اشتهر بين المحبين، محبة العاشق للمعشوق في الهوى، لا ينفك عنه وإن أرداه إلى الجوى. وربما زاد هيام بعض العاشقين فأحب كل ربع سار عليه المعشوق. بل إن فسيفساء مكان لقاء المتحابين يحب بعضها بعضًا، طربًا وشوقًا لتكرار اللقاء كما قال المُنَخَّل بن عامر اليَشكُري: وأُحبُّهَا وتُحبُّنِي ويُحبُّ ناقَتَها بَعِيرِي
أو كما قال مجنون ليلى:
أمـــرّ علــى الديــار ديــار ليلى | أُقَبِّلُ ذا الجدار وذا الجـــدارا |
وما حب الديار شَغفْن قلبي | ولكن حب مَن سكن الديارا |
وهذا النوع من المحبة مطروق مجرب، قد سطر فيه المتحابون الدواوين، وأنشدوا فيه القصائد، ودندنت به القيان.. أما عكس ذلك وهو “محبة المكان للمكين”، فلم يلتفت إليه الأدباء بالإفراد والتأليف، ومن ثم سميناه “حنين البقاع”، فالمجنون أحب ليلى والجدار، ولكن لم نسمع عن محبة الجدار له.
وحنين البقاع يثمر في مواطن الإيمان، إذ يستشعره العارفون بالفراسة الإيمانية، فيتدرجون من وهم محبة المكان لهم إلى يقين بوح المكان بمحبته لهم. فهذه المحبة دليل على كمال المحبوب، فكما أن الكون يسبح دون أن نفقه تسبيحه (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)(الإسراء:44)؛ فإن في الملكوت من يحب أهل الكمال دون أن نستشعر محبته.
ومن رواية أنس بن مالك رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم في أُحُد: “جبلٌ يحبنا ونحبه”(رواه البخاري). فجدار سلمى لم يبادل “المجنون” قبلة بقبلة، أما جبل أُحُد فقد شرع في الحنين والطرب دونما طلب، فكان رد التحية بمثلها “جبل يحبنا ونحبه”، بل كان الرد بأحسن منها؛ إذ شرع المحبوب -وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم- في ضرب المثل بهذا المحب، بل بلغ من التلطف والدلال استخدام التصغير لتقريب المنزلة ورفعها؛ ففي صحيح البخاري “هذا جُبَيْلٌ يحِبنا ونحبه”.
ثم صار أُحُد مثلاً لبقاع عاشقة أخرى؛ إذ سرى طيف المحبة من جبل أُحُد إلى جبل حراء؛ عن سعيد بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “اسْكُنْ حِراءُ، فليس عليك إلا نبيٌّ أو صدِّيقٌ أو شهيدٌ”، قال: وعليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد رضي الله عنهم. وعن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطب إلى لِزْق جِذْعٍ، واتخذوا له منبرًا، فخطب عليه فحنَّ الجِذْعُ حنين الناقة، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فمسَّه فسكت.
فكما طرب أُحُد بملامسة الأقدام الشريفة، جزع الجذع للحرمان من تلك الملامسة. ففي مصنف ابن أبي شيبة عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فأتاه رجل رومي فقال: أصنع لك منبرًا تخطب عليه؟ فصنع له منبره هذا الذي ترون، فلما قام عليه يخطب حنّ الجذع حنين الناقة على ولدها، فنزل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضمه إليه فسكت، فأمر به أن يحفر له ويدفن.
وفي رواية أنس بن مالك قال: فلما قام على المنبر ليخطب حنَّت الخشبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أنس: فسمعتُ الخشبة حنَّت حنين الولد، فما زالت تحنُّ حتى نزل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتضنها فسكنت، قال: وكان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله، الخشبة تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. بل تتسع محبة البقاع للعارفين لتشمل كل موضع سجد فيه العارفون، قال ابن عباس: تبكي على الرجل البقاعُ التي كان يصلي فيها، ويصعد عمله منها، فذلك قوله تعالى: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ)(الدخان:29).
وإذا كانت تلك المشاعر لثلاثة مواضع في بقاع الأرض، فكذلك البقاع في السماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اهْتَزَّ عرشُ الرحمن لِمَوتِ سعد بن معاذ”(رواه مسلم)؛ أي شوقًا وطربًا للقاء روح “سعد”، التي صعدت لبارئها في ذي القعدة في العام الخامس للهجرة، بعد أن حكم في بني قريظة بحكم الله من فوق سبع سماوات.
(*) أستاذ جغرافيا الأديان، وكيل كلية الآداب، جامعة دمنهور / مصر.