناغم هي مقارنته مع تلك التي روجها جلال الدين الرومي، الشاعر الأناضولي في القرن الثالث عشر والذي يعتبر واحدًا من مصادر الإلهام لكولن. وكان يقيم في منتجع في ولاية بنسلفانيا ويقضي معظم وقته في القراءة والكتابة والتحرير والعبادة، وتلقي الرعاية الطبية.

نشأته

ولد فتح الله كولن في عائلة متواضعة في مدينة أرزروم (أرض الروم) في تركيا في عام ١٩٤١ ونشأ في بيئة مليئة بالروحانية.. أكمل كولن تعليمه ودراسته في معاهد متطورة وحديثة ودرس العلوم الإسلامية وحصل على شهادة تؤهله للتدريس.
تدرب كولن على يد معلمين صوفيين محليين، حيث تعلم مبادئ الروحانية الإسلامية والإنسانية، وتعرف على دروس كتابات “سعيد النورسي”، وهو عالم مسلم مشهور علَّم المسلمين أن يرحبوا ويستفيدوا من المدنية الحديثة وأن يستلهمو من النصوص المقدسة ليطبقوه في حياتهم.

والدا كولن لعبا دورًا كبيرًا في تعليمه المبكر. والده؛ وهو إمام كان يستمتع بقراءة الكتب الكلاسيكية وقراءة الشعر والتأمل في الفترة الأولى من الإسلام. وهو الذي غرس في كولن الشاب محبة التعلم ومحبة النبي وأصحابه. والدته؛ وهي مدرسة قرآن متطوعة، علمته قراءة الكتب الدينية وجسدت له الحياة الروحية والمثابرة. أصبح كولن حافظًا للقرآن كله عن ظهر قلب، في سن الثانية عشرة، وبدأ بإلقاء المواعظ في المساجد المحلية عندما كان في الرابعة عشرة من عمره.

عمله في بداية حياته

بعد اجتياز كولن امتحان من قبل المديرية الدولية التركية للشؤون الدينية في عام ١٩٥٩، تم تعيينه كواعظ في مسجد تاريخي في أدرنة، وهي مقاطعة في الجزء الأوروبي من تركيا. في هذه الفترة من شبابه، كان كولن نشطًا اجتماعيًّا ولكن على الصعيد الشخصي كان متقشفًا. هذه الفترة أيضًا كانت فرصة له لتعميق معرفته في التقاليد الإسلامية، ولدراسة العلوم الاجتماعية والطبيعية والكلاسيكيات الفلسفية والأدبية الشرقية والغربية على حد سواء. ومن بين الشخصيات التاريخية الذي كان لها أكبر أثر على حياة كولن الفكرية نذكر أبو حنيفة، الغزالي، الإمام الرباني، جلال الدين الرومي، يونس أمره، والنورسي.  قراءته الواسعة الآفاق هي التي هيئته لتفسيراته الشاملة المعروفة.

حافظ كولن طوال حياته المهنية على أسلوبه في الحياة الشخصية من الزهد والورع، ولكن في نفس الوقت حافظ على الاختلاط بالناس، والبقاء على علاقة جيدة مع السلطات المدنية والعسكرية التي واجهها في خلال تلك الخدمة.  وكان شاهدًا على انجذاب الشباب إلى التطرف والأيديولوجيات الراديكالية وسعى من خلال وعظه صرفهم عن ذلك. ورأى أن تآكل القيم الأخلاقية التقليدية بين الشباب والجزء المتعلم في المجتمع التركي أدى إلى تغذية الإجرام والصراع السياسي والمجتمعي. لهذا السبب، قام كولن بتنظيم سلسلة من المحاضرات العامة. وكانت لهذه التجارب تأثيرات تكوينية على قيادته الفكرية والمجتمعية وتعزيز إيمانه في معنى وقيمة البشر والحياة.

في عام ١٩٦٣بعد خدمته العسكرية، أعطى فتح الله كولن سلسلة من المحاضرات في أرزروم عن جلال الدين الرومي. كما شارك في تأسيس جمعية مكافحة الشيوعية هناك، وألقى محادثات مسائية عن القضايا الأخلاقية. في عام ١٩٦٤، تم تعيينه في وظيفة جديدة في مدينة أدرنة، حيث تأثر به عدد كبير من الشباب المتعلمين والناس العاديين. بعد تعيينه في مدينة قرق لاريلي في عام ١٩٥٦، قام كولن بتنظيم محاضرات ومحادثات مسائية. خلال هذه المرحلة من حياته المهنية، تمامًا كما كان من قبل، كولن لم يشترك في أي سياسات حزبية، بل اكتفى بإعطاء دروس حول القيم الأخلاقية في الشؤون الشخصية والجماعية.

تقديرًا لنجاحه في خدمة العامة، تمت ترقية كولن إلى وظيفة الداعية الأساسي، ومدير المدرسة الداخلية في مدينة إزمير، وهي مدينة كبيرة على ساحل بحر إيجه في تركيا.

واعظ وناشط تعليمي على الصعيد الوطني

في عام ١٩٦٦، أصبح يشار توناكر، الذي كان يعرف فتح الله كولن سابقًا من خلال حياته المهنية، نائب رئيس مديرية البلاد للشؤون الدينية، وبعد توليه منصبه في أنقرة، أسند إلى فتح الله كولن منصبه الذي شغره في إزمير. في الحادي عشر من مارس، تم نقل كولن إلى منطقة إزمير، حيث استلم المسؤولية الإدارية للمساجد ودراسة الطلاب وإلقاء المواعظ في منطقة بحر إيجه. ورغم ذلك تابع العيش بزهد وعاش لمدة خمس سنوات تقريبًا في كوخ صغير بالقرب من كاستنة بازار ولم يأخذ أي أجر مقابل خدماته. وخلال هذه السنوات بدأت أفكار فتح الله كولن في التعليم وخدمة المجتمع تأخذ شكلاً واضحًا وناضجًا. من عام ١٩٦٩ بدأ بإقامة اجتماعات في المقاهي، وإلقاء محاضرات في جميع أنحاء المحافظات والقرى في المنطقة. كما نظم المخيمات الصيفية لطلاب المدارس المتوسطة والثانوية.

في إزمير، وهي أكبر محافظة في الساحل الغربي في تركيا بدأت خطب فتح الله كولن الرائعة تتبلور وبدأ جمهوره في التوسع. وبدأ في السفر من مدينة إلى مدينة أخرى لإعطاء الخطب في المساجد وفي التجمعات وفي أماكن مختلفة بما في ذلك المسارح والمقاهي. وكانت موضوعاته تتراوح بين السلام والعدالة الاجتماعية إلى النزوعات الطبيعية الفلسفية، وكان هدفه الأساسي دائمًا، هو حث جيل الشباب على مواءمة التنوير الفكري مع الروحانية في التقاليد الإيمانية وخدمة البشر.

اجتذبت خطب كولن انتباه المتعلمين في الأوساط الأكاديمية وطلاب الجامعات وعامة الناس في جميع أنحاء البلاد، وذلك لأنها تميزت بعمق المعرفة والمنطق والحساسية والبلاغة الممتازة والمصادر المعتمدة.  وسُجلت خطاباته على أشرطة ووُزعت في القرى واستُقبلت بحماس. كما أنه يؤكد أنه حصل على هذه المصداقية من قبل الناس -على الرغم من أنه لم يستحق ذلك- على حد قوله، من خلال توجيه النوايا الحسنة والطاقة المخلصة نحو نهاية إيجابية.

يصف فتح الله كولن هذا المثل الأعلى الوطني والعالمي ب “الاجتماع حول القيم الإنسانية العالية” من خلال التعليم والحوار. بخصوص هذا المثل الأعلى، كان فتح الله كولن يعمل دائمًا تحت مسمى وظيفي مثل “مستشار” أو “مشجع” لا أكثر. وفي البداية، خدم جمهوره في مدينة إزمير كبذرة لتشكيل مجتمع من المواطنين في جميع نواحي الحياة وتوسعت لاحقًا إلى مواطنين من خلفيات مختلفة جدًّا، بما في ذلك غير المسلمين الذين اشتركوا في البعد الإنساني من رؤية كولن إن لم يكن جذورها الإسلامية.

نتيجة لانقلاب الثاني عشر من آذار في عام ١٩٧٠، ألقي القبض على عدد من المسلمين البارزين في المنطقة الذين دعموا سكن الطلاب وما يرتبط بها من أنشطة للشباب في كاستنة بازار. وفي الأول من مايو، اعتقل فتح الله كولن أيضًا واحتجز لمدة ستة أشهر دون تهمة حتى أفرج عنه في التاسع من تشرين الثاني. كما تم الإفراج عن كل الذين اعتقلوا من دون تهمة في وقت لاحق. ولتفسير هذه الاعتقالات، قالت السلطات إنها اعتقلت الكثير من اليساريين وأنهم شعروا بحاجة إلى اعتقال بعض المسلمين البارزين من أجل تجنب اتهامهم بعدم العدل.  ومن المثير للاهتمام، انهم أفرجوا عن فتح الله كولن بشرط أنه لا يلقي محاضرات وخطب على العامة.

في عام ١٩٧١، ترك فتح الله كولن منصبه في كاستنة بازار ولكنه أبقى على وضعه كواعظ معتمد من قبل الدولة. بدأ كولن بعد ذلك بإنشاء المزيد من المراكز الدراسية في منطقة بحر إيجه؛ حيث تم تمويل هذه المراكز من قبل السكان المحليين. وفي هذه المرحلة بالتحديد، أنشأت مجموعة معينة مكونة من 100 شخص ما يسمى بجماعة الخدمة، وهي مجموعة تجمعوا حول مفهوم فتح الله كولن عن خدمة المجتمع والعمل الإيجابي.

بين عامي ١٩٧٢ و١٩٧٥، شغل فتح الله كولن منصب واعظ في عدة مدن في منطقة بحر إيجه وبحر مرمرة. حيث استمر في إلقاء المواعظ وتدريس الأفكار والقيم حول التعليم وأخلاقيات الخدمة التي وضعها. واستمر في إنشاء المساكن لطلاب المدارس الثانوية وطلاب الجامعات. في هذه الفترة من الزمن كانت الفرص التعليمية نادرة للناس في الأناضول، وكان معظم سكن الطلاب في المدن الكبرى تحت سيطرة المتطرفين اليساريين واليمينيين في جو مشحون مليء بالسياسة.

وفي المدن والمحافظات وقع الآباء الذين نجح أبناؤهم في امتحانات القبول للجامعات أو المدارس الثانوية في مآزق حيث أرادوا منهم حرمان أبناءهم من مواصلة التعليم وبقاءهم في المنازل. أعطت المساكن الطلابية التي أسسها فتح الله كولن ومساعديه فرصة للآباء لإرسال أبناءهم إلى المدن الكبيرة لمواصلة تعليمهم وفي نفس الوقت حمايتهم من البيئة السياسية المشحونة. لدعم هذه الجهود التعليمية قام الأشخاص الذين يشاركون فتح الله كولن مبدئه في الخدمة بإعداد نظام المنح الدراسية للطلاب. وقد مُولت سكن الطلاب وأُعطيت المنح من قبل الجمعيات المحلية التي انتشرت بينهم فكرة الخدمة (hizmet) لفتح الله كولن.

تشجعًا بفتح الله كولن وتأثرًا بخطبه حول العمل الإيجابي والمسؤولية، بدأ الناس بحشد قواهم لمواجهة آثار الأيديولوجيات العنيفة والفوضى الاجتماعية والسياسية التي أثرت على أطفالهم وعلى الشباب بشكل عام. بدأ الطلاب أيضًا في المساكن الطلابية بلعب دور في نشر خطب الخدمة. ومن فترة إلى أخرى، كان الطلبة يعودون إلى مدنهم ويزورون المدن والقرى المحيطة بها للحديث عن تجاربهم والأفكار التي واجهتهم، وذلك لنشر فكرة الخدمة في المنطقة.

ومن عام ١٩٦٦ فصاعدًا قامت أطراف ثالثة بتسجيل خطب ودروس فتح الله كولن على أشرطة كاسيت وتوزيعها في جميع أنحاء تركيا. وبالتالي من خلال شبكة العلاقات الموجودة مسبقًا في الخدمة ومن خلال العمل الجماعي والأنشطة الطلابية والتكنولوجيا الجديدة أصبحت خطب الخدمة معروفة على مستوى الدولة.

في عام ١٩٧٤، تم إنشاء أول جامعة للدورات التحضيرية في مانيسا، حيث كان فتح الله كولن يدرس هناك في ذلك الوقت. وفي تلك الفتره، كان أبناء العائلات الثرية جدًّا هم القادرين فقط على الوصول إلى التعليم الجامعي. ولكن الدورات الجديدة في مانيسا جددت الأمل عند الأسر الأناضولية المتواضعة بأن هناك فرص تعليمية أفضل لأطفالهم في المستقبل. وكانت الفكرة أنه إذا تم دعم أطفال الأسر المتواضعة فسوف ينجحون في التعليم العالي. ومع انتشار خبر هذه الإنجازات والنجاحات، وجهت دعوة لفتح الله كولن في العام التالي لإلقاء سلسلة من المحاضرات في جميع أنحاء تركيا. وأصبحت فكرة الخدمة معروفة على نطاق واسع ومتجذر بقوة في مختلف مدن ومناطق البلاد. ومن ذلك الوقت وصاعدًا، سُمي الناس الذين دعموا التعليم والخدمات الإيثارية الغير سياسية بحركة كولن.

في عام ١٩٧٦، أرسلت المديرية الدينية فتح الله كولن إلى بورنوفا في إزمير التي فيها واحد من أكبر الجامعات في تركيا، والتي بها عدد كبير من الطلاب، وعلى قدر كبير من النشاط المتشدد الذي كان سائدًا في الجامعات في السبعينيات. وقد لفت انتباه فتح الله كولن إلى أن الجماعات اليسارية كانوا يفتعلون الضوضاء والشغب، لابتزاز الأموال من أصحاب الأعمال وأصحاب المحال التجارية في المدينة، ويتعمدون تعطيل الأعمال والحياة الاجتماعية. وقام المبتزين بالفعل بقتل عدد من ضحاياهم. وفي خطبه تكلم فتح الله كولن وحث الذين تعرضوا للتهديد من قبل المبتزين، بعدما تم الانصياع للتهديدات والعنف ومفاقمة الوضع. وحثهم على الإبلاغ عن الجرائم للشرطة وعلى التعامل مع المبتزين من خلال الجهات المناسبة. وبعد هذه الرسالة تلقى فتح كولن تهديدات تودي بحياته. وفي نفس الوقت، تحدى كولن الطلاب اليمينيين واليساريين، وطلب منهم أن يأتوا إلى الجامع لمناقشة أفكارهم معه، وعرض عليهم أن يرد على أية أسئلة سواء علمانية أو دينية، وقبل العديد من الطلاب بهذا العرض. ولهذا السبب، خصص فتح الله كولن مساء كل أحد لجلسات المناقشات والحورات، بالإضافة إلى وظيفته اليومية وهو إعطاء المحاضرات الدينية والمواعظ.

في عام ١٩٧٧، سافر كولن إلى شمال أوروبا، لإلقاء المواعظ للجاليات التركية ولتوعيتهم حول القيم والتعليم وتشجيعهم على أخلاقيات الخدمة والعمل الإيجابي. وشجعهم على الحفاظ على قيمهم الثقافية والدينية، وفي نفس الوقت الاندماج مع المجتمعات الذين يعيشون معها. وفي عمر السادسة والثلاثون، أصبح فتح الله كولن واحدًا من الدعاة الثلاثة المعترف بهم على نطاق واسع في تركيا. على سبيل المثال، في عام ١٩٧٧، دُعي فتح الله كولن وأتباعه إلى المسجد الأزرق (مسجد السلطان أحمد) في اسطنبول لإلقاء خطبة صلاة الجمعة بحضور رئيس الوزراء ووزراء آخرين وشخصيات أخرى.

شجع فتح الله كولن المشاركين في الحركة على النشر والطباعة. ونشرت مقتطفات من بعض مقالاته ومحاضراته، وأنشأ مجموعة من المعلمين المتآثرين بأفكار فتح الله كولن جمعية المعلمين لدعم التعليم والطلاب.

في عام ١٩٧٩، بدأت جمعية المعلمين بنشر مجلة شهرية خاصة باسم “سيزينتي” (Sizinti باللغة التركية) وأصبحت تلك المجلة الأعلى مبيعًا في تركيا. وكانت هذه المجلة مشروعًا رائدًا، لكونها مجلة العلوم والإنسانية والإيمان، والأدب. وكان الهدف من النشر هو إظهار أن العلم والدين لا يتعارضان وأن كلاهما ضروري للنجاح في الحياة. وفي كل شهر منذ أن تأسست المجلة، يكتب فتح الله كولن الافتتاحية، وقسم عن الجوانب الروحية أو الداخلية في الإسلام والتصوف ومعنى الإيمان في الحياة الحديثة.

في شباط ١٩٨٠، سجلت سلسلة محاضرات فتح الله كولن التي كانت ضد العنف والفوضى والإرهاب على أشرطة كاسيت، وكان يحضر هذه المحاضرات الآلاف من الناس. أيضًا في الثمانينيات وللمرة الأولى في تركيا، سجلت المحادثات والمواعظ على شريط فيديو ووزعت. وعلى الرغم من أجواء الترهيب في أعقاب الانقلاب العسكري الذي وقع عام ١٩٨٠، خطب حركة الخدمة استمرت في الانتشار بطريقة مؤثرة. في السنوات التي تلت الانقلاب مباشرة، واصلت الحركة نموها وعملها بنجاح. وفي عام ١٩٨٢، أسس المشاركين في الحركة مدرسة ثانوية خاصة في إزمير باسم “يمانلار كولجي” (Yamanlar Koleji باللغةالتركية).

في عام ١٩٨٩، طلبت مديرية الشؤون الدينية من فتح الله كولن استئناف مهامه. وأُعيدت رخصة كولن إليه ليتمكن من القيام بمهنة الواعظ الفخري وأُعطي حق إلقاء المواعظ في أي مسجد في تركيا.  وبين عامي ١٩٨٩ و١٩٩١ ألقى كولن مواعظه في أكبر المساجد في إسطنبول كل يوم جمعة وأيام الأحد في إسطنبول وإزمير. وحضر خطبه حشود مكونة من عشرات الآلاف وأرقام قياسية لم يسبق لها مثيل في التاريخ التركي. وتم تصوير هذه الخطب وبثها أيضًا. وفي بداية التسعينيات، كشفت الشرطة عددًا من المؤامرات لاغتيال فتح الله كولن من قبل إسلاميين متشددين وجماعات هامشية أيديولوجية صغيرة. كما وضعت هذه الجماعات ناس ليقوموا بالتحريض والتخريب في المناطق المحيطة بالمساجد الذي يخطب بها فتح الله كولن بهدف إثارة الاضطراب عند تفرق الحشود بعد خطبه. ونظرًا للاحتياطات التي أخذها فتح الله كولن والممارسات السلمية التي أنشأت بفعل الحركة، فشلت هذه المحاولات وتم التعامل مع المحرضين من قبل الشرطة.

بداية عهد جديد

في عام ١٩٩١، توقف فتح الله كولن مرة أخرى عن إعطاء المواعظ في المساجد. وذلك لأن بعض الناس كانوا يحاولون التلاعب أو استغلال وجوده ووجود المشاركين في الحركة في هذه التجمعات العامة الكبيرة.  ومع ذلك، واصل نشاطه ومساهمته في المجتمع عن طريق تدريس مجموعات صغيرة، والمشاركة في العمل الجماعي للحركة.

في عام ١٩٩٢ سافر كولن إلى الولايات المتحدة، حيث التقى بالأكاديميين الأتراك وقادة المجتمع وكذلك قادة الطوائف الدينية الأميركية الأخرى. في هذه المرحلة، وصلت عدد المدارس في تركيا التي أسستها المشاركين في حركة كولن إلى أكثر من مائة مدرسة، بالإضافة إلى المؤسسات مثل مراكز الدراسات والدورات التحضيرية الجامعية. ومن يناير ١٩٩٠ بدأ المشاركين في الحركة بإنشاء المدارس والجامعات في آسيا الوسطى وكان غالبًا ما يعملون تحت ظروف قاسية للغاية.

ابتداءً من عام ١٩٩٤، أصبح فتح الله كولن رائدًا في تجديد روح الحوار بين الأديان في التقاليد التركية المسلمة، والتي أصبحت منسية في خضم السنوات المزعجة من أوائل القرن العشرين. ونظمت منظمة الصحفيين والكتاب والذي كان كولن رئيسها الفخري سلسلة من الاجتماعات التي تضم قادة من الأقليات الدينية في تركيا؛ مثل البطريرك الرومي الأرثوذكسي والبطريرك الأرمني الأرثوذكسي وممثل الفاتيكان في تركيا “الحاخام الأكبر” وغيرهم. وفي منصة “أبانت” في بولوفي تركيا، اجتمع المثقفون الرواد من مختلف الأطياف السياسية واليساريون والملحدون والقوميون والمتدينون والليبراليون، ليتناقشوا بحرية عن الشواغل المشتركة لجميع المواطنين والمشاكل الاجتماعية وذلك لأول مرة في تاريخ تركيا الحديثة.

خلال هذه الفترة أتاح فتح الله كولن المجال للمقابلات والتعليقات لوسائل الإعلام، وبدأ التواصل أكثر مع شخصيات الدولة، وذلك للمساعدة في تخفيف التوترات التي ولدتها المناقشات حول التهديدات الوهمية للجانب العلماني في الجمهورية التركية. وقد أدت المواجهة بين الجناح العسكري لمجلس الأمن الوطني وحزب العدالة والفضيلة إلى ما يسمى “ما بعد الانقلاب العسكري الحديث في ٢٨ فبراير من عام ١٩٩٧”، الأمر الذي أجبر الحكومة الائتلافية إلى الاستقالة وإلى اتباع اجراءات صارمة من قبل الحكومة الجديدة تحت رقابة عسكرية وثيقة.

في مارس ١٩٩٩، بناءً على توصية أطبائه، انتقل فتح الله كولن إلى الولايات المتحدة لتلقي الرعاية الطبية بسبب حالة القلب والأو عية الدموية لديه. وبناءً على توصية الأطباء، بقي كولن في الولايات المتحدة للاستمرار في تلقي الرعاية الطبية، ولتجنب التوتر الناجم عن الجو المشحون سياسيًّا بعد الانقلاب العسكري الذي حدث في شباط.

وقد أقلق تنامي نفوذ فتح الله كولن والحركة المدنية التي ساعد في توليدها بعض الدوائر في البلاد الذين استفادوا من المجتمع المنغلق التي فيها مؤسسات مفضلة لدى الحكومة وحكر على الحياة الفكرية والنهج الانعزالي في الشؤون الخارجية. واتهمت هذه الدوائر كولن بأنه يخطط لطموحات سياسية طويلة الأجل وأقنعت مدعي القومية المتطرفين لتوجيه اتهامات ضده في عام ٢٠٠٠ استنادًا إلى مجموعة من مقاطع فيديوتم التلاعب بها والتي ظهرت لأول مرة في وسائل الإعلام في يونيو١٩٩٩.  وقد تبين بعد ذلك أن هذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة وأسقطت هذه التهم في نهاية المطاف في عام ٢٠٠٨، ولكنها تسببت في حالة من النكسة في روح الحوار بين الأديان والثقافات التي بدأها كولن.

وكان يعيش في منتجع في ولاية بنسلفانيا مع مجموعة من الطلاب والعلماء وعدد قليل من الزوار الذين كانوا يعتبرون أن اليوم جيدًا إذا كان صحة كولن جيدة، وكان قادرًا على إجراء محادثة لمدة نصف ساعة للإجابة على أسئلتهم.

حياته في الولايات المتحدة الأمريكية

في عام ١٩٩٩، سافر فتح الله كولن إلى الولايات المتحدة لتلقي الرعاية الطبية بسبب حالة القلب والأوعية الدموية لديه. وخضع لعملية جراحية في القلب في عام ٢٠٠٤، وبعد ذلك أوصى الأطباء أن يتجنب الإجهاد والإرهاق. لهذا السبب، اختار أن يعيش بعيدًا عن الأجواء السياسية المشحونة في تركيا، ومُنح الإقامة الدائمة من قبل الحكومة الأمريكية في عام ٢٠٠٦. وكان من بين أوائل العلماء المسلمين الذين أدانوا بشكل علني هجمات الحادي عشر في سبتمبر. وقد ظهرت له رسالة إدانة في واشنطن بوست الحادي في عشر من سبتمبر من عام ٢٠٠١.

كان يكرس وقته للقراءة والكتابة والتدريس والعبادة مع مجموعة صغيرة من الأفراد، واستقبال عدد قليل من الزوار إذا سمحت له صحته. وقد تم زيارة كولن من قبل الأكاديميين الأمريكيين والزعماء الدينيين، فضلاً عن أعضاء من الجالية التركية الأمريكية. وقد حافظ كولن على التقشف والروحية في حياته، وكان يقضي معظم وقته في غرفته المتواضعة، وكان يهتم دائمًا بتوفير السعادة للآخرين وتخفيف معاناة البشر في جميع أنحاء العالم.

وهو يشجع الناس أيضًا على المشاركة في تنظيم حملات المساعدات للمتضررين من الكوارث الطبيعية في جميع أنحاء العالم مثل إندونيسيا وميانمار وهايتي. وفي معظم الأيام يخصص نصف ساعة من وقته للحوارات والإجابة على الأسئلة وفي بعض الأحيان التشأور حول مشاريع الخدمة. ويتم تسجيل حواراته ونشرها على موقع(www. herkul. org). على مر السنين في ولاية بنسلفانيا، وقد تم مقابلته عدة مرات من قبل الصحفيين المحليين والدوليين في بنسلفانيا.
وعاش في بنسلفانيا وقضى كل لحظة من حياته في خدمة الإسلام الحنيف والحث على احترام الإنسانية، مساء الأحد 20 أكتوبر 2024 بولاية بنسلفانيا في تمام الساعة 9:20 مساءً -بتوقيت الولايات المتحدة الأمريكية- بعد فترة من العلاج في المستشفى. رحمه الله تعالى، ونفع بعلومه في الدارين، وجزاه  خير الجزاء.