الرجاء، سياحة دائمة في أُفق “السير إلى الله” هربًا من الشرور واحتماءً بالخيرات بجناحَي الاستغفار والدعاء.. وتشبثٌ مستمر بمطرقة باب الحق تعالى بلسان الإنابة والتضرع في إقليم “السير مع الله”. فإذا وُفِّق السالك إلى إقامة مثل هذا التوازن، فلا إياس ولا انقطاع في الخوف، كما لا رخاوة ولا شطحات في الرجاء.
نعم، إن انتظار العناية من الله تعالى، هروبًا من الآثام والسعي المتواصل في طريق الحسنات والخيرات كالمتسابق فيها، ثم التوجه إلى ذلك الباب السامي وترقّب عظيم رحمته تعالى، لهو رجاء صادق، وهو أُفق أمل الصادقين. وبخلافه فإن توقع الثواب والمغفرة من دون عمل، أو التخبط طوال العمر في وديان الضلالة ثم التحدث عن “بحبوحة الجنة” -كمن يجبر الله سبحانه (حاش لله) على أمور وفق الآمال- لهو رجاء كاذب واستخفاف برحمة الرحمن الرحيم.
هذا والرجاء ليس تمنِّيًا، إذ التمني هو تصور غير مقطوع فيه، بل توقع خائب لا أمل فيه. بينما الرجاء هو بذل الجهد لدى جميع أبواب الالتجاء بالانتفاع من جميع الوسائل التي يمكن أن توصل إلى المطلوب، ببصيرة وشعور منوّر بنور النبوة لاستمطار الرحمة الإلهية.
والرجاء بتعبير آخر، هو ترقّبٌ لقسم من توجهات سبحانية أحدية الطابع، إيمانًا بشمولية الرحمة والمغفرة وإحاطتهما بكل شيء كما هي في الصفات الجليلة “العلم” و”القدرة” و”الإرادة”. وأعتقد أن القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف:156) وكذا الحديث القدسي: “إن رحمتي سبقتْ غضبي” (رواه البخاري)، يذكّراننا بهذه الحقيقة. إذ خلافها ذنب لا يغتفر؛ مما يعني من عدم الاهتمام بهذه الرحمة الواسعة التي تنتظرها حتى الشياطين، وفقدان الشعور بالرجاء، يعني إنكار تلك الرحمة ضمنًا، والوقوع في اليأس.
إن الذين نالوا مثل هذه الحظوة بملاطفة الرب الكريم الخاصة، قد غنموا كنـزًا لا ينفد أبدًا. والرجاء يصبح برقًا ويغدو براقًا للإنسان؛ فيضيء طُرُقَه وينوّر سُبُلَه، ويوصله إلى ما لا يوصل إليه قطعًا بجهد البشر وطاقته، وخاصة في أثناء معاناة وجدانه انكسارًا وقلقًا لفقده لما يملك، أو نـزول نازلة به، أو لا يوفق إلى خير، أو عجزه عن النجاة من شر، أي في أثناء سقوط جميع الأسباب وانعطاف جميع الطرق إلى “مسبِّب الأسباب”.
استنشاق الخوف
إن استنشاق “الخوف” من الله باستمرار -فيما يجنّب الإنسان الذنوبَ والمعاصي ويوجّهه إليه تعالى ويقرّبه منه- مع الاستمساك بـ “الرجاء” لدى الوقوع في حفر اليأس وظهور أمارات الموت، يعدّ مقياسًا لحالة التوازن بين الخوف والرجاء.. وكذا فإن تهييج عناصر الخوف تجاه الشعور بالأمان الحاصل في الروح، والاحتماء بمراتع أخبية الرجاء لدى هبوب عواصف اليأس الحزينة، وجهٌ آخر للتوازن بين الخوف والرجاء. وعلى هذا يمكن أحيانًا أن يتصاعد دخان الخوف بجنب أكمل الأعمال، كما يمكن أن يبزغ الرجاءُ يمين عمل يسير ويساره.
والرجاء لدى الكثيرين بُعدٌ آخر لحُسن الظن بالله. والحديث القدسي: “أنا عند ظنِّ عبدي بي” (رواه البخاري) يعبّر عن هذه الملاطفة الخاصة. ولهذا يصح أن نقول: لما كان الرجاء وسيلة لتجلي الرحمة الإلهية الواسعة، فلا ينبغي على الإنسان في جميع أحواله -خيرًا أو شرًا- أن يدع هذه الوسيلة.
نعم، إن عمل الإنسان وإخلاصه وتجرده وإيثاره، يُعدّ أبعادًا مهمة من الحسنات، إلاّ أنها من حيث علاقتها بالإنسان تظل غير ذات أهمية تذكر بجنب عظيم عفوه سبحانه، ذلك لأن الأول يعدّ عمل الإنسان وأطواره من زاوية دائرة الأسباب الظاهرية، بينما الثاني تقابله مباشرة الرحمة السابغة لشأن الله الجليل الخاص وملاطفته الكريمة. ومن هنا فإن الخوف والرجاء أعظم هديتين لله سبحانه تعالى إلى قلب الإنسان، ولا أجلّ منهما إلا رعاية الموازنة بين هذين الشعورين، وكيفية استعمالهما كجناحين نورانيين للوصول إلى الله سبحانه.
(*) التلال الزمردية نحو حياة القلب والروح، دار النيل للطباعة والنشر. ترجمة: أورخان محمد علي، القاهرة ٢٠٠٦. العنوان من تصرف المحرر.