منظور تربوي إسلامي
الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، فلا غنى عن العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، ولا يوجد إنسان يستطيع العيش وحده دون وجود أسرته وزملاءه وأصدقاءه. والصداقة جزء أساسي واختياري من حياة كل فرد، فلا أحد يُجبر على اختيار صديق معين أبدًا، ومن هنا فإن حسن اختيار الأصدقاء هو مسألة بالغة الخطورة في حياة كل فرد، فالصداقة الحقيقية سر للسعادة والراحة النفسية وسبيل للدعم المعنوي، وتخفيف الهموم والأحزان، كما تسهم الصداقة في تخفيف مشاعر القلق والتوتر وضغوط الحياة اليومية، كما يمكن أن يثمر التعاون بين الأصدقاء لما فيه صالحهم وصالح مجتمعهم.
مفهوم الصداقة
الصداقة لغة هي مصدر من الفعل صدق، أي إن أساسها الصدق في المحبة والمودة، ومن هنا فإن الصداقة اصطلاحًا هي علاقة اجتماعية بين شخصين أو أكثر قائمة على الصدق والمحبة، ومن المنظور الإسلامي فإن أساسها المحبة في الله دون أي غرض دنيوي.
وللصداقة الصالحة منزلة عظيمة في الإسلام، ولقد حثنا الرسول صلى الله عليه وسلم حسن اختيار الصديق، لما له من أثر كبير على صديقه، فقد يكون سببًا في سعادة صاحبه في الدنيا والآخرة، وقد يكون سببًا في شقاء صاحبه في الدنيا والآخرة.
وقد أوصانا الله عز وجل بحسن اختيار الأصدقاء فيقول سبحانه: (الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ)(الزخرف: 67)، وقد أوضح الإمام ابن كثير أن كل صداقة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة إلى عداوة. كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً)(الفرقان: 27، 28، 29).
وقد روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)(صحيح الترمذي).
كما روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل الجليس الصالح، والجليس السوء كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة)(البخاري ومسلم).
وقد أوضح الإمام النووي أن هذا الحديث يبين فضل مجالسة الصالحين، وأهل الخير والمروءة، ومكارم الأخلاق، والنهي عن مجالسة الأشرار، وأهل البدع، ونحو ذلك من الأخلاق المذمومة.
كما روى أبى هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل)(مسند أحمد)، وروى أبو سعيد الخضري عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)(صحيح الترمذي).
ومن صفات الصديق الصالح: رجاحة العقل، وحسن الخلق، والتقوى والصلاح، والصدق في الأقوال والأفعال.
وقد قال عدي بن زيد عن أهمية الصداقة وحسن اختيار الصديق:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
إذا كنت في قومٍ فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
أهمية الصداقة في مرحلة المراهقة
تعرف مرحلة المراهقة بأنها المرحلة العمرية التي تلي مرحلة الطفولة مباشرة، ومرحلة المراهقة هي مرحلة انتقال خطيرة في عمر الإنسان؛ ويرى علماء النفس أن هذه المرحلة تتسم بتغيرات متعددة ومختلفة ومتباينة، بحيث تمتد هذه التغيرات لتشمل الجانب النفسي، والسمات الشخصية، والجانب الانفعالي والوجداني، والجانب السلوكي، وأيضًا الجانب البيولوجي العضوي. وتضم هذه المرحلة ثلاث مراحل أساسية:
- مرحلة الطفولة المبكرة بين عمر 11 و 13 سنة، وهذه المرحلة تتميز بحدوث تغيرات سريعة على كافة مستويات الشخصية النفسية والعضوية والعقلية والوجدانية.
- مرحلة الطفولة المتوسطة: وتمتد من 14 إلى 16 سنة وتتسم بتغيرات جوهرية في شخصية المراهق تتفق مع التغيرات البيولوجية في جسده، بحيث نجد المراهق يتجه تفكيره نحو ذاته وما حدث به من تغيرات، ويبدأ في إدراك هويته.
- مرحلة المراهقة المتأخرة: وتمتد في الفترة من 17 إلى 20 سنة وفيها تتبلور شخصية المراهق بشكل نهائي، وتستقر بشكل نسبي سماته الشخصية والسلوكية التي اكتسبها خلال مرحلة الطفولة ومراحل المراهقة السابقة.
فمع حدوث ظاهرة البلوغ تحدث تغيرات متنوعة في حياة الإنسان، لتشمل كيانه الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي، فتتحول اتجاهات الطفل وميوله وأفكاره ومعتقداته إلى اتجاهات مختلفة ومتباينة، ينتقل فيها من يكون فيها معتمدًا على الغير إلى الاعتماد على نفسه، وينتقل من الأشياء الملموسة إلى الأشياء المعنوية والفكرية، كما يميل إلى التحرر من سلطة الأبوين، والخروج عليها، والارتباط بجماعات الأقران والأصدقاء والولاء لهم، وتكوين العلاقات الاجتماعية والعاطفية معهم، ويزداد اهتمامه بالآخرين، وتدريجيًّا يرسم الفرد شخصيته وهويته الفردية.
وإذا كانت الصداقة مهمة في حياة الإنسان، فإن أهميتها تزداد في مرحلة المراهقة، لما لتلك المرحلة من تأثير في شخصية الفرد، ولما يمر به الفرد من مرحلة تحول وتغير في بنيته وتكوينه وفكره، وفي هذه المرحلة كما يشير علم النفس الاجتماعي، يميل الفرد إلى الانتماء إلى جماعة من الأقران، ويقوي تأثير تلك الجماعة على الفرد، فهو يقتدي بها في شتى الأمور ومناحي الحياة، ومنها يستمد الأمان والثقة.
لذلك يجب أن يعلم الآباء والأمهات الأطفال والمراهقين معايير اختيار الصديق الصالح، وانتقاؤه، لأن انتشار الكثير من العادات السيئة والسلوكيات السلبية راجعة إلى ترك الأبناء يختلطون برفاق السوء خصوصًا في مرحلتي الطفولة والمراهقة، فالتدخين، وتناول المخدرات والخمور، والسرقة، والسير في طريق الفاحشة، يرجع غالبًا إلى رفاق السوء.
وقد أوصى لقمان الحكيم ابنه قائلاً “يا بني لا تعد بعد تقوى الله من أن تتخذ صاحبًا صالحًا”.
كما ورد في وصاياه “يا بني من لا يمسك لسانه يندم، ومن يكثر المراء يشتم، ومن يصاحب صاحب السوء لا يسلم، ومن يصاحب الصالح يغنم”.
لذلك على الوالدين متابعة الأبناء، ومن يختلطون بهم من الأقران، وتعليم الأبناء ألا يختلطوا إلا بالأفضل خلقًا وسلوكًا، ومعايير اختيار الصديق الصالح، وتعريفهم بالصداقة من منظور الإسلام ونماذجها، ومن أفضل تلك النماذج سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كان الصديق أبو بكر رضي الله عنه أفضل صديق، وذكره الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(التوبة:41)، كذلك كان باقي صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيف كانت محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف اقتدوا به في حياتهم وسلوكهم، وكيف امتدت تلك المحبة إلى بعضهم البعض.
كيفية النعامل مع الصداقات الافتراضية عبر الإنترنت
وقد أنتجت لنا التكنولوجيا وثورة الإنترنت أشكال جديدة للصداقة، عبر برامج المحادثات والشات، وشبكات التواصل الاجتماعي، والألعاب الإلكترونية، والبريد الإلكتروني، وتطبيقات وبرامج الهواتف المحمولة، ولاقت تلك الأشكال رواجًا كبيرًا بين الشباب والمراهقين بل وفئات الكبار أيضًا، لكن تلك الأشكال يجب الحذر في التعامل معها، فكثير من تلك الصداقات ما هي إلا مصائد وأفخاخ للأطفال والمراهقين، وكافة فئات المجتمع مكانية استخدام هويات مزيفة وصعوبة الوصول إليهم بواسطة الأجهزة الأمنية.
لذلك على الوالدين تعليم الأطفال والمراهقين كيفية التعامل مع التكنولوجيا، والحفاظ على هويتهم وسلامتهم وخصوصيتهم، وفي نفس الوقت غرس القيم الإسلامية النبيلة في وجدانهم، والتي تشمل الصدق، والأمانة، والحرص عند التعامل على سلامتهم وسلامة غيرهم، وعدم الإضرار بالغير، والحفاظ على الوقت، والضوابط والقواعد الشرعية للتعامل مع الغير باختلاف النوع ذكر وأنثى، وحدود تلك التعاملات، كما ينبغي تدريب الأولاد والمراهقين على الحفاظ على أمن وخصوصية بياناتهم الشخصية وبيانات أسرهم حتى لا يقعوا فرائس للمبتزين ومحترفي الجرائم الإلكترونية، وتدريب هؤلاء الأولاد والمراهقين على مهارات التعامل مع التكنولوجيا وتطبيقاتها المختلفة.
ويمكن للآباء النقاش والحوار مع الأبناء من مختلف المراحل حول ما يتعرضون له عبر الإنترنت من مخاطر ومشكلات، وكيفية التعامل معها، وكذلك يمكن أن يتشارك الآباء والأمهات مع أفراد الأسرة قضاء وقت الفراغ أو جمع المعلومات أو البحث عبر الإنترنت، وهناك نوعية أيضًا من البرامج التي يمكن استخدامها والتي يطلق عليها برامج الفلترة لمنع بث أو نقل مواد للأطفال والمراهقين تعد غير مناسبة لمراحلهم العمرية ويطل على تلك البرامج برامج التوجيه الأبوي Parental Guide، كما يجب تدريب الأبناء من المراحل السنية الأولى على تنظيم أوقاتهم، والتوازن بين وقت الفراغ ووقت العمل، والحرص على الاستفادة من التكنولوجيا لا إضاعة الوقت عليها، فعن عبد الله ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خسمًا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك)(المنذري)، فيجب على الإنسان أن يستغل شبابه وقوته في عبادة الله سبحانه وتعالى، والتقرب إليه، والسير على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهرم ويصير غير قادر على أداء العبادات.
وفي حديث آخر يتبين لنا أن الشباب الناشئين على عبادة الله وطاعته سيكونون من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله؛ فعن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه، وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)(رواه البخاري ومسلم)، ويستفاد من هذا الحديث الكثير من الفوائد منها أهمية الاستفادة من مرحلة المراهقة والشباب لما فيها من حيوية ونشاط.
ولهذا فإن من سلك منهج الله وغلب هواه، استحق تلك الدرجة العالية المذكورة في الحديث، وما يعين المراهق والشاب على ذلك: طلب العلم والانشغال به، وتعويد النفس على استغلال الوقت بشتى الوسائل في بر الوالدين، ومساعدة الغير، وقراءة السيرة النبوية وقصص الصحابة، ومصادقة الصالحين المستقيمين على منهج الله تعالى، ومحاولة استغلال فرصة الشباب بحفظ كتاب الله أو ما تيسر منه، والتعبد وملازمة المساجد، كما يشير الحديث إلى أهمية الترابط بين المسلمين على أساس المحبة في الله.