الريف مصدر إلهام الشعراء

بين الشعراء والريف علاقة وثيقة، فالريف بالنسبة للشعراء هو العالم الرحب الذي يطلق المجال لأخيلتهم، ويرسم أمامهم عالمًا ساحرًا مليئًا بالألوان والصور الخلابة، التي يستوحون منها أجمل الأشعار. والريف مرتع خصب لذكريات الطفولة والشباب، ومنبع للحنين، ومتسعٌ لغسيل الأحزان وتناسي الأشجان.. وهو في بستان الشعر العربي، ومخيلة الشعراء العرب؛ عالم ينبض بالجمال والبكارة، والبساطة والوداعة والنقاء. لكنه أيضًا -كما صوَّره بعض الشعراء- بيئة ترزح تحت نير الجهل والإهمال، والشقاء وشظف العيش. وقد تفنن الشعراء العرب في تصوير جمال الطبيعة الساحر، والنابض بالحياة والبراءة في الريف. وفي هذه الإطلالة نتفيأ بجمال الريف، ونرى كيف تناوله الشعراء في قصائدهم.

الريف حياة الطبيعة والحرية

نبدأ جولتنا في الريف مع الشاعر المهجري اللبناني “إيليا أبي ماضي”، الذي يعتبر الحياة في القرى هي الحياة الأجمل للشاعر الذي يريد إطلاق عنان أفكاره، والتحرر من كل قيوده وسط البراح الأخضر الجميل، وفي أحضان الطبيعة البكر، فالسماءُ العارية غطاؤه، وضياءُ الصباح دليله، حتى إذا حلَّ الظلام في المساء فإنه سيهتدي بضوء النجوم. فالحياة في الريف هي الحياة السعيدة التي يحلق فيها الإنسان بحرية كالطيور، ويمضي نهر الحياة به هادئًا هانئًا:

لله مــا أشــهــى القــــرى وأحَـــبَّــــــها لِــفــتًى بَــعــيدِ مَــــطارِح الأفـــكـارِ
إِن شِئتَ تَعرى مِن قُيودِكَ كُلها فَانظُر إلى صَدرِ السماءِ العاري
وَامشِ عَلى ضَوءِ الصَباحِ فَإن خَبَا فَامشِ عَلى ضَوءِ الهِلالِ الساري
عِش في الخَلاءِ تَعِشْ خَلِيًّا هانِئًا كَــالـطـــيرِ حُـــرًّا كَالغَديـرِ الجـاري

طبيعة الريف النابضة بالحياة

وننتقل إلى الشاعر المصري “فوزي العنتيل” الذي تنطبع بوجدانه وذاكرته صورة قريته ذات الطبيعة الفاتنة، والنابضة بالحياة والنشاط.. ففي قريته يحلو نسيم الربيع العليل، الذي يهبُّ عليها، فتتألق الحقول بالخضرة وأشجار النخيل الباسقة. وفي قريته حركة دائبة من النشاط والحيوية، يشترك فيها البشر والطيور التي تصحو مع نسمات الفجر، وتوقظ الديوكُ الناسَ بصياحها الجميل:

أنـا لستُ أنســى قريتـــي وهَـوَا الـرَّبيعِ يـزورُهَـا
فتـمُــــوجُ فــيه حــقــولُــهـا وَنَـخِـيلُــهَـا وَطــيـــورُهَـا
وعـلى صِياحِ دَجـاجِــهـا الـوَثَّابِ تصحو دُورُهَـا
تَسْـــتَقْبلُ الْفَجْـرَ الجمِيل وقَــــدْ أَطَـــــلَّ يُــنـــيـرُهَــا

قرية لم تكتشفها القوافي

أما الشاعر السعودي “عبد الله أحمد الأسمري”، فيشكو لقريته “حوراء” بعد أن عاد إليها انقضاء عهد الصبا والبراءة، وراحة البال والمرح في أحضان قريته. فبعد رحيله عنها تبددت أحلامه، وشرّدته المدن، فجاء ينشد السكينة بين ربوع قريته التي لا تفرط في بكارتها وأصالتها، وتبقى مجالاً مفتوحًا للقصائد التي لم تكتب بعد، للتغنّي بسحرها الفاتن الغامض:

جئتُ حــــوراءَ كـــي أشكــــوَ ما بـــي راح عهدُ الصِبـا وعهدُ التصابي
جئتُ خلـفي مـن السـنـيـنِ ســـــرابٌ ورحـيــلٌ مُطَـعَّـمٌ بالصعـابِ
يـا ابنة الــريفِ مـــوسمــي ليسَ فـــيهِ منْ وعودِ الحياةِ غيرَ السَـرابِ
يـا ديـــارًا لـــم تــكــتــشِفْــها القــــوافي وعروسًا تختـالُ خلفَ السَّحـابِ

الحنين للقرية لترميم النفس

ويعبر الشاعر اليمني “جهاد العبّادي” عن شوقه لأيام البراءة في قريته الوادعة، حيث العيش على الفطرة، وحميمية المشاعر بين الأهل والجيران، وحكايا الجدّات الجميلة، ويشتاق لجمال الأشجار وسعف النخيل الذي يفتن الفؤاد، لكي يرمِّم نفسَه التي مزقتها حياة المدينة بكل ضجيجها وصراعاتها وقسوتها:

رَمَّمْتُ نَفْسِي كي أُعِيدَ حَنِينَها للأمْسِ للعَهْدِ القَديمِ الفَانِي
لطُفُولَتِي أشْتَاقُ، للأرضِ الَّتي أهْــدَيْتُها حُبِّي ونَبْعَ حَـــنَانِــي
للقَـرْيَةِ السَمْـرَاءِ، للكُــرب الَّتي فُتِــنَ الفُــؤَادُ بــوَجْـهها الفَــتَّانِ
أشْتَاقُ للأشْجَارِ فـــي وِدْيَــانِــها أشْـتَاقُ أرْضًا ضَمَّها شَـريَانِي
أشْتَاقُ لُغْزًا منْ حِكَايَةِ جَدتي ورَغِيفَ خُبْزٍ منْ يَدِ الجِيرَانِ

خمول الريف وسباق المدينة

وننتقل إلى صورة أخرى من صور الريف في مخيلة الشعراء، وهي صورة إيقاع الحياة الرتيب في الريف، على عكس السباق المحموم وراء النجاح وكسب القوت في المدن. فالشاعر السوداني “محمد المكي إبراهيم” يقارن في إحدى قصائده بين حياة المدينة بوتيرتها السريعة والسباق المحموم فيها وراء الأحلام، وبين حياة القرويين التي استسلموا فيها للخمول والأفق المحدود فوقعوا فريسة للفقر والتخلف:

هذي عاصمة القُـطـْرِ على ضفّاتِ النيلِ تقوم:

عرباتٌ، أضواءٌ، وعماراتْ وحياةُ الناسِ سِباقٌ تحتَ السَوط
هذا يبدو كحياةِ الناسْ خيرٌ من نومٍ في الأريافِ يحاكي الموتْ
ما أتعسَها هذي الأريافْ ما أتعسَ رأسًا لا تعنيهِ تباريحُ الأقدامْ

انتظار الحصاد

أما الشاعر “محمود حسن إسماعيل”، فيرسم لوحة تفيض بملامح البؤس والشقاء للفلاح المصري في الماضي، حيث كان يعمل أجيرًا تحت لهيب الشمس في الحقول، ويُروي الأرض بعرقه ودموعه انتظارًا ليوم الحصاد، لينال لقيمات يسدُّ بها جوعه ويعوضه عن تعبه:

بايعتُ خطوًا شقَّ ليلَ قريتي وفأسُها حيـرانُ حولَ زهرتي
يسألها جــــوعانَ أيـــن لقمتي وكـلُّ عطـرٍ فيكِ كـانَ دمعتي

نقاء القرية أساس السمو

ويمدح الشاعر اللبناني “إبراهيم المنذر” حياة البساطة والنقاء في قريته، بين الحقل والكوخ، والناس الطيبين الذين ارتقوا أعلى مكانة بفضل سموّهم ونبلهم، ويدعو إلى نبذ العادات الدخيلة على المجتمع، التي أفسدت أصالته وأثارت الاشمئزاز في النفوس:

حبّذا غابتي وكــوخي وحقــلــي حبّذا قريتي ومَـنْ سكنــوها
كـــم تجلّى وقُـــدّسَ الطّهرُ فيها وتسـامـــى بفضلِهم أهلــوها
فانبذوا كلّ عادةٍ تشمئزّ النفسُ منها وفــي الـورى شهروهـا

حكايات القرية

أما الشاعر اليمني “زين العابدين الضبيبي”، فيرسم لوحة نابضة بالجمال والأصالة لقريته البسيطة الجميلة، ويسترجع ذكريات طفولته الثرية في أحضان القرية، حيث كان جدُّه هو الحكّاءُ الأول في القرية، الذي يلتفُّ حوله أهل القرية ليستمتعوا بحكاياته المثيرة للخيال. ومن هذا الجدِّ الحكيم تعلَّمَ هو وصبية القرية وشبابها حكمة السنين، وتسلحوا بالأمل والابتسامة في وجه الصعاب:

كان جدِّي

نبيَّ الحكاياتِ في قريتي

كلما هيَّأَ الوقتُ متَّكأً وجلستُ إليهِ:

يحدُّثني عن خبايا الزمانِ وأسرارِهِ، وملاحمَ أسفارِهِ

في دروبِ الحياةِ التي ناصَبَتْهُ الشقاءْ

كان جدي يُرَبِّي غصونَ النقاءِ

ويزرعُ في وجهِ كلِّ الصغارِ ندى الضحكاتِ

ونخلَ الأمل..

كان يحكي

ويحتشدُ الناسُ من حولِهِ

والحصى والشجرْ..

يثمَلُونَ بسحرِ حكاياتِهِ

ويغيبونَ في دهشةِ الكلماتِ

ليتركَهُم بقلوبٍ معلقةٍ في سماءِ الخيال.

ويبقى الريف بالنسبة للشعراء، ملاذًا لنفوسهم الحيرى، ومنبعًا لرؤاهم المحلقة في دنيا البراءة والنقاء، والذكريات الجميلة، وعنوانًا للنعيم والشقاء معًا. 

(*) كاتب وأديب مصري.