الحياة على الأرض مرهونة بالحركة اليومية والهجرات الجماعية، فالخمود والسكون صنو الموت. والهجرات رحلات “ملحمية عجيبة” حُبلى بالمصاعب والتحديات التي قد تُفقدُ الحياة، لكنها رحلة لديمومتها. هجرات لها موازين دقيقة، وحسابات عميقة، وتوازنات عادلة، ونهايات حاسمة، لحفظ صحة كوكبنا.
إن ندرة الغذاء والماء، وتغيرات المناخ، ومدة سطوع الشمس، والتعافي من بعض الأمراض، والحاجة للتزاوج والتناسل، والرغبة في موطن يؤمن حياة الكائنات وصغارها.. عوامل تدفع أعدادًا لا تحصى من الحيوانات نحو الهجرة. تتخذ قراراتها، وتستجمع وفرة طاقتها، وتنسق فيما بينها، وتحدد أرتال قطعانها، وتنظم صفوفها، وتضبط ديناميكية أسرابها، وتدق “ساعتها البيولوجية”.. وتعتبر مسافات الهجرات البرية أقصر نسبيًّا من الهجرات الجوية أو البحرية. نشاهد هجرة الملايين من الحيوانات الإفريقية مثل “النو” في نفس الوقت سنويًّا، بحثًا عن مراعي خضراء. وتعبر القطعان أنهارًا تسكنها التماسيح الجائعة، بينما تحوم الأسود الضارية بين أعشاب السافانا الاستوائية. ينقص عدد الحيوانات بنحو ربع مليون، لتجد التماسيح وجباتها الشهية، وتتخم الأسود بفرائسها، فضلاً عمن ينفق ضعفًا أو مرضًا أو غرقًا. ولكن الكثرة الكاثرة من “النو” تتفوق على فكوك التماسيح وأنياب الضواري، فتواصل هجرتها. ويهاجر الجاموس الإفريقي من “كينيا” إلى “تنزانيا” للعثور على الغذاء والماء والأمن من المفترسين. كما تهاجر قطعان الغزلان والظباء ذات القرون المتشعبة، والحمر الوحشية مجتمعة بين الدول الإفريقية، تترصدهما أيضًا سباع الحيوان من أسود وفهود وذئاب وضباع.
ويهاجر كثير من البشر الرُحَّل مع هجرة حيواناتهم التي يعتمدون عليها في الغذاء، كما يحدث مع قبائل “البوشمان” في صحراء “كالاهاري” (سافانا رملية تمتد على مسافة 900,000 كم مربع في معظم أراضي بوتسوانا وأجزاء من ناميبيا وبعض مناطق جنوب إفريقيا)، يهاجرون سويًّا من المناطق القاحلة الجافة إلى حيث مصادر المياه والكلأ. ومع جفاف المناخ ترتحل الفيلة الإفريقية والآسيوية نحو الأنهار في مجموعات نحو 500 فيلاً لمسافات 20 – 50 كم لمدة يومين أو ثلاثة أيام، وهي تضع في اعتبارها تأمين قوت هجرتها وتبدأ هجرتها ليلاً. ونظرًا لكبر حجمها وبطء حركتها، فقد يتأخر وصولها إلى غاياتها المقصودة، ثم تعود إلى أماكنها مرة أخرى عند تحسن الطقس وهطول الأمطار، مما يؤدي إلى نمو النباتات. وتقود إناث الفيلة القطيع -في المقدمة والمؤخرة- لتحمي الصغار من أي مخاطر محتملة. وفي طريقها تقتات الفيلة ضمن ما تقتات على ثمار النخيل المرحي (دائم الخضرة والمرونة، ومقاوم للجفاف والملوحة والمرض). وبعد هضمها تخرج البذور ضمن الفضلات فتساهم في بذْر وانتشار هذا النوع من النخيل. كما تساهم الفيلة في ضخ مزيد من الأعشاب والأغصان إلى المستنقعات المائية والأنهار، فتعشش فيها الأسماك وتثري البيئة المائية.