كانت وما زالت اللغة العربية مصدر رعاية الناطقين بها واهتمامهم، فلم يقتصروا على أن يجعلوا وعاءها لغة المخاطبة، والأحاديث العابرة، بل رفعوها إلى أن تكون وعاء الخطب، والشعر، والحكم، والأمثال، فحملت أندر الأفكار، وأقوى المعاني، وأبهى الصور، وأجمل التركيبات، فاقتنصت الحقائق دقيقة متقنة، وقيدت أوابد الصور الخيالية، فجاءت بالسحر الحلال.
ولقد أوجبت دقة معاني اللغة العربية كثرة الألفاظ، حتى صار لجزء صغير من الأمر مدلوله، وجاءت بالمترادفات لتضمن تحقق الفهم، ورسوخ الأفكار، واستقرار المعاني، فترفهت اللغة العربية ببذخ في التعابير لم تصل إليه لغة من اللغات.
ومن مظاهر ذلك حرص العرب على موسيقى الكلمة والجملة والتعبير، وإسرافهم في هذا، فإذا كان الشعر أحد هذه المظاهر بوزنه الدقيق، وقافيته المعتبرة، فالسجع كان مظهرًا فريدًا من فخر العرب، تفننوا فيه حتى المغالاة أحيانًا. ولم يكتف العرب بذلك، بل عمدوا إلى وزن الجُمل غير المسجوعة، فجاءت متناغمة في صورتها، وصوتها ومعناها، فأصابت بهذا هدف التأثير، فحركت وأطربت وأبهجت.
ثم جاء القرآن الكريم ليضع التاج النبيل على رأس هذه اللغة الكريمة، فكان القدوة والمحتذَى، والمقياس الأسمى للفصاحة والإعجاز، بسوره وآياته، وكلماته، وما تحمله من معاني، وصور، ومدلولات، وعبر.
ولما كان العرب حريصون على اعتدال الجملة اللغوية، وحسن وقعها على السمع، وما لا تستغني عنه من موسيقى، جرسها يطرب الأذن، ويبهج الروح، ابتدعوا أسلوب التتابع والمزاوجة، وهو فن في اللغة العربية فريد، فيه ما يؤكد معنى من المعاني، ومنه ما يأتي سندًا يقوي الجملة، ويقيم أودها، ترتكز عليه كما ترتكز النبتة على خشبة توضع بجانبها تسندها، وتحميها من أن تميل، وتبقيها مستقيمة، تخلب الرائي، وتساعدها على النمو والطول، واشتداد العود.
الإتباع والمزاوجة في اللغة العربية:
الإتباع لغة: هو أن تتبع الكلمة بكلمة على وزنها، لتزيين الكلام لفظًا وتقويته معنى، أما المزاوجة فهي: تعديل يلحق إحدى الكلمتين لتناسب أختها في الحركة والوزن كما في الحديث الشريف: “…لا دريت ولا تليت….” فنقل الواو في تلوت إلى ياء، والحديث الشريف أيضًا: “ارجعن مأزورات غير مأجورات” فصيّر الواو في موزورات همزة.
والإتباع والمزاوجة كلاهما على وجهين: أحدهما أن تكون كلمتين متواليتين على رويّ واحد، والوجه الآخر: أن يختلف الرويّان ثم تكون بعد ذلك على وجهين: أحدهما أن تكون الكلمة الثانية ذات معنى معروف والآخر أن تكون الثانية غير واضحة المعنى، ولا بيّنة الاشتقاق إلا أنها كالإتباع لما قلبها.
والإتباع والمزاوجة إلى جانب أنهما من جوانب الترف الفكري المحبب، أقرب أن يسميا في اللغة العربية المساندة، فهما بهذا أولى، لأن الكلمة التالية تسند الأولى، سواء بتأكيد المعنى، أو بتعضيد اللفظ، فإذا سندت المعنى فهي ذات معنى، ولو انفردت به لأجزت عن الأولى، وإن سندت اللفظ فهي مفيدة في الشكل مظهرًا وموسيقى.
والسند أو الإتباع والمزاوجة كثيرًا ما يأتي بتغيير حرف في أول الكلمة، فيعطي ذلك تقارب في الأحرف، يعطينا انتباه للقول والمعنى المقصود.
ومن أمثلة الإتباع قولهم:
– حاذق باذق، في هذا المثل احتلت الباء مكانها من الإتباع (الحاذق: الماهر، شديد الحموضة. الباذق: ما طُبِخَ من عَصيرِ العِنَبِ أدْنَى طَبْخَةٍ فصار شديدًا. والمعنى توكيدي يدل على المهارة والنضج، والمساندة جاءت من تغير حرف الحاء في الكلمة الأولى بالباء في الكلمة الثانية وهذا أدى إلى إضافة معنى جديد يختلف عن المعنى الأول ولكنه يضيف إلى الإطار العام لمعنى الجملة).
– خياب تياب، (خياب: من لازمته الخيبة، تياب: كلمة لا معنى قريب لها، جاءت زينة للنظر عند القراءة، وموسيقى جميلة في السمع، وسندًا للكلمة الأولى حتى لا تبدو بتراء).
– ساغب لاغب (الساغب: الجائع، اللاغب: المُعي الكال، أو الجائع التعب، والمساندة جاءت من تغيير السين في الكلمة الأولى باللام بالكلمة الثانية، وهذا أدى إلى إضافة معنى جديد يختلف برفد الكلمة الأولى بالثانية، مما جعل الجملة ذات مظهر جذاب، وذات موسيقى مشنفة للأذن).
– عفريت نفريت (العفريت: النافذ في الأمر، المبالغ فيه مع خبث ودهاء، أما النفريت فهو إتباع، لا يبدو أن له معنى).
– سميج لميج (السميج: القبيح، أو الذي لا ملاحة له، اللميج: الكثير الأكل. حلت اللام محل السين في هذه المتابعة لقربها عند النطق لوزنها الصوت، ولحسن استقبال الأذن له).
– شحيح نحيح (الشحيح: معروف، والنحيح: كلمة لا معنى لها، جاءت للمتابعة والسند).
– وحيد قحيد (وحيد: كلمة معروفة واضحة المعنى، أما كلمة قحيد فجاءت لتكون إتباعا لتؤنس وحدة كلمة البدء في الجملة).
– تاعس واعس (التعس: عثر الحظ، الواعس جاءت للإتباع والمزاوجة).
– ناعس واعس (ناعس من النعاس، الواعس: كلمة جاءت للإتباع والمزاوجة).
– عطشان نطشان (عطشان: كلمة معروفة واضحة المعنى، نطشان: كلمة لا معنى لها جاءت للإتباع والمزاوجة).
– هشاش أشاش (هشاش: النشط المريح: المبتسم المرحب، أشاش: كلمة للإتباع، ولغرض الإتباع والمزاوجة جاءت كلمة أشاش، ولم تأت كلمة بشاش لأن كلمة بشاش -من البشاشة- تؤكد المعنى ولا تتبعه).
– حظي وبظي (حظي: ذَا حُظْوَةٍ وَمَنْزِلَةٍ، بظي إتباع ظاهر لكلمة حظي).
– جائع نائع (جائع كلمة معروفة، نائع للإتباع، رغم ما قيل من أن معناها: عطشان).
– خفيف ذفيف (خفيف: قليل الوزن سهل الحمل، ذفيف للإتباع، وإن كانت تدل في بعض معانيها عن السرعة).
– ثقف لقف (ثقف: حاذق فطن، لقف: الأخذ بالسرعة وجاءت للإتباع والمزاوجة).
– ضعيف نعيف (ضعيف: كلمه معروفه، نعيف: كلمة لا معنى لها هنا جاءت للإتباع والمزاوجة).
– مائق دائق (مائق: هالك حمقًا وغباوة، دائق: جاءت إتباعا للمعنى المقصود من مائق أيًّا كان هذا المعنى).
– ضئيل بئيل (ضئيل: نحيل الجسم دقيقه، بئيل: كلمة لا معنى لها هنا جاءت للإتباع والمزاوجة).
– ضال تال (الضال: من خفي عليه الطريق فلم يهتد إليه، تال: إتباع).
– حسن بسن قسن (حسن: معروفه، بسن: إتباع أول، فسن: إتباع ثان).
– تافه نافه (تافه: حقير، نافه: كلمة لا معنى لها هنا جاءت للإتباع والمزاوجة).
– عيي شيي (العيي معروف، الشيي إتباع).
وهناك كلمات جاءت في جمل للإتباع فقط منها:
– بلا صياح بلا مياح (مياح كلمة لا معنى لها، ولكن من ابتدأ الجملة بصياح رأى ألا يتركها وحدها دون حارس أو معضد يثبتها بوتد).
– ما له حلوبة ولا ركوبة (الحلوبة ما تحلب والركوبة ما تركب).
– رجل طبّ لبّ، (فالطبّ: الحاذق، واللب: من اللب وهو العقل).
– لم يبق منهم صالح ولا طالح، الطالح: الشارد.
– جاء بالضيح والريح، الضيح: ضوء الشمس، أي جاء بما طلعت عليه الشمس وما جرت عليه الريح.
وكذلك جاءت الأمثلة التالية:
– بلا كلام بلا ملام
– بلا شربه بلا مربه
– بلا دجاج بلا مجاج
– بلا شرطه بلا ورطة
– بلا بط بلا مط
– بلا شوف بلا موف
– بلا هات بلا مات.