الذكاء الاصطناعي وواقع الدعوة إلى الله

علم الدعوة له مفاهيمه وأساليبه وشروطه ووسائله ومقاصده وقواعده ومناهجه وأعلامه، وقد وردت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي تأمر بالدعوة إلى الله تعالى وفق منهج الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108)؛ والبصيرة المشار إليها في الآية، تعني كل ما يتعلق بالدعوة من حيث استقراء تاريخها والإفادة منها ومعرفة مواطن النجاح فيها، والعقبات والمناهج وفقه واقعها.. وكذلك استغلال كل الوسائل التي تحقق مقاصدها، ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله في القرآن على أيدي جميع الرسل والأنبياء، يعطينا اليقين الجازم بأن فَتْح الله ونصرَه، وتحقيق وعد الله، لم يقع مرة واحدة بل على مراحل.. وقد حفل تاريخ الدعوة الإسلامية وتطورها بنماذج فريدة من الدعاة المدافعين عن الإسلام، تسلحوا بأسلحة عصرهم، وصالوا وجالوا، ورفعوا راية الحق عالية، واستخدموا كل الوسائل المتاحة لديهم.. فلكل عصر وسائله وأساليبه تقتضيها الحكمة والبصيرة.

واقع الدعوة في عصر الرقمنة

ما نشهده اليوم من تطورات في مجال التكنولوجيا والاتصالات، أدى إلى تحولات كبرى في شتى مجالات الحياة، حيث انتقل العالم من طبيعة تقليدية إلى طبيعة رقمية. ومن أهم القطاعات التي شهدت هذه التحولات، قطاع التربية والتعليم الإسلامي الذي تأثر بالوسائل الحديثة في التبليغ لدين الله تعالى. وعند النظر في واقع الدعوة الإسلامية اليوم، نجد أن الدعوة تواجه تحديات على عدة مستويات بسبب تأثير العولمة، وانشغال معظم الشباب بوسائل التواصل الاجتماعي، وما أفرزه الغزو الثقافي من أفكار تزداد خطورته يومًا بعد يوم، وظهور دعوات تشكك في صدق بعض الدعاة العاملين، وتثير الشبهات وتنشر الإلحاد وتتنكر لوجود الله والرسالات السماوية، مما صعَّب على الدعاة المهمة في التصدي لهذه المحاولات الهدامة. والحل الوحيد هو التفكير في البناء الدعوي من جديد، مع استثمار أساليب الرقمنة من أجل تسريع الإصلاح، وتفعيل دور الدعوة بالتقنيات الحديثة وفي مقدمتها الذكاء الاصطناعي، وأي وسيلة فعالة أخرى تنشر الدعوة على أوسع نطاق ممكن.

أهمية الذكاء الاصطناعي بالنسبة للداعية

فقه الدعوة يقتضي التفكير في كل وسيلة تحقق الأهداف الدعوية، ولذلك قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج:46)، فهؤلاء ابتعدوا عن دعوة الحق حينما لم يتدبروا الآيات القرآنية أو الكونية التي تثبت دعوة الأنبياء إلى الله، ولا يعتبرون بحُجَجه لرسله، فيعلموا توحيد ربِّهم، ويعرفوا حقيقة نبوّة أنبيائهم، فوصفهم الله تعالى بأن قلوبهم عميت عن إدراك الحق بسبب جحودهم وإعراضهم عن إدراك حقيقة دعوة الله. ففقه الدعوة يعني الفهم الواعي العميق بأصول الدعوة وأسسها وشروطها، ووسائلها وأساليبها، وكل ما يحقق المصلحة والغاية الدعوية. ولا يمكن أن يكون الداعية فقيهًا في الدعوة إلا إذا حقق نجاحًا ملحوظًا في دعوته؛ “ليس الفقه بكثرة المسائل، ولكن الفقه يؤتيه الله من يشاء من خلقه”.

فمما هو مؤكد، أن من مستلزمات الداعية أن يبحث عن أي وسيلة تحقق له مقاصده وأهدافه الدعوية، بشرط أن تكون الوسيلة مشروعة، ومن هذا المنطلق فالداعية مدعو إلى البحث في عصره عن الوسيلة المناسبة ليستغلها في دعوته. وفي عصرنا الحالي تنوعت الوسائل والأساليب المختلفة وخاصة التقنية منها، وأصبح الإنسان يصعب عليه التمييز بينها، ومن أهم هذه الأساليب والوسائل، ما نتج من تطور مذهل في تقنيات التواصل، وتبادل المعارف والأفكار، في وقت وجيز دون بذل جهد كبير. فالذكاء الاصطناعي هو أحد تلك التقنيات في العلوم الحديثة، وذلك لمحاكاة ذكاء الإنسان، بل يفوق الإنسان في سرعة البحث وإنجاز المهام.

ومن هنا تأتي أهميته بالنسبة للعمل الدعوي، فلا بد من العمل على توظيفه في الدعوة والأعمال الخيرية، ويجب على الداعية إلى الله أن يطور مهاراته وكفاءاته لفهم ما يطلبه المدعو والوسيلة التي يتعامل بها.. والذكاء الاصطناعي يلعب دورًا مهمًّا في التخفيف عن الداعية، وخاصة أن الداعية يعمل في عصر العولمة الذي اختلطت فيه الثقافات وتمازجت الأفكار، فمن الممكن أن يعمل الذكاء الاصطناعي على حماية الدعاة، وتوفير الجهد والوقت والطاقة في الوصول إلى مناطق عديدة في العالم بشتى اللغات.

ففي الصين، تم تطوير راهب آلي يقدم تعاليم بوذا، حتى اليهودية تطرق لها الذكاء الاصطناعي في روبوتات تلعب دور الحاخام وتلقي خطبًا دينية تستلهم التوراة.

فأمام هذه التطورات والمحاولات من أصحاب الأديان الأخرى في التعريف بدياناتهم وعقائدهم، وجب على الدعاة المسلمين أن يستغلوا هذه التقنيات للتعريف بالإسلام والدعوة إليه.

ضوابط العمل الدعوي عند استخدام الذكاء الاصطناعي

1- الصدق في الإخبار: إن مصدر تاريخ الدعوة مع رسل الله هو القرآن الكريم بصورة رئيسية، قال تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عليك نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ((الكهف:13)، وقال تعالى: (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ) (القصص:3)، وقال تعالى: (وَاتْلُ عليهم نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) (المائدة:27)؛ والنبأ هو الخبر المتعلق بأمر هام مثير للوجدان والعواطف، والحق هو الصدق المطابق للواقع بلا ريب. وكل ما يوضع من معلومات في منصات الذكاء الاصطناعي، يجب أن تكون من قبيل الخبر الصادق.

2- ارتباطه بالوحي: ارتبط تاريخ الدعوة بالوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث لا دخل لبشر في تصوير أحداثه أو الإخبار بوقائعه من عند نفسه؛ لأنه غيب أمام البشر، ولولا القرآن الكريم لغاب تاريخ هذا القسم مع أهميته، قال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران:44). إن قصص القرآن الكريم إخبار عن غيب الماضي الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، أوحى الله به إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منهجًا للدعاة إلى الله. وهذا مما يجب التأكيد عليه، فليس للذكاء الاصطناعي اجتهاد ذلك، باعتبار أن مسألة الدعوة مصدرها إلهي، وليس ذكاء بشريًّا أو اصطناعيًّا.

3- الواقعية: واقعية الأحداث فليس منها ما لا يتصوره عقل أو يتناقض مع الفطرة. نجد -مثلاً- التصوير الصادق الواقعي عن إخوة يوسف عليه السلام، وعن ولدي آدم عليه السلام، وعن المؤمنين، وعن الكافرين، وهكذا. ولو جئنا بقصة قرآنية، وعزلناها عن ذوات أصحابها، وأبعدناها عن زمانها، لخُيِّل إلينا أنها قصة من الحاضر؛ لأن الإنسان هو الإنسان، فكأن واقعية الماضي تصوير لما وقع فعلاً، وفهم الحاضر يفيد ترابط وقائع الماضي مع حوادث الحاضر مع تصورات المستقبل، وذلك أكبر برهان على الواقعية لقصص القرآن المتضمنة لتاريخ الدعوة، وهو الأمر الذي يجب أن يراعى في التعامل مع الذكاء الاصطناعي.

4- سمو الأهداف: سموّ أهداف الدعوة التي تدعو إلى التوحيد، وطاعة الله، والتخلق بالخلق الكريم، وحين يعرض لموقف فيه فحش، فإنه يعرضه بصورة مختصرة في شكل مقيت يكرهها من يقرؤها، قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (يوسف:23).

وحينما يقدم تاريخ الدعوة صفات الرسل ومزاياهم الخلقية التي تعاملوا بها مع الناس، ومنهجهم في الدعوة ووعيهم بحقائق الحياة والأحياء، وصدقهم المخلص مع الله ومع الرسالة ومع الناس.. حينما يفعل ذلك يقدم خدمات جليلة للدعوة في العصر الحديث وفي كل العصور. ويعد تاريخ الدعوة في عصر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أساسًا لكل جوانب الدعوة الإسلامية في جميع الأمكنة وسائر الأزمنة إلى يوم القيامة. ومصادر هذا القسم عديدة؛ على رأسها القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومرويات الصحابة والتابعين، وكتب التاريخ، والدعوة.

آليات العمل الدعوي بالذكاء الاصطناعي

والسؤال المطروح هو: كيف نوظف الذكاء الاصطناعي في الدعوة إلى الله تعالى؟ أو ما الآليات العملية لتحقيق أهداف العمل الدعوي؟

المنهج الدعوي يقتضي التفكير في الخطوات الهامة لتحقيق تلك الأهداف، فمن الضروري وضع خطة عملية من الممكن أن تتمثل فيما يلي:

أولاً: تسخير خبراء في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي بالتنسيق مع الدعاة، لوضع منصة خاصة تتجمع فيها المعلومات والبيانات التي تخص مجال العمل الدعوي، حيث توضع بعناية شديدة يستجيب لها الذكاء الاصطناعي بمرونة وسهولة ويتعامل معها.

ثانيًا: وضع قاعدة معرفية يقاس بها أداء نظام الذكاء الاصطناعي، ويمكن بها حل المشكلات والإجابة على التساؤلات وتقديم استشارات، وتستمد هذه القاعدة معلوماتها من العلوم الشرعية المختلفة.

ثالثًا: تصميم واجهة مناسبة للعمل الدعوي، بحيث تكون إبداعية وذات جودة، تستجيب لمتطلبات المستخدم وتنافس غيرها، ولها سرعة في الاستجابة.

رابعًا: وضع قاعدة بيانات خاصة تردُّ على التساؤلات التي تحتوي على شبهات، تستخدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتصبح مرجعًا للداعية يستخدمها أثناء دعوته، لتوفر له الجهد والوقت بتجميعها وصبها في قاعدة البيانات، سواء كانت هذه الشبهات في القديم أو في العصر الحديث أو حتى التي من الممكن إثارتها في المستقبل.

خامسًا: تحديد مراكز دعوية في العالم، حيث تعدُّ هذه المراكز مرجعًا يمكن الرجوع إليها سواء من قبل المدعو أو الداعية، من أجل استمداد المعلومات أو الأفكار أو يرجع إليها من أراد الدخول إلى الإسلام، ولها مواقع قد يشير إليها الذكاء الاصطناعي.

سادسًا: البرمجة الذكية، وهي تقنية يتقنها أهل التخصص في أنواع البرمجة، في مجال تكنولوجيا المعلومات والإنترنت، وكل ما يتعلق بلغات البرمجة المعروفة في عالم الكمبيوتر وخاصة التي لها علاقة بالذكاء الاصطناعي، وتتيح للمبرمج الكتابة بكفاءة عالية، مثل لغة سي بليس (C++) أو لغة جافا (JAVA) أو لغة برولوغ (PROLOG).

سابعًا: توفير برامج كمبيوتر أو تطبيقات برمجية بعدة لغات يمكن الاستعانة بها، خاصة للمسلمين الجدد غير الناطقين باللغة العربية.

الإيجابيات والسلبيات للذكاء الاصطناعي في المجال الدعوي

نذكر أهم الإيجابيات للذكاء الاصطناعي فيما يلي:

– السرعة في التنفيذ واستحضار المعلومة ودقتها.

– السهولة والمرونة في التعامل معه؛ فيمكن أن يتعامل معه كل شرائح المجتمع، ولا يتطلب خبرة في البرمجيات أو تقنيات معقدة.

– باعتبار أن الدعوة الإسلامية هي دعوة عالمية مخاطب بها كل البشر، فهذا يسهل العملية في تعامل الذكاء الاصطناعي معها.

– زيادة كفاءة الدعاة في تنمية مهاراتهم الدعوية وتطويرها.

– إتاحة الفرصة للدعاة في التواصل مع بعضهم لتبادل الخبرات الدعوية ومتابعة النتائج الدعوية.

وأما بالنسبة للسلبيات فيمكن تلخيصها فيما يلي:

(العملية في بدايتها تحتاج إلى وقت للعمل مع صعوبة العملية البرمجية، التي تحتاج إلى كفاءات عالية في هذا المجال.

(تحتاج إلى تكاليف مالية عالية لإتمام العملية بكفاءة، خصوصًا -ونحن نعلم جيدًا- أن المؤسسات الدعوية ليس لها موارد مالية إلا عن طريق التبرعات والصدقات.

(تحتاج أيضًا إلى متابعة مستمرة وصيانة وإصلاح للأخطاء، وهو الأمر الذي يتطلب أيضًا موارد مالية.

(إن الذكاء الاصطناعي لا يتعامل مع المنهج العاطفي الدعوي من الرحمة والرفق والشفقة وغيرها، مما تتطلبها الدعوة في كثير من الأحيان.

وفي الأخير نقول، مهما كانت السلبيات فإنه من الضروري خوض هذه التجربة حتى وإن أخذت وقتًا طويلاً، وأن تتضافر الجهود للقيام بهذه التجربة المهمة في الدعوة إلى دين الله تعالى، لكي تضفي على الدعوة شيئًا من العصرنة والجودة والإبداع، بتأهيل الدعاة لهذه المهمة والاستعانة بالذكاء الاصطناعي وتوظيفه لصالح الدعوة، لما له من تأثير على فئة واسعة من المدعوين في العالم في آن واحد.. وباللغة التي يفهمونها ودون أخذ الإذن من أحد، تُصحح فيها المفاهيم ويُرد على الشبهات بالحجج العقلية والنقلية، وتنتشر دعوة الله التي أمرنا بها الله تعالى في قوله: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ) (الرعد:14).

(*) أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي، جامعة الأغواط / الجزائر.