في بداية عصر النهضة العلمية العربية الإسلامية (القرن الثامن الميلادي / الثالث الهجري) علم العرب أن العلم مثل الماء، له إناء يقدم فيه وهو الخط، وللخط “صينية” يوضع عليها الخط عند تقديمه وهو الورق، وللعلم والخط والورق كاتب يطلب منه الإجادة، لأن العلم إذا قدم بخط قبيح وكتابة مغلقة، فإن المتعلم يعاني الأمرَّين حتى يفتح مقفلها ويبين مبهمها، وقد يملها فيتركها مهدِرًا الفائدة، لذا كان الخط الوسيلة الأولى لنقل العلم.
وفي هذا العصر كانت الوِرَاقة مزدهرة ازدهار المطابع اليوم، وكان للوراقين والخطاطين سوق رائجة، فلديهم بيع الكتب ونسخها، وفي دكاكينهم يجتمع العلماء والأدباء.. وكان الوراق يبدأ عمله ناسخًا، ثم يستعين بمبتدئ ثم بآخر، ثم يفتح دكانًا ويتفق مع عدة خطاطين ونساخ، فينسخ لحسابه بعض الكتب ويعرضها، وينسخ بعض الكتب بطلب من العلماء والمتعلمين.
وكلنا يعلم حجم التراث العربي والإسلامي العظيم الذي لم يكن لولا وجود الورق والوراقين والنساخ.
ويعتقد أن أقدم الكتب المؤرخة الموجودة والمنسوخة باللغة العربية على الورق، هي جزء من أعمال أبي عبيد القاسم بن سلام عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الكتاب محفوظ في مكتبة جامعة ليون، ويعود تاريخه إلى نوفمبر أو ديسمبر عام 866م. وهو من الورق البني الداكن، والورق غير شفاف وصلب وقوي ومتوسط السُمك. ومن الواضح أنه تم تلميعه من الجانبين، ويبدو أنه كانت هناك بعض المعارضة لاستخدام تلك المادة الجديدة (أي الورق) لتدوين القرآن الذي كان يدون -في العادة في ذلك الوقت- على الورق المصنوع من جلد الماعز بعد ترطيبه وتنظيفه، وفُضّل الجلد لقوته وطول عمره، إلا أن الجلد كان مكلِّفًا ويحتاج إلى جهد وعمالة لتجهيزه، فضلاً عن وجوب ذبح الماعز للحصول عليه. ومن ثم انتصر الورق في النهاية كمادة للكتابة الأكثر سلاسة، كما تغير بالإضافة إلى ذلك، الشكل النمطي للكتاب من الوضع الرأسي إلى الوضع الأفقي.
وأقدم النُسَخ الورقية الموجودة للقرآن، كُتبت بيد الخطاط علي بن سدان الرازي في عام 971-972م، وما تبقى من هذه المخطوطة المكونة من أربعة أجزاء مكتوبة بشكل رأسي مقسم بين مكتبة أردبيل في إيران، ومكتبة جامعة إسطنبول، ومكتبة تستربيتي في دبلن. وهناك مخطوطة ورقية أخرى من القرآن تم نسخها في أصفهان في عام 993م، وهي تحتفظ بالشكل الأفقي للمخطوطات الجلدية، وربما تكون المخطوطة الورقية الأولى للقرآن الكريم، التي يرجع تاريخها إلى عام 1000-1001م هي أكثر المخطوطات شهرة، وقد نسخها علي بن هلال المعروف باسم ابن النواب. والمخطوطة عبارة عن جزء صغير يحتوي على 286 صفحة، كل صفحة بها 15 خطًّا من الخط اليدوي المعروف باسم النقشي، وهو الخط الذي جعل ابن النواب بهذه الشهرة.
والثابت أن إدخال وانتشار صناعة الورق في الدولة العربية الإسلامية منذ العصر العباسي الأول -القرن الثالث الهجري- أحدث طفرة ثقافية وحضارية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الإنسانية؛ فقد يسر الورق على العلماء تأليف الكتب ونسخها، وازدهرت تجارة الكتب وأعمال الوراقة، وأصبح الكتاب يلعب دورًا هامًّا في حياة الإنسان العربي المسلم، الذي حضه الإسلام على العلم والتعلم، وجعله فريضة على كل مسلم. وهذا ما عبر الجاحظ عنه في رسالة إلى المعلمين بقوله: “ولولا الكتاب لاختلَّت أخبار الماضي وانقطعت آثار الغائبين، ولقد رأينا عمود صلاح الدين وصلاح الدنيا إنما يعتدل في نصابه، ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب”.
ويدلنا اليعقوبي (891م) أنه كان في زمانه أكثر من مائة بائع للكتب في بغداد، وأن محلاتهم كانت مراكز للنسخ وللخطاطين والمنتديات الأدبية، وكان كثير من طلاب العلم يكسبون عيشهم عن طريق نسخ المخطوطات وبيعها للوراقين، وألحق بأغلب الجوامع مكتبات عامة، وكان يوجد في بعض المدن مكتبات تضم كتبًا قيمة يباح الاطلاع عليها للجميع.
أما أجور النساخين والمدونين فقد كانت تختلف باختلاف حسن خطوطهم ودقة تدوينهم، وأمانتهم في التدوين والضبط والمطابقة.. وفي بعض الأحيان كان المؤلفون يجعلون النساخين والمدونين يبيتون عندهم طول الليل حتى يفرغوا من إنجاز المؤلف وعدد من النسخ منه. فقد روي عن عالم يدعى يعقوب بن شيبة السدوس أنه صنف مستندًا، وكان في بيته أربعون لحافًا لمن يبيتون عنده من الوراقين لتبييض المستند ونقله، وقد كلفه ذلك عشرة آلاف دينار حتى خرج المستند كاملاً.
ونتيجة لصناعة الورق ظهرت مهنة الوراقة والنسخ، ومن ثم راجت الكتب وظهرت المكتبات؛ حيث بدأ الخلفاء والسلاطين يقيمون المكتبات لهم في قصورهم، كما أقاموا المكتبات العامة للناس، وكانوا يتباهون بما يجمعون فيها من كتب مخطوطة ومنسوخة، وينفقون عليها ببذخ شديد لتنميتها وتضمينها المخطوطات التي لا توجد في أي قطر سواها، حتى يأتي الناس من كل صوب ومكان للقراءة والاطلاع والنسخ.. فانتشرت خزائن الكتب في أقطار العالم الإسلامي، من سمرقند وفارس إلى بخارى وقرطبة، ومن بغداد ودمشق إلى حلب والقاهرة، وأصبح التفوق الثقافي مجالاً للتنافس بين الدول والإمارات الإسلامية -بين العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس، وبين الحمدانيين في حلب والفاطميين في مصر- مما جعل إمارة الحمدانيين في حلب والموصل إلى أن تكون جنة الأدباء والشعراء والفلاسفة.
ومن المعروف أن الحضارة العربية والإسلامية قد أقامت نهضتها على أكتاف المكتبات، وأن هذه المكتبات قد أقامت نهضتها على أكتاف النساخين والوراقين الذين اضطلعوا بنسخ الآلاف المؤلفة من المخطوطات والمدونات التي شملت كافة مجالات العلوم والمعرفة الإنسانية. فقد لعب النساخون والوراقون دورًا كبيرًا في نشر الثقافة، فكانوا يلعبون دور آلات النسخ والطباعة التي نستخدمها في عصرنا الحالي، بل كانوا مدرسة تخرَّج منها العلماء. فكثير من المؤلفين بدؤوا حياتهم كنُسَّاخ وكتبة ووراقين في قصور الخلفاء، أو حوانيتهم التي أصبحت تشغل أحياء كاملة في كل مدينة عربية. يذكر اليعقوبي أنه كان في بغداد في القرن التاسع الميلادي -أي بعد أقل من قرن من الزمان منذ أن أدخل العرب صناعة الورق- ما يزيد على المائة وراق استخدمت حوانيتهم في نسخ الكتب وبيعها والاتجار فيها.
الملتقى الثقافي للأدباء والعلماء
كانت دكاكين الوراقين صرحًا للثقافة والحوار العلمي في الحضارة العربية الإسلامية. فُتحت هذه الدكاكين في الأصل لأعمال تجارية بحتة، ثم قصدها المثقفون والأدباء، واتخذوا منها مكانًا لاجتماعهم وأبحاثهم، وأصبحت حوانيت بيع الكتب مكانًا للاجتماعات الثقافية بصفة شبه يومية. أصبحت دكاكين الوراقين (سوق الوراقين) مكان اجتماع للعلماء، حيث يتوافد الناس على السوق، ويجتمعون للبيع والشراء.. فكان العلماء ينتهزون فرصة هذا التجمع ليقوموا بنشاط واسع من الناحية الأدبية، فينشدون الأشعار، ويعقدون الخطب.. فأصبحت حوانيت الوراقين بمثابة منتدى فكري يقصده العلماء للمناظرة والنقاش في الشؤون المختلفة. فقد كانت الوراقة مهنة سامية ويحترفها أدباء وعلماء وفلاسفة ومحدثون.
وقد جرت مقابلات ومناقشات بين العلماء في حوانيت الوراقين؛ ذكر التوحيدي في كتابه “المقابسات” أكثر من مائة حديث ومناقشة وحوار جرى في سوق الوراقين في بغداد، بين مختلف علماء عصره من متكلمين ونحاة وأدباء ومناطقة وفلاسفة ورياضيين، فضلاً عن علماء طبيعيين وفقهاء ومحدثين. وذكر اليعقوبي أنه كان في عصره أكثر من مائة وراق (بائع للكتب) في بغداد وحدها، وأن محلاتهم كانت مراكز للنسخ وللخطاطين والمنتديات الأدبية. وفي قرطبة نالت حوانيت الوراقين شهرة واسعة، فقد كانت بلاد الأندلس أكثر اهتمامًا واعتناءً بخزائن الكتب.
الوراقون ودورهم في حفظ التراث
تراثنا العربي والإسلامي مدين في تواصله وتكامله إلى طوائف ثلاث من الناس. الطائفة الأولى الوراقون والنساخون، والطائفة الثانية أرباب المكتبات العامة وأصحاب المكتبات الخاصة، والطائفة الثالثة المحققون الذين نهضوا بنشر هذا التراث.
ونتوقف مع الطائفة الأولى، أي مع الوراقين والنساخين؛ وهم الطائفة التي سكبت نور عيونهم على الأوراق فحفظوا هذا التراث من الضياع والفناء، إذ نهضوا بأعباء النسخ وبلغوا درجة عالية من تجويد الخط وزخرفته ودقة النقل وأمانته، سواء أكانوا ينسخون المخطوط من الأصل الذي كتبه المؤلف نفسه، أم من نسخ أخرى منقولة عنه، ولم يكن تكرير العمل أو مشقته لتعول بهم عن تجويد الخط ومراعاة أصول الضبط.
إن كلمة “ورق” جاءت من ورق الشجر إحدى مواد الكتابة عند العرب قبل تعرفهم على الورق المصنوع. كما تعني العامل في صناعة الورق، ومنها مورق الكتب، أي الذي يحترف الوراقة، مثل بيع الكتب ونسخها وخطها وتجليدها وتهذيبها.
أشهر النساخ في التراث العربي
من الوراقين والنساخين أناس أصبحوا أدباء ذائعي الصيت، ومنهم آخرون من ذوي الوظائف العالية في الدولة، حتى إنهم تولوا القضاء والوزارة، ومنهم من بقي خامل الذكر لا ينسب إليهم إلا مهنتهم في الورق والنسخ، ومن أشهر الوراقين الذين أصبحوا أدباء ذائعي الصيت؛ عمرو الوراق الشاعر (ت 209هـ) ناسخ أشعار أبي نواس، ومحمد بن الليث (ت 256هـ) تولى زمام القضاء في مصر في زمن الخليفة المعتصم، وأبو حاتم الوراق (ت 276هـ) وكان يعيش بنيسابور وقيل إنه ورَّق بها خمسة آلاف نسخة، ومحمد بن أبي حاتم الوراق (ت 296هـ) وراق الإمام البخاري وناسخ كتبه، وأبو علي محمد بن علي الحسين المعروف بابن مقلة (ت 316هـ) وكان جيد الخط يضرب بخطه المثل ولا ينازعه في ذلك منازع، وُجِد عند سيف الدولة الحمداني خمسة آلاف ورقة بخط أبي علي هذا، لأنه كان منقطعًا إلى بني حمدان سنوات كثيرة يقومون بأمره أحسن قيام، وقد تولى الوزارة للمقتدر سنة 316هـ.
وأبو عبد الله الحسن بن علي بن مقلة (ت 338هـ) وكان أكتب من أخيه الوزير أبي علي، وقد ولاه أخوه ديوان الضِياع الخاصة وديوان الضياع المستحدثة وديوان الدار الصغيرة، وكان أبوهما الملقب بابن مقلة كاتبًا مليح الخط. والحسن بن عبد الله الزرباني (ت 368هـ) وكان عالمًا كبيرًا تولى القضاء ببغداد، وكان زاهدًا لم يأخذ على القضاء أجرًا.. أفتى في مسجد الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وُجِد له خطأ، وكان يعتمد في نفقاته على أجر النسخ. وأبو حيان التوحيدي (ت 414هـ) إمام الوراقين وفيلسوف الأدباء أديب الفلاسفة.. كان يحترف الوراقة.. اتصل بالصاحب ابن عباد ليتخلص من حرفة الوراقة، ولكن الصاحب طلب منه التزام داره لنسخ الكتب.
وهناك أيضًا من كانوا من كبار علماء المسلمين وقد بدؤوا حياتهم وراقين وناسخين، ثم عدلوا عن هذه المهنة، منهم ابن الخزاز، وأبو بكر القطنطري، وأبو بكر الخراساني، وابن عقيل الذي ذكره الباخرزي في مخطوطة الشهير دمية القصر.
وكان لبعض الوراقين تأثير علمي وأدبي على أسرهم فنبغ بعض أفرادها، مثل زينب وحمدة ابنتا زيد الوراق تاجر الكتب الذي كان يعيش في وادي الحمى بالقرب من غرناطة. فقد عرفت زينب وحمدة بسعة الاطلاع والتبحر في العلوم والأدب، بل كانتا تقفان في صف مشاهير أهل العلم في عصرهما.
(*) باحث في التراث العربي والإسلامي / مصر.