التصوف وبناء التسامح

التجربة المغربية نموذجًا

تأثرت التجربة الصوفية في المغرب على مستوى الممارسة بطبيعة وخصوصية الوسط المغربي، وأيضًا على مستوى الحرية الفكرية ومدى الانفتاح على الآخر. لذلك، حفلت الممارسات الصوفية المتنوعة بنماذج من الصوفية ينتمون إلى مختلف الطرق المعروفة بصموا هذا المجال بسلوكيات معينة، تميل إلى السلوك الأخلاقي وتعبئة مختلف الشرائح الاجتماعية، عكس ما كان سائدًا في المشرق والأندلس في بعض مراحل التاريخ من ميل التصوف إلى الفلسفة والإشراق. لذلك، فإن التصوف في المغرب يطبعه التوجه السني المعتدل، بعيدًا عن الانزياح إلى الفلسفات الصوفية المختلفة.

ونظرًا لسيادة الفقه وتأثيره في تفاصيل الحياة اليومية، واعتبارًا للعلاقة الوطيدة والمنسجمة التي تطبع الثوابت الدينية المشتركة عقيدة ومذهبًا وسلوكًا، فإن مختلف التجارب الصوفية المغربية تبقى محصورة في السلوك الأخلاقي والتربية الروحية وتزكية النفوس وتطهيرها. من هنا، يمكن التأكيد على أن المبادئ السامية والقيم النبيلة التي يعمل التصوف على ترسيخها، من خلال تجارب الطرق الصوفية المنتشرة بالمغرب، تعبر في الغالب عن قيم الوسطية والاعتدال والمحبة والتسامح وإشاعة الأمن والسلام.

التصوف والقيم الإسلامية

يعزى هذا التسامح الذي يتميز به التصوف في  التجربة المغربية، إلى عدة عوامل ومبادئ سامية تنهل من حقيقة الإسلام، من أهمها:

1- الفطرة: لأن الدين يساير طبيعة الإنسان في النزوع إلى التدين السليم، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(الروم:30). إنه دين الوسطية والاعتدال، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(البقرة:143)، والوسط هو الخير والفضل.

2- اليسر: قال تعالى: (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(البقرة:185)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الدين يسر ولن يشادَّ الدينُ أحدٌ إلا غلبه، فيسِّروا وقارِبوا وأبشِروا”(رواه البخاري).

3- الأخلاق: إنه دين بحث على السلوك الحميد الذي ينبغي أن يكون قائمًا على الفضائل والمكارم وحسن الأخلاق، قال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(فصلت:34). إنه دين يدعو إلى التعارف، أي إلى التجمع والتساكن وتبادل المنافع والمصالح، وهو بذلك لا يرى فضلاً لأحد على الآخر إلا بالتقوى، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات:13).

4- المودة والأخوة: ألحَّ القرآن الكريم على هذه القيم في سياق دعوته الناس إلى التواصل والتسامح، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)(التوبة:71)؛ لعل هذه الخاصية هي التي جعلت المجتمع المغربي مجتمع التكافل الاجتماعي، إذ التكافل مظهر للأخوة الجالبة لمبدأ التسامح والتضامن.

تشير مجمل هذه الخصائص الإسلامية، إلى أن ارتباط التجربة الصوفية المغربية بها، أسهمت في ترسيخ قيم السلم والسلام في المجتمع المغربي؛ حيث بينت التجارب العامة أن رجال التصوف والسلوك، الذين تنطوي أنفسهم على السلم وحب السلام، يستطيعون أكثر من غيرهم الإسهام في نشر السلام وتعزيزه في محيطهم. والقرآن الكريم حين يبين أن الناس جميعًا ينتمون إلى الأسرة الإنسانية الكبيرة وينحدرون جميعًا من أصل واحد، فإن ذلك يعني أن الإنسان الذي يبحث عن السلام، لا يبحث عنه لنفسه فحسب بل للآخرين أيضًا.

لهذا، فالسلام من شأنه أن يوحد نفوس البشر، الذين لا يستطيعون أن يفعلوا ذلك وحدهم من دون هداية من الله الذي يريد الخير لكل الناس. إن حرص الإسلام في تعاليمه على غرس إرادة السلام في نفوس أتباعه وتربيتهم على ذلك، لا يعني إقامة السلام فيما بينهم فحسب بوصفهم أتباع دين واحد، لكنه يعني أيضًا إقامة السلام مع كل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وأديانهم وألوانهم.. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “وتَقرأ السلامَ على مَن عرفتَ ومَن لم تَعرف”(رواه البخاري). وقد جاء معنى السلم المجتمعي واضحًا أشد الوضوح في الحديث الشريف الذي رواه النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادِّهم وتعاطفهم، كمَثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى عضو تَداعى له سائر جسده بالسَهَر والحُمَّى”(رواه البخاري)؛ يدعو هذا الحديث الشريف إلى استعمال الرحمة للخلق كلهم، مما يبعث الأمن والسلام والاطمئنان في نفوس الناس. وهذا ما يحرص رجال التصوف على تمثله واستيعابه بقوة، والعمل على إفشائه ونشره.

وهكذا، فإن ثقافة التسامح والسلام، تعدُّ مبدأً راسخًا في البناء الصوفي الذي تبناه صوفية المغرب، بما تعبر عنه من فرص للتوسعة على الناس والرحمة بهم وأخذهم باللين واليسر؛ من أجل تعزيز التربية المتشبعة بمعاني المحبة، والمتطهرة من كل ميل إلى الكراهية والصراع، حيث تسعى الممارسة الصوفية بذلك، إلى الانتقال من تحقيق صلاح الفرد في نفسه وحماية فطرته، إلى ترسيخ السلم وإشاعة الأمن العام.

مظاهر التسامح في التجربة الصوفية المغربية

1- العدالة الاجتماعية: يعتبر العدل من أهم عناصر الوسطية في الإسلام، وجاء في الأثر “الوسط: العدل”. من ثم اقتبس الفكر الصوفي هذا المبدأ وجعله عنصرًا جوهريًّا في منهجه الوسطي. وسعى المتصوفة المغاربة إلى العدالة من خلال سلوكياتهم؛ حيث اعتبروها ضرورية لإقامة مبادئ التسامح والتوازن داخل المجتمع. فكانوا يناهضون الظلم والعدوان من أجل تحقيق مقاصد العدالة بطرق سلمية بعيدة عن كل أشكال الغلو والتطرف. ومن ذلك قيام زعماء وشيوخ التصوف بمبدأ الوساطة بين أطراف النزاع واسترداد الحقوق لأصحابها، وإصلاح ذات البين بين الأزواج والجيران من خلال نهج أسلوب الليونة والتسامح، وتحقيق السلم الاجتماعي.

2- حق الاختلاف: حق الاختلاف استنادًا إلى المبادئ القرآنية والتوجيهات النبوية، القاضية بضرورة التعارف والتفاهم والتعاون بين الناس، دون تمييز بين الأجناس والأعراق والمستويات الاجتماعية. ينهض التصوف بالمغرب بقيمة التسامح إيمانًا واقتناعًا بأهمية إنتاج فضاء مشترك، يقبل رأي الآخر على الرغم من الاختلاف معه. ذلك أن التصوف كما يقول الإمام الجنيد: “كالأرض يطؤها البر والفاجر، وكالسحاب الذي يظلل كل شيء وكالمطر يسقي كل شيء”(1). وقد قدمت التجربة الصوفية المغربية، نموذجًا مثاليًّا في اتجاه حب الخير للآخرين والتسامح معهم واحترام المخالفين. ولا شك أن الاقتناع بحق التعدد والتنوع والاختلاف في المواقف والآراء، يعتبر في حد ذاته مبدأ وسطيًّا يقع بين موقفين متطرفين.

3- الارتباط بقضايا المجتمع: مما يقيم الحجة على الوسطية  في التجربة الصوفية المغربية، ابتعادها عن سلوك نهج الرهبانية والانعزال عن الحياة. ذلك أن أغلب أتباع الطرق الصوفية بالمغرب، ارتبطوا بواقع مجتمعاتهم وتعلقوا بالسياق المعيشي والعمل اليومي كباقي الناس، مما يجعل من التجربة الصوفية المغربية تجربة حيوية متحركة، بعيدة عن المواقف التواكلية التي تبقى عالة على الغير بدعوى التفرغ للممارسة الروحية. وذلك يؤكد سمة الانفتاح في التصوف المغربي، من خلال الحرص على ممارسة التصوف الجماعي ونبذ النزعة الفردية الانعزالية، وهي أخلاق لا تتضح معانيها ومظاهرها، إلا بالتعامل مع الناس والصبر على أذاهم، مصداقًا للحديث النبوي الشريف: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”(رواه ابن ماجه). لذلك، يقومون بإحياء وتنظيم مهرجانات ومناسبات، تعكس حقيقة التصوف الجماعي المتفتح على كل شرائح المجتمع وفئاته. كما أنهم أكثر تدخلاً في الجانب الاجتماعي التضامني بالإيواء والإطعام، ما يجعل منها ممارسة صوفية جماعية تنبني على روح الجماعة الصالحة المندمجة في المجتمع(2).

4- الوسطية والاعتدال: تعتبر الوسطية منهجًا يلازم رجال التصوف المغاربة في أغلب الحالات والأوقات، ومردّ ذلك إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة، وبين الفقه والتصوف. وقديمًا قال الشيخ “زروق الفاسي” (ت 899م): “من تصوف ولم يتحقق فقد تزندق، ومن تحقق ولم يتصوف فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق”. كما اشتهر الإمام “الجنيد” بقوله: “علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يحفظ الكتاب ويكتب الحديث ولم يتفقه، لا يقتدى به”. لهذا، فلا شك أن اعتماد الوحدة المذهبية فكرًا وتشريعًا، قد ساعد رجال التصوف بالمغرب على الاعتدال، لتحقيق وحدة سلوكية مطبوعة بالطابع الاجتماعي المنفتح. كما أن الاستناد إلى المذهب المالكي، زاد من تعميق هذا الاعتدال، مما جعل رجاله ينأون بأنفسهم عن الغلو في الفكر والسلوكيات المتشددة. وظلت هذه المزاوجة بين التصوف والفقه، في ظل بيئة سُنِّية تحصن الفكر الصوفي ضد أي اختراق للتطرف والتشدد. وإن الذي يميز التصوف في المغرب، التشديد على الجانب السلوكي والنزوع إلى التصوف الأخلاقي. وبالتالي فالتجربة الصوفية المغربية، لم تضع لنفسها إطارًا مرجعيًّا خارج الكتاب والسنة، ومنهج الأئمة الأعلام من الصحابة والتابعين، والأئمة المجتهدين من علماء السلوك والتربية والمعاملات والأخلاق.

قيمة التسامح في الممارسة الصوفية

يرتبط التسامح بما هو مبدأ في البناء الحضاري للإسلام بما في ذلك الممارسة التدينية، من فرص للتوسعة على الناس، ورفع الحرج عنهم، وأخذهم باللين واليسر.. وهو أيضًا الانفتاح على ما عند الآخر والتساكن معه، وما في الإسلام من ترغيب في الخير وتنفير من الشر. إنه الحنيفية السمحة التي هي خلق جميع الأنبياء، مما يجعل قيمة التسامح تحتل موقعًا مركزيًّا في الفضاء الصوفي العملي.

واستنادًا إلى قيمة التسامح، يقر الفكر الصوفي مبدأ التكافؤ بين المسلمين، ويجعل معيار التفاضل بين الأتباع هو التقوى؛ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ). وبفضل هذا المبدأ تلغى كل أنواع العصبيات العنصرية، سواء كانت عصبية قومية أو قبلية أو لغوية. وهذه الرؤية الصوفية لمكانة الإنسان في الحياة، تختلف كل الاختلاف عن الرؤية العنصرية الضيقة التي تجعل العصبيات المتلاحمة تقف موقف المواجهة والمغالبة بحثًا عن مكاسب ومطامح مادية وأدبية.

إن نظر الصوفي إلى الوجود، لا تتحكم فيه آليات معرفية خاصة أو معطيات موضوعية، وإنما تتحكم فيه نزعة روحية تتأسس على الذوق والكشف الذي يستشرفه الإنسان بواسطة المجاهدة. وإن القول الصوفي بالتسامح ليس مجرد موقف شرعي أخلاقي تمليه آداب معاملة الخلق، بل هو قبل ذلك موقف ديني معرفي أصيل. فهو بما يعبر عنه من تساهل وإيثار وتجاوز وعفو واعتراف بالآخر، مأمور به في القرآن والسنة؛ لأن الثقافة الصوفية حمولة معرفية وتراثية، توثق وترسخ قيم التعايش والتسامح ومحبة الآخر(3).

ندرك قيمة التسامح عندما نتأمل واقع الحياة الإنسانية اليوم، خاصة في كثير من البلدان وما يكتنفها من صراعات وخلافات مصدرها الكراهية ونبذ الآخر، لا لشيء إلا لأنه يخالف أفكارنا ولا يخدم مصالحنا، فيغيب التواصل ويقل التعارف، وينتج عن ذلك اختلال الأمن وغياب الثقة بين الناس وفتور العلاقات الإنسانية. لكن كان من مقاصد التصوف المغربي، إرساء نوع من الأمان النفسي والاجتماعي في النفوس. وإذا كان التصوف في المغرب يؤسس قبل كل شيء للتواصل مع الله تعالى؛ عبر الصلاة التي هي صلة العبد بربه، وعبر صنوف أخرى من العبادات، فكيف يمكن أن يتعلم المرء هذا التواصل وينمِّيه إذا فقد التواصل مع الآخر بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالحوار والكلمة الطيبة والرحمة والإحسان؟

(*) كاتب وباحث مغربي.

الهوامش

(1) الرسالة القشيرية، القشيري (عبد الكريم)، تحقيق: عبد الحليم محمود ومحمود الشريف، دار المعارف، القاهرة، (ب ت)، ص:281.

(٢) بين التصوّف والحياة، الندوي (عبد الباري)، طبعة دمشق 1963م، ص:61.

(٣) مدارات صوفية، العلوي (هادي)، ط1، دار المدى، دمشق 1997م، ص:19.