معاني المعرفة في القرآن الكريم

لقد كرّم الله عز وجل الإنسان وعظمه بصفة العلم والمعرفة، وأصحبه بشرفها، وفضّله على سائر الكائنات بفضلها، وأن ما يبعث العلمُ والمعرفة الروحَ إلى الجامد، أنه يعطي صاحبه أسباب العلو والنجاح، وبهذا ويستطيع فتحَ أبوب المعاني الشاسعة، والإبداعيات الساطعة، لأن العلم والمعرفة يلعبان دورًا مهمًّا في صيرورة الإنسان إنسانًا.

فالبشرية كلهم بضرورة العلم والمعرفة لأنهما طريق إلى معرفة الله جل وعلا، لذا قد وهبهم السمع والبصر والفؤاد كما دل عليه القرآن المجيد ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾(النحل: 78)، فهذا كله أسباب كسب العلم والمعرفة، لذا بالغ الإسلام في إحراز المعارف، كما وردت الأحاديث النبوية الشريفة حول اكتساب العلم، “السالك طريق العلم أجره الجنة”.

ويحث القرآن على التفكر، والتدبر ويحرّض على كسب المعلومات، قد استخدم القرآن كلمتي “العلم” و”المعرفة” أن يشير إلى العلم، وأن الكلمتين تتساويان معنًى في استعملاتنا اللغوية المتداولة، ولكن المتأمل في القرآن يدرك الفرق الفاصل بينهما.

لا توجد في القرآن كلمة “المعرفة” بل توجد مشتقاتها في أكثر من عشرين موضعًا، وهي تطلق على “إدراك الشيء مع التفكر والتدبر”، كما قال الراغب في كتابه “المَعْرِفَةُ والعِرْفَانُ: إدراك الشيء بتفكّر وتدبّر لأثره”[1] فالمعرفة علم بشىء يحصل  بطريق التدبر والتفكر في سماته وعلاماته وآثاره، فالإنسان يحتاج إلى العقل الذي يدرك ماهية شيء فيقوم بتحليله ليحصل على معرفته، فإنما يتجلى ذلك من آيات القرآن الكريم. حيث قال الله في شأن يوسف عليه السلام مع إخوته الذين تركوهم في غيابة الجب وأبعدوه عن أبيهم حين أدركهم من مصر وهو جالس على سلطتها، قد ذكر ذلك القرآن: ﴿وجاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهم وهم لَهُ مُنْكِرُونَ﴾(يوسف:58)، أي أدركهم يوسف عليه السلام بتفكره على سيماهم الطبيعي الجسمي.

وفي آية أخرى كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ولَمّا جاءَهم كِتابٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهم وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ﴾(البقرة: 89)، قد تناولت هذه الآية أمر اليهود أنهم لم يقروا بنوة محمد صلى الله عليه وسلم وكان في التوراة أوصافه الإجمالية وعنده معجزة من الله، لذا يمكن لهم إدراك كونه رسولاً نبيًّا بالعقل والتدبر فيما جاءهم في التوراة من صفاته الجلية وفي المعجزة التي أوحيت إليه. كما رصد الإمام فخر الدين الرازي في تفسير الآية حيث ذكر: “أنَّ الوَصْفَ المَذْكُورَ في التَّوْراةِ كانَ وصْفًا إجْمالِيًّا وأنَّ مُحَمَّدًا ﷺ لَمّا لَمْ يَعْرِفُوا نُبُوَّتَهُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الأوْصافِ، بَلْ بِظُهُورِ المُعْجِزاتِ صارَتْ تِلْكَ الأوْصافُ كالمُؤَكِّدَةِ، فَلِهَذا ذَمَّهُمُ اللَّهُ تَعالى عَلى الإنْكارِ”[2]. فلدى اليهود آثار خاتم النبي الأمي، لذا يستطيعون الفهم بأنه رسول الله من خلال تدبرها العقلي البشري، فاستعمل القرآن دلالة على هذا كلمة “عرفوا” من مشتقات “المعرفة”.

وفي موضع آخر كما قال الله تعالى: ﴿یَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ یُنكِرُونَهَا وَأَكۡثَرُهُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾(لنحل: 83) نزلت هذه الآية في حال المشركين في مكة، أنهم يعرفون الله حق المعرفة ويعرفون أن الرحمات والنعم تنزل من الله بتفكرهم في قدرة الله، لأنهم كانوا يعلمون أن الله خالقهم ويقرون بربوبيته لكن لم يعترفوا بألوهيته، فلأن مشركي مكة كانوا عارفين بنعمة الله بتدبرهم أنه خالقهم لذا يجب عليه أن يرزقهم وينعم عليهم، فللدلالة على هذا قد استخدم القرآن كلمة “يعرفون” مشتقة من المعرفة.

وكذلك، المعرفة تقابلها كلمة “الإنكار” الذي يرفضه العقل البشري أي لا يفهمه عبر عقل الإنسان، وأصلها أن يرد على القلب ما لا يتصوره،  وذلك يظهر في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَلَمّا رَأى أيْدِيَهم لا تَصِلُ إلَيْهِ نَكِرَهم وأوْجَسَ مِنهم خِيفَةً﴾(هود: 70)، التي تتناول حالة إبراهيم عليه السلام حين جاءه ضيوف من الله (الملائكة المرسلة إلى قوم لوط)، قُدم إليهم عجلاً حنيذًا طعامًا لهم، لكن لم يقتربوا منه، فالأمر الذي جعله يخاف منهم لأنه مما ينكر عقله ولم يدرك منهم شيئًا، لذا استخدمت هنا كلمة “نكرهم” بمعنى أنكرهم، وكذلك استعملت كلمة الإنكار في القرآن فيما ينكر بألسنتهم لا بقلوبهم كما ورد في اقوله تعالى: ﴿یَعۡرِفُونَ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ یُنكِرُونَهَا﴾، أي إن المشركين أنكروا نعمة الله بلسانهم لا بقلبهم، وفي موضع آخر كما قال الله تعالى: ﴿فَأيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾ فتخاطب هذه الآية الناس عامة والمشركين في مكة خاصة، وقد ذكر الفخر الرازي في تفسير الآية، أي قال الله إنَّ هذه الآيات التي عددْناها كلها ظاهرة باهرة، فقوله: ﴿ويُرِيكم آياتِهِ فَأيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ﴾، تنبيه على أنه ليس في شيء من الدلائل التي تقدم ذكرها ما يمكن إنكاره[3]، وكما فسرها ابن كثير “أي: لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا”[4]، أي لقد فهم المشركون أن كل من السماء والأرض وما بينهما من آيات الله، ولكن أنكروها بتكابرهم لا بعدم فهمهم أنها من الله.

ومما سبق ذكره، يمكن فهم كلمة المعرفة أو مشتقاتها في القرآن الكريم تعكس معنى العلم الذي يتصور في العقل البشري خلال التفكر والتدبر، ومن المشتقات كلمة “المعروف” وتطلق عادة على الخير، وأما في الأصل فهي تطلق على كل ما يُعرف بالعقل حسنه، تقابلها كلمة “المنكر” التي تطلق عادة على الشر، وأما هي تطلق على كل ما تحكم العقول بقبحه. وقد استخدم القرآن هذين اللفظين في السياق الذي ينبه عن مهمة الأمة حيث قال الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾(البقرة: 110)، فإن المهمة التي كلف الله بها الأمة المسلمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيمكن الفهم بذلك للإنسان خلال استخدام عقله لأن (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) يقوم به المسلم بين الناس أو المجتمع الذي يشمل على مختلف ألوان الناس كافرًا ومنافقًا ولا دينيًّا، وذلك يستوجب الفهم بالأمر بالمعروف لجميعهم، مثل العدل والأخوة والسلامة وعدم الظلم والعداوة والفساد والاستبداد، فلا تتأتى معرفة ذلك الأمور إلا العقل الإنساني، و مع ذلك، عندما يريد أن يحكم شيئًا باستحسانه أو استقباحه فلا بد من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، لكن إذا لم يستعمل الإنسان العقل بشكل صحيح وسعى بمجرى ما يحب هواه أو سعى لما فيه ربحه وأنانيته، فيصادف بالعالم المتزايد من الفساد والأضرار كما نشاهدها الآن، والله عنده خزائن العلم يؤتيها من يشاء من عباده وهو أعلم.  

المراجع:

[1] أبو القاسم حسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، (دار القلم ببيروت، 1412ه، ط1) ص: 560.

[2] فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، (دار إحياء التراث العربي، 1420ه، ط3/ ج3) ص: 599.

[3] فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، (دار إحياء التراث العربي، 1420ه، ط3/ج27) ص: 534.

[4] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (دار طيبة للنشر والتوزيع، 1999م، ط3/ ج3) ص: 159.