فضاء الكتابة ورؤى الإنارة

أساليب الكتابة

عندما يرغب كاتب من الكتاب أن يكتب في موضوع ما، فإنه يتخذ طريقة لتنفيذ هذه الكتابة ويسلك مسلكًا يهدف من ورائه الوصول إلى غايته ونقل ما يريده من معانٍ وأفكار إلى الآخرين عبر ذلك الأسلوب.

ويمكننا أن نحدد نوعية الأسلوب من خلال قراءتنا لنصه، وأيضًا يمكننا تقسيم أساليب الكتابة على النحوالتالي:

أولاً: الأسلوب الأدبي

فإن كان أسلوبه جميلاً عذبًا، وألفاظه موحية، وعباراته شاعرية، وبه قدر لا بأس به من الصور الخيالية المرتبطة بذات الأدب ونفسيته، مع شيء من الفائدة الممزوجة بالمتعة الفنية والانسجام النفسي، ووجود التفاعل الداخلي الملموس من قبل القارئ، وإحساسه، ولو باليسير من التأثر النفسي الداخلي، فذلك هو ما يطلق عليه اسم الأسلوب الأدبي، وهو الأسلوب الذي يميل إليه الكثير من القراء ويجدون فيه اللذة الأدبية، وربما رسخ في أذهانهم بطريقة سهلة لما يحتويه من حقيقة ومجاز، وإستعارة وكناية وطباق، ومقابلة وتورية وجناس، وغير ذلك من منمقات الكلام ومجملاته ومحسناته.

وسأكتب مقطعًا عن (الكتاب) بأسلوب أدبي يتضح فيه كل ما ذكرت من صور فنية وخيال واضح يثير في نفس القارئ العارف بفن الكلام شيئًا من اللذة الأدبية والمتعة الفنية والفائدة المرجوة، فأقول مخاطبًا الكتاب: “أيها الكتاب، يا من احتويت بين دفتيك العلم الكثير، فحافظت عليه، وظللت صامتًا أمدًا طويلاً لا تنبس ببنت شفة، صمتَّ منتظرًا ذلك القادم العاشق الذي جاء ليتغلغل في أعماقك منقبًا عن أسرارك التي عجز الكثير عن الوصول إليها على الرغم من قربهم منها، تلك الأسرار التي تتأبى على كل من يحاول الوصول إليها دون مشقة، أو ذلك المستهتر الذي يظن جهلاً أنه عندما يمتلك فسيتمكن من الوصول إلى أسرارك فور اقتحام أسوارك، وهيهات له، فحصونك منيعة وأبوابك موصدة لا يصلها إلا من يحبك ويعشقك ومن بذل كله لك؛ ليحصل على بعضك”.

ثانيًا: الأسلوب العلمي

وهذا الأسلوب يمتاز بالسهولة والوضوح، وكلماته دقيقة مباشرة ليس فيها أي أعمال للخيال ولا للتصور، خالٍ من المبالغة، يشتمل على المصطلحات العلمية، والألفاظ المؤدية للغرض مباشرة، ليس لشخصية الكاتب فيه أي أثر، بل إن الحقائق العلمية المجردة هي الركيزة الأساسية فيه. فلا تجد فيه متعة أدبية، أو لذة فنية، بل يوصلك إلى الحقيقة المجردة، وينقل لك المعلومة الجافة التي لا تتجاوز الجانب العلمي، أو التوضيحي، فلا مجال للعاطفة في الدخول إلى تلك المعلومة، ولا مجال للذوق الفني للمشاركة في إيصال المعلومة وصبغها بالطابع العاطفي.

وهنا أكتب موضوعًا علميًّا عن الكتاب خلا من الجوانب الأدبية أو كاد، فأقول: “عرف الكتاب كوعاء للكتابة، وأصبح وسيلة لحفظ المعلومات، فهو عبارة عن جسم له دفتان من الكرتون المقوى المغلف بالجلد أحيانًا أو بما يشبه الجلد، وربما اقتصر على الكرتون المقوى اللامع فقط، وتختلف جودة الورق من كتاب لآخر، وكل ذلك بحسب الدار التي تطبع ذلك الكتاب، ولمن يريد طباعة كتاب عليه أن يحدد الخامة التي يمكن استخدامها في طباعة ذلك الكتاب واختيار ما يناسب إمكاناته المادية، وكلما كان مؤلف الكتاب مشهورًا كانت الحاجة إلى اختيار الخامة الأجود هي الأولى، ويضم الكتاب في صفحاته المعلومات المختلفة من علمية وأدبية ودينيه وتاريخية، وغير ذلك مما يتطلبه الوضع، وتزخر المكتبات بالكثير من الكتب في شتى فنون العلم بلغات مختلفة لتلبي حاجات القراء إلى تلك المعلومات كل حسب احتياجه”.

ثالثًا: الأسلوب العلمي الأدبي

حين يملك الكاتب عنان الكتابة ويوثق وثاقها، فسيصل إلى أسلوب وسط يحمل في طياته المصطلحات العلمية التي تنبعث من النصوص المشتملة عليها ومضات أدبية راقية، فتعطي الموضوع العلمي المراد التحدث عنه صورة مشرقة وبيانًا بديعًا وروعة ما بعدها روعة، وسأحاول بقلمي المتواضع أن أصوغ ما يمكن أن يطلق عليه ــ ولو من باب المجاز ــ الأسلوب العلمي الأدبي لأدلل على ذلك، وهي محاولة توضيحية لتقريب المعنى المقصود إلى ذهن القارئ فأقول عن الكتاب أيضًا: “منذ أن عُرفت القراءة والكتابة ما زال فكر الإنسان يتفتق عن كل ما يسهل له تدوين مذكراته ومدوناته ووضعها في إناء يحفظها من النسيان والتلف، ويستفيد الأجيال منها جيلاً بعد جيل، فكان الكتاب ذلك الكائن الجميل الذي يختزن بداخله ملايين المعلومات، ويطبق عليها لحين وجود من يبحث عنها، فيبوح لهذا الباحث بكل ما اكتنفه بين دفتيه ألا يبخل بكلمة واحدة فيعطي كل ما لديه، ذلك الجماد المصنوع من الورق المعد بطرق علمية ليكون صالحًا للاستفادة منه وتكون جودة الورق على حسب كلفته، فكلما كان الورق أجود كانت كلفته أغلى وخامته أفضل”.

وعليه، فإن النفس تميل إلى الأسلوب الأدبي لقربه من المشاعر والأحاسيس، يقول كروتشه “إن للمعرفة صورتين، صورة حدسية (بصرية) وصورة منطقية، وعماد الأولى الخيال، وعماد الثانية العقل، والأولى هي صورة الجمال، وهي تنبع من الصور الذهنية الجزئية التي يتمثل فيها جوهر الأشياء المدركة، والثانية هي صورة العلم وتنبع من الكليات الذهنية التي تبعدنا عن الأفراد والجزئيات، وتنطلق بنا في عالم كله تجريد على نحو ما هو معروف في العالم الرياضي، والمعرفة الأولى تسبق المعرفة الثانية لأن الخيال يسبق الفكر، فهي فجر كل معرفة، وهي التي تبعث في الفنان إحساسه بالجمال.. وأساس الفن إنما هو إحساس الفنان وقدرته على تكوين الصور الذهنية التي تسبق صور العقل المنطقية وأفكاره الكلية”.

وحين يتطلب الأمر المزج بين الأسلوبين لإيصال فكرة علمية بأسلوب أدبي، فذلك إبداع يساعد في تقديم وجبة علمية على طابق أدبي.