استهوتني مشاهدة النبتة وقت بزوغها بين شقوق اليابسة؛ كان جدي يزرع فدانًا جيرة بيته، يحثّني على الحرث، فخصص لي حوضًا صغيرًا لممارسته، جعله يقارب ظل شجرة الأبنوس العتيقة التي تتوسط أرضه حفاظًا عليَّ من حر الشمس القائظ. ولما توفي جدي، اقتسم والدي مع أعمامي أرضَه، وصارت الشجرة ومحيطها من نصيب أبي.. فقرر بناء بيت له بجوارها، تكون بنيانه من طابق واحد غطت الشجرة بعض سقفه.. كنا نقطن بقرية “الرقبة” بمحافظة أسوان غرب نهر النيل، شارعنا كان يمتد إلى الظهير الصحراوي.. كان ولعي بظلال شجرة الأبنوس يزداد حينًا بعد حين، أوراقها أسطوانية الشكل وخضراء اللون، جلدية الملمس، جعلت منها عشقًا بداخلي.. جذوعها بنية اللون تتناغم مع بشرتي السمراء، ودائمًا كانت مطمعًا لحرفيّ النجارة لسهولة استخدام خشبها في الخراطة وأعمال الترصيع والتزيين.

أنهيت دراستي بكلية العلوم الكائنة بأسوان، وتم تعييني معيدًا بمعهد الدراسات والعلوم البيئية بجامعة عين شمس، وفيه حصلت على درجتي الماجستير ثم الدكتوراه في مجال الفلسفة في العلوم البيئية. بزغ اسمي بين المحاضرين المتشددين في الحفاظ على البيئة ومواردها.

في كل زيارة لأسوان كنت أعود محملاً بالهمّ فوق هموم القاهرة وزحامها، يُصرّ أعمامي أن أجلب لهم السلالات الزراعية الحديثة، دون أن يلقوا بالاً بتأثيرها الضار بَعيدِ المدى على خصوبة التربة.

ظللت أطوف بين الأبحاث العلمية المتعددة، أُنهكت في بحث شامل الصياغة المعلوماتية عن تزايد الأنشطة البشرية على الصعيد العالمي وإسهامها في تغيير المناخ. تقدمت بنتائج هذا البحث للاتحاد الدولي لصون الطبيعة والموارد الطبيعية، الكائن بالبلدية السويسرية “غلاند”، مكنني ذلك من الالتحاق بوظيفة مراقب لدى الأمم المتحدة من بين فريق عمل يساهم في تنفيذ العديد من الاتفاقيات الدولية، للحفاظ على الطبيعة والتنوع الأحيائي.

قصدت قريتي لأنهل فيضًا من حب أمي وأشهد دعاءً بالتوفيق من أبي، لكن هيهات أن يستجيب الحاضر لنداءات ماضيه.. فالملامح تتغير، والأصول تتفرع، والعادات تتبدل.. لقد أظهر أعمامي أطماعهم فيما تبقى من أرض أبي، لهذا صمم أبي أن يزوجني ضمانًا لاستمرار نسله.

تزوجت من إحدى فتيات القرية، مكثت معها شهرين ثم سافرت إلى مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة مع مطلع الألفية الثالثة، راجيًا من الله رعاية أبوين وزوجة وشجرة نادرة أهيم بظلها.

لم يكن الحال يختلف كثيرًا بين بيئة النشأة في أسوان غرب نهر النيل، وبيئة العمل الجديد غرب النهر الشرقي بمدينة نيويورك الأمريكية.. النفس البشرية تغتالها الحاجة الاقتصادية في كل مكان، فبينما كان أولاد العم ينتهكون الأرض بتجريفها وإعادة زرعها دون هوادة بالمحاصيل المتوالية، كان هناك من رجال الأعمال من يطيح بآلياته الاقتصادية موارد الحياة الطبيعية، منهم من يحوّل المواد الخام إلى سلع لاستهلاكها، ومنهم من يعيد صياغتها تاركًا خلفه نفايات ملوثة.

تركزت أهدافي حول كيفية حماية سطح الأرض من الإشعاعات، ووضع آليات للمحافظة على عدم تأثر المحيطات المائية بالاحتباس الحراري.. سأجتهد قدر طاقتي في التوجيه والمراقبة على عدم الإفراط في صيد الأسماك، وعدم استخدام المحيطات كمكب نفايات للمخلفات البشرية.

كنت أتواصل بين الحين والآخر هاتفيًّا مع آل بيتي ومنهم علمت بأن الله قد وهبني ولدًا، ظلت ضغوط العمل تلزمني باستكمال غربتي لعامين آخرين دون أن أحتضن ابني الذي لا أدرك ملامحه إلا عبر صور فوتوغرافية رأيتها عبر الشبكة العنكبوتية.

أبحاث تلتها أبحاث وليس هنالك من جديد، لا توجد قدرة حقيقية على تلبية احتياجات الحاضر دون المساس باحتياجات المستقبل.. وبرغم تحقيق بعض النجاحات كتقنين ضريبة الكربون المفروضة على إنتاجه واستهلاكه، ودعم التوجه نحو الطاقات المتجددة كالطاقة الشمسية، وكحماية البيئة بإعادة التدوير وتقليل استهلاك الطاقة، إلا أنني لم أكن راضيًا عما تحقق على أرض الواقع من نتائج، لا رصانة لدى معظم الشعوب في تناول حل للتضخم السكاني، لا جديد في ملف الحفاظ على الماء العذب من التلوث أو من خلال ترشيد الاستهلاك، حتى المياه الجوفية صارت في خطر استنفادها.

ظلت أيام الطفولة البريئة تطاردني؛ أتذكر ظل شجرة الأبنوس الفريدة، كانت تزيد عن العشرة أمتار في ارتفاعها، أزهارها صغيرة، ثمارها مستديرة تتوزع على الأفرع الصغيرة في شكل كتل يعطي للشجرة رونقها المتهدل.. يتبادل شعاع الشمس مع ظلال الأوراق في عيني كتبادل قطع اللؤلؤ في لمعانها.. أذكر تسلُّقي عليها بين الحين والآخر، أرى البيوت من أعلاها كأنني أقف فوق ناطحة سحاب بالولاية الأمريكية، تتمايل الفروع بي مع الريح كأنما أعتلي ألعاب الملاهي الجوية بهوليود.. أخاف أن تدركها انتهاكات أبناء العمومة، أشتاق إلى ملمحها العتيق المتجدد، عمرها يتخطى القرنين من الزمان، وتلزم صورتها البتول عمق الذكرى.. يجب الحفاظ على تلك الشجرة ومثيلاتها في مختلف الغابات، تلك المناطق التي تعدّل المناخ من خلال انعكاس الضوء والتبخر وتوفر المستحضرات الدوائية للعالم، يجب رعايتها وردع القائمين على اجتثاث أشجارها.

أخيرًا استطعت الحصول على إجازة للسفر إلى مصر الحبيبة، ما أجمل براءة هذا الأسمر الصغير الذي يشبهني وهو يحتمي بشجرتي الغالية.. جلست في رحاب أسرتي أستزيد من ملامحها، وإذ بأولاد العمومة يطرقون الباب، أتوا مستبشرين لذلك النابغ من بينهم، يسترقون معاني التغريب المفرِّطة، يتحدثون عن بيع الشجرة لأحد كبار تجار الأخشاب بالعاصمة المصرية.. يعرض الرجل مبلغًا ضخمًا يقارب المليونين من الدولارات.. رفضت قطعًا تدخلهم في غير ما يملكونه، تحدثوا عن كونها إرثًا للجميع، فالأرض التي تم تخصيصها لوالدي كانت وفق تشريع اجتماع عُرفي لم يتم توثيقه بالهيئات الحكومية. أدركت حينها أن شرف الكلمة قد تولى عهده، لجأت للقضاء ثم أوكلت محاميًا للدفاع عن ممتلكات أبي.

سافرت إلى مقر عملي بالولاية الأمريكية، أنتظر بين الحين والآخر البشارة بحكم قضائي لوالدي بحق الملكية بوضع اليد، لكن أبناء العمومة قد سارعوا بتنازلهم عن حصصهم للدولة المصرية، لإقامة شارع في منتصف أرض الجد تتوسطه الشجرة، وبذلك آلت ملكيته إلى الحكومة المصرية، وصدر حكم قضائي بإقرار الشارع المزعوم للمصلحة العامة.

أزيلت الشجرة وتم بيع أخشابها قهرًا في غيابي، تقاضى الجميع ثمن الأخشاب وألقي لأبي ربع مليون من الدولارات في حساب بنكي منقوص.

عدت إلى بلدتي منكسر الخاطر، عرض أولاد العمومة بيع أنصبتهم في فدان جدي بعد أن تم شطره بشارع مفروض، أرادوا أن يستبدلوا العيش في قريتنا ببناء أبراج شاهقة في أسوان سبيلاً إلى اللحاق بركب العالم المتقدم.. وما كان مني إلا أن اشتريتها منهم دون أن أجد ميزة للأرض في غياب ظل شجرتي الرؤوف.. وعندما وجد جيراننا أنني لا أمانع في شراء تلك الأراضي شبه الصحراوية، عرضوا للبيع فدانًا ملاصقًا فاشتريته.

عدت للعمل في مقر الاتحاد الدولي لصون الطبيعة والموارد الطبيعية بسويسرا، لأوفد من جديد إلى جمعية حماية الحياة البرية في بلاد الهند، كانت تختص بمنع الصيد الجائر للنمور البرية المهددة بالانقراض.

في وقفة على ساحل المحيط الهندي ناداني الأفق من بعيد، يذكرني أن هنالك آفاقًا أخرى أبعد، يعلمني عظمة الخالق باتساع ملكه وتمام رزقه لمخلوقاته.. أزداد إيمانًا بأن الكون كله للإنسان لكنه يتعجل الرزق.

وفي أثناء زيارتي الميدانية للغابات المنتشرة على الحدود الهندية الصينية، رأيت الطبيعة بكل ما تحتويه؛ نباتات خضراء متباينة الأحجام، حيوانات وزواحف وحشرات وطيور.. ظللت أبحث عن ضالتي حتى وجدت أشجار الأبنوس.. التقيت بعدد من العمال المهرة في زراعتها.. ظللت أركن كثيرًا إلى التمتع بظلالها، حتى لاحظ أحدهم ولعي بها، فأهداني أصيصًا يحوي شجرة نامية.. على الفور سعيتُ في طلب إجازة للسفر إلى مصر، بعد أن تقدمت بطلب إلى الحكومة المصرية بالموافقة على استجلابها وزراعتها خلال أيام الربيع.. خصصتُ لها حديقة جيدة التصريف، واستزدتُ تربتها بكثير من المواد العضوية وبعض نشارة الخشب التي جلبتها معي.. لازمتُ سقياها بالماء العذب كل ثلاثة أيام وقت الغروب.. وبعد مرور شهر كامل بدأت زهور أغصانها الجديدة تأخذ في نموها التدريجي، عندها عدت للعمل في بلاد الهند تاركًا أبي وولدي لاستكمال رعايتها.

عدت لاستئناف مهامي في رعاية الطبيعة، لأدفع عنها بغي الإنسان، لأحسن رفاهيته بحماية رأس ماله، لأبقي للأجيال القادمة الماء والهواء والغذاء والدواء.. عاودت لكي أمنح الكائنات الأخرى الحق في التعايش مع الإنسان، لأحمي مخزونات الصيد، ولأوسع المجال بين الأجيال لصنع القرار..  رجعتُ لأحظر جموح انتشار الأمراض بين الناس في ظل غياب المفترسات الطبيعية، ولتحقيق نمو اقتصادي مستدام.

(*) طبيب وروائي مصري.