أم القرى وسطية المكان وخصوصية العمران

مكة المكرمة أقدس مدينة عند المسلمين، وقد وصفت في موضعين في القرآن الكريم بأنها “أم القرى”، حيث يقول المولى عز وجل: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(الأنعام:92).

كما أن الله عز وجل قد وضع أول بيت للناس -وهو الكعبة المشرفة- في بكة (مكة) تكريمًا وتشريفًا لها، حيث يقول عز وجل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)(آل عمران:96)، وبناء على ذلك اختارها الله لتكون قبلة المسلمين في الصلاة، ومكان اجتماعهم لأداء مناسك الحج والعمرة.

وسطية مكة عند العلماء القدامى

ذهب عدد من علماء اللغة إلى أن سبب تسمية مكة بهذا الاسم هو أنها وسط الأرض، يقول الزبيدي في كتابه “تاج العروس”: “وقال المصنِّف في البصائر، والأصبهاني في المفردات: وقيل إن مكة مأخوذة من المُكاكة، وهي اللب والمخ الذي في وسط العظَْم، سمِّيتْ بها لأنها وسط الدنيا ولبها وخالصُها.

وفي ثنايا حديث علماء التفسير قديمًا عن فضل مكة على سائر البلدان، جاءت الإشارة إلى أن مكة المكرمة تقع في وسط العالم، يقول الإمام القرطبي: “قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)(البقرة:143)، المعنى: وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطًا، أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها”.

ومن ذلك أيضًا ما قاله أبو حيان الأندلسي في تفسيره: (وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(الأنعام:92)، أم القرى مكة وسميت بذلك لأنها منشأ الدين، ودحو الأرض منها، ولأنها وسط الأرض، ولكونها قبلة وموضع الحج ومكان أول بيت وضع للناس”.

وسطية مكة في الدراسات الحديثة

توجد دراسات علمية هامة أجريت حول توسط مكة لليابسة؛ الدراسة الأولى أجريت في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، حيث لاحظ الأستاذ الدكتور “حسين كمال الدين” رحمه الله -الذي شغل درجة الأستاذية لمادة المساحة في عدد من الجامعات والمعاهد العليا في مصر والرياض- تَمرْكُز مكة المكرمة في قلب دائرة تمر بأطراف جميع القارات، أي لاحظ أن اليابسة على سطح الكرة الأرضية، موزعة حول مكة المكرمة توزيعًا منتظمًا، وأن هذه المدينة المقدسة تعتبر مركزًا لليابسة.

وبالرغم من هذه الملاحظة العلمية الهامة، فإن الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين لم يقدم الدليل العلمي عن طريق القياسات العلمية الدقيقة، التي تثبت هذه الملاحظة بشكل قطعى في ذلك الوقت، ولكن يرجع فضل إبراز هذا الاكتشاف الرائع في العصر الحديث، لهذا العالم المسلم رحمه الله.

والدراسة الثانية قام بها الأستاذ الدكتور “مسلم شلتوت” في التسعينيات من القرن العشرين، وقد كان يعمل أستاذًا لبحوث الشمس والفضاء بمعهد البحوث الفلكية والجيوفيزيائية بمصر. اقتصرت دراسته على استخدام برنامج أُعِدّ خصيصًا لذلك باستخدام الحاسب الآلي، لحساب المسافة بين مكة المكرمة ونقاط قياس محددة على أطراف اليابسة بالنسبة للعالمين القديم والجديد.

وأما الدراسة العلمية الثالثة فهي لكاتب المقال، وقد اعتمدت على قياسات دقيقة باستخدام برنامج “جوجل إيرث للمحترفين” (Google Earth pro)، الذي يستخدم صور الأقمار الصناعية الحقيقية للكرة الأرضية، كما أن به إمكانية عمل قياسات دقيقة للمسافات القوسية والاتجاهات بين أي نقطتين على سطح الكرة الأرضية.

أوضحت نتائج القياسات توسط مكة المكرمة للحدود المختلفة ليابس القارات السبع المعروفة.. وعند إجراء كل القياسات السابقة على بعض المواقع والمدن الأخرى الهامة، فقد أوضحت الدراسات المقارنة بينها وبين موقع مكة، أن أيًّا من هذه المواقع، لم يحقق ما حققه موقع مكة المتميز من قياسات سابقة.

خصوصيات عمران أرض الله الحرام

عندما نذكر “أرض الله الحرام” فإننا نعني بذلك مساحات محددة من مكة المكرمة (وينطبق ذلك أيضًا على المدينة المنورة)، وذلك طبقًا لما ورد ذكره في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.

لقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة: “إن هذا البلدَ حرَّمَه الله يومَ خلَق السماوات والأرض، فهو حرامٌ بحُرْمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يَحِلَّ القتالُ فيه لأحد قبلي، ولم يَحِلَّ لي إلا ساعةً من نهار، فهو حرامٌ بحُرْمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَدُ شَوْكُه، ولا يُنفَّر صَيْدُه، ولا يَلتقِط إلا مَن عرَّفها، ولا يُخْتَلى خَلاَها”. فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذْخِرَ فإنه لِقَيْنِهِم ولِبُيُوتِهم، فقال: “إلا الإذْخِرَ”(رواه البخاري).

فالحديث الشريف ينهى بوضوح عن قطع أشجار الحرم ونباته وإن كان شوكًا، كما ينهى عن تنفير صيد الحرم، فما بالنا بصيده، وهو ما يشير إلى أهمية المحافظة على البيئة الطبيعية لمكة المكرمة بكل عناصرها النباتية والحيوانية.. ويستثني الحديث النبوي من ذلك، نبات الإذْخِر حيث كان يستعمل في تغطية أسقف البيوت.

وجدير بالذكر هنا أن نوضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حرّم المدينة المنورة، وقرر حدود الأرض الحرام بها؛ فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “المدينة حَرَمٌ من كذا إلى كذا، لا يُقطَع شجرُها، ولا يُحدَث فيها حدَثٌ، مَن أحدَثَ حدَثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”(رواه البخاري)، والحَدَث: الأمر الحادث المنكر الذي ليس بمعتادٍ، ولا معروف في السنة.

كما أن علماء المسلمين أوجبوا إيقاع عقوبة على من يقطع شجر الحرم، قال الواقدي: لما أرادت قريش البنيان، قالوا لقصي: كيف نصنع بشجر الحرم؟ فنهاهم وحذرهم في قطعها، وخوفهم من العقوبة في ذلك، فكان أحدهم يحوق بالبنيان حول الشجرة حتى تحصل في منزله، قال: وأول من رخص في قطع شجر الحرم في البنيان، عبد الله بن الزبير حين ابتنى دورًا بقعيقعان (جبل بمكة)، لكنه جعل دية كل شجرة بقرة. وكان يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قطع دوحة كانت في دار أسد بن عبد العزى، وكانت تنال أطرافها ثياب الطائفين بالكعبة، وذلك قبل أن يوسع المسجد، فقطعها رضي الله عنه ووادها (دفع ديتها) ببقرة”.

وقال الإمام النووي: اتفق العلماء على تحريم قطع أشجار مكة التي لا يستنبتها الآدميون في العادة، وعلى تحريم قطع خلاها وهو الرطب من الكلأ، واختلفوا في ضمان الشجر إذا قطع؛ فقال مالك: يأثم ولا فدية، وقال الشافعي، وأبو حنيفة: عليه الفدية. وأوجب أبو حنيفة القيمة، والشافعي في الكبيرة بقرة، والصغيرة شاة، وكذا جاء عن ابن عباس. وبذلك يتضح لنا سبق المنهج الإسلامي في حماية البيئة الطبيعية للحرمين الشريفين بصفة خاصة، وأهمية تطبيق ذلك بالنسبة لباقي المدن بصفة عامة.. وذلك فإن المنهج الإسلامي قد سبق ما يعرف اليوم بنظام “المحميات الطبيعية”، بتحريم الصيد أو قطع الأشجار أو تنفير الحيوان.

الخلاصة

إن توسط مكة المكرمة لحدود اليابسة المختلفة، يعتبر من تجليات اسم الله “العدل”، حيث اختار مكان الكعبة المشرفة بمكة المكرمة في موضع يتوسط يابسة الأرض، لأن هذا البيت وُضع لكل الناس قبلة للصلاة ومكانًا للحج والعمرة، فهو بمثابة “قبلة الدنيا”.

هذا بالنسبة لوسطية المكان، كما أن الله سبحانه وتعالى جعل لأمِّ القرى خصوصية في أعمال البناء والتعمير والعمران، حيث الحفاظ على البيئة الطبيعية للحرم المكي، بتحريم قطع الشجر والشوك والخلا، ويستثنى من ذلك نبات الإذْخِر.

إن استخدام مصطلح “الأرض الحرام”، هو مصطلح شرعي تتعلق به أحكام وواجبات شرعية، ولكن في نفس الوقت يسهم -بطريقة مباشرة- في الحفاظ على البيئة الطبيعية للحرمين الشريفين، وكذلك الارتقاء بالتربية البيئية للمسلمين زوار بيت الله الحرام، وتهذيبًا لسلوكياتهم في التعامل مع البيئة النباتية والحيوانية لأرض الله الحرام، مما ينعكس على سلوكهم بصفة عامة في باقي بقاع الأرض المختلفة.

(*)  أستاذ ورئيس قسم العمارة بمعهد الطيران / مصر.