تتميز أوضاع الأشخاص المسنِّين في المجتمع الإسلامي بخصوصيات لها علاقة وطيدة بالواقع الذي يطبع حياة المجتمع ويحدد العلاقات الإنسانية العامة بين أفراده، وذلك في ضوء الشريعة الإسلامية الخالدة التي نصت في مجال الرعاية الاجتماعية لفئة الشيوخ والمسنين، على ما يضمن لهم حياة الكرامة والأمن والاطمئنان. وتنقسم هذه الرعاية إلى شطرين اثنين، هما رعاية عائلية، ورعاية اجتماعية. وهذه الرعاية تعتبر في حد ذاتها كفالة منبثقة عن نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام. وقد جاءت عدة شروح وتفاسير لهذه المسألة في كتب ومؤلفات استمدت مادتها الأساسية من الكتاب والسنَّة، يمكن الإشارة إلى بعض الآيات التي جاءت بهذا الخصوص.. فالكفالة والرعاية العائلية تتجسد فيما أوجبه الله من النفقة والمعاملة بالحسني لفئة الآباء والأمهات، قال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) (العنكبوت:8)، وقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء:23)، وهذه الأخلاق القرآنية في حق الأبوين. ثم إن الشريعة الإسلامية اتسعت آفاقها لتبين أن هذه الرعاية والكفالة يمتد واجبها لتشمل النفقة على الأخوة والأعمام والعمات والأخوال والخالات.
وأما الشطر الثاني فيتعلق بكفالة ورعاية المسنين اجتماعيًّا، بحيث نصت الشريعة الإسلامية على ضمان الرعاية الاجتماعية للمسنين في إطار نظام الزكاة. وبفضل التضامن العائلي والاجتماعي، لم تكن إشكالية الشيخوخة بالخطورة والأزمة التي توجد عليها في بعض المجتمعات المادية، بما فيها المتقدمة صناعيًّا وتكنولوجيًّا.. وبفضل المرونة التي يتميز بها السلوك العائلي والاجتماعي في المجتمع الإسلامي، حصل التخفيف من حدة مشاكل الشيخوخة، حيث تعززت مكانة المسنين في مجال الرعاية الاجتماعية بما تقدمه مؤسسات الأوقاف من خدمات. ذلك أن الوقف يقوم بدور مهم لفائدة الشيوخ والمسنين والعجزة، إلى جانب الحفاظ على استمرارية الرسالة المحمدية وسلامة العقيدة الإسلامية، وترسيخها في القلوب وتثبيتها في النفوس.
ودعمًا للجهود الهادفة إلى رعاية المسنين، إيمانًا بأن الرعاية الاجتماعية لعالم الشيوخ ضرورة حتمية وواجب إنساني، فقد اتفقت الآراء على إعطاء مزيد من العناية لمن بلغوا مرحلة السن الثالث؛ مع السهر على راحتهم، وتطبيق كل التوصيات والقرارات الهادفة إلى ضمان حقوقهم، مع تشجيع تكوين الجمعيات التي تعني بالمسنين. وتضافر الجهود على أساس التنسيق بين المنظمات التي تهتم بقضايا الشيخوخة، على أن يشمل هذا التنسيق كل مجالات التعاون بين المنظمات والجمعيات العاملة في هذا الميدان، والقطاعات المكلفة بالعمل الاجتماعي، وإدماج برامج ومشاريع العمل التي تخص فئة المسنين ضمن المخططات التنموية.
دور الأسرة في رعاية الشيخوخة
يتضح من خلال الواقع الاجتماعي المنحرف عن منهج الله تعالى، أن وضعية المسن داخل الأسرة تثير بعض التساؤلات، وأحيانًا تثير الإشفاق على أحد الطرفين أو على الطرفين معًا؛ ذلك أن بعض الأسر لا تتوفر على إمكانيات تساعدها على القيام بواجب الرعاية المطلوبة لمن وصلوا السن الثالث، أو العكس تتوفر الإمكانيات ولكن يوجد الإهمال وعدم الشعور بالواجب، خصوصًا في حالة تفكك الأسرة أو عدم انسجام أفرادها.. علمًا بأن العلاقات العائلية تمتد -بطبيعة الحال- إلى الأخوة والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأقارب.
تتنوع أوضاع المسنين وواقع حياتهم وظروف عيشهم، بحيث هناك من كان يمارس الصناعة والتجارة والحرف الحرة، وهناك من كان يمارس أعمالاً في قطاعات عمومية أو شبه عمومية، حيث يشملهم نظام المعاش فيحالون على التقاعد عندما يبلغون من العمر 60 سنة.
وقد يختلف تحديد سن التقاعد من بلد إلى آخر، على أية حال، فهؤلاء المحالون على التقاعد، لا يعانون من مشاكل الشيخوخة بالقدر الذي يعاني منها الذين لا معاش لهم، لذلك فالمساعدة التي تمنحها صناديق التقاعد، لها دورها في التخفيف من أزمة الشيخوخة، سواء كان المسن رب أسرة، أو يعيش داخل أسرة، في الحالتين تكون وضعيته أقل تأزمًا من وضعية الذي أصبح شيخًا ولا معاش له، فيجد نفسه عالة على نفسه وعلى أسرته، لكونه لا يتلقى أية مساعدة مبرمجة تمكنه من مواجهة متطلبات ما تبقي من حياته.
في المرحلة المتأخرة من عمر الإنسان، تزداد حاجياته إلى التغذية المتوازنة وإلى العلاج، وبالتالي إلى الرعاية الصحية والاجتماعية والنفسية المتكاملة، وأين هو ذلك في أسرة تعاني ظروفًا قاسية من حيث الوضع الاجتماعي والاقتصادي والبيئي.. ومن شأن الأوضاع المتردية والظروف القاسية أن تؤثر في نفسية المسن، وتجعله يعاني من التوتر والقلق وارتفاع الضغط الدموي.. ومما يزيد الطين بلة، أن طرفًا من فئة المسنين يصبح على هامش الحياة فلا تقاعد ولا تأمين صحي، ولا موارد منتظمة ولا دخل مهما كان حجمه، لذلك فإن مرحلة الشيخوخة على هذا الشكل تعتبر قاسية جدًّا.
وهناك صور ونماذج في بعض المجتمعات تؤكد ذلك، وتقتضي إعادة التفكير بكيفية جدِّية في أوضاع وأحوال الشيخوخة التي تعيش في القرى النائية والأرياف والأحياء الشعبية بالمدن الكبرى. وشمولية الرعاية الاجتماعية والصحية لهذه الفئة ضرورة ملحة، إذ كل فرد لا بد وأنه ساهم -بقليل أو كثير- في تكوين أسرة، وبناء مجتمع، وتقديم خدمة من الخدمات ذات النفع العام.
الشيخوخة والعمل الاجتماعي
للعمل الاجتماعي أهمية كبيرة لقضايا الأشخاص المسنين، لذلك فكلما تعددت مرافق ومؤسسات العمل الاجتماعي لفائدة هذه الفئة، وقع التخفيف من حدة مشاكل الشيخوخة، وسهَّل القيام بالواجب نحوها، غير أن توسيع نطاق هذا العمل يقتضي مساهمة الجميع بالواجب نحوها، بما في ذلك التنظيمات والجمعيات التي تكونت في نشأتها من أفراد كانوا أطفالاً وشبابًا، ومرت السنون والأعوام فأصبحوا شيوخًا في حاجة إلى مساعدتهم وتكريمهم. ولا يحقق العمل الاجتماعي النتائج المتوخاة منه ما لم يصاحبه الوعي الاجتماعي، الذي يجعل الجميع يحس بقيمة هذه المرحلة في حياة البشر، خاصة وأن الإنسان يريد أن يبقى ممارسًا لسلوكه الاجتماعي ومسؤولياته العائلية والأبوية، وهذه حالة نفسية ينبغي إيلاؤها كل اعتبار، وذلك بعدم تهميش المسنين.
بل ينبغي الاستفادة من تجاربهم والاستماع إلى أقوالهم، حتى لا تطغى على حياتهم حالة التخريف التي يصاب بها أولئك الطاعنون في السن بسبب ضعف الذاكرة، بحيث نجد أن تصرفات بعض الشيوخ المسنين غير معقلنة، بل عشوائية تنم عن الخلط وعدم التركيز في الكلام والنسيان وغير ذلك.
ومع ذلك، ينبغي تصحيح ما يصدر عن المسنين؛ لإشعارهم بأنهم لا يزالون يحيون الحياة بصورة طبيعية حتى لا يدب إليهم اليأس. وهذه المعاملة ضرورية للشيخوخة سواء من طرف الأسرة أو المكلفين بمآوي العجزة التي يتطلب أن تكون في مستوى رغبات هؤلاء المسنين، توفر لهم أسباب الراحة والقرب من الله عز وجل والتمتع بالمباحات المزيلة لتواتر الهموم في إطار الرعاية الصحية، علمًا بأن حالة التخريف التي أشير إليها آنفًا، قد تصيب البعض من المسنين وليس الكل. وقد أكدت بعض الدراسات والأبحاث الميدانية، أن حالة التخريف تصيب -بكيفية ملحوظة- المسنين الأمِّيين الذين ليسوا على مستوى من المعرفة والوعي، بينما هناك أشخاص بلغوا سن الشيخوخة وظلوا يتمتعون إلى آخر لحظة من حياتهم، بالعقل السليم، والفكر المبدع.. والأمثلة كثيرة في أجدادنا السابقين الذين كانوا يواجهون سكرات الموت وهم يؤلفون روائع الكتب في العلم والفقه والطب وغيره. كما نجد بعض الأشخاص المسنين يدركون بوعي ما تقتضيه منهم مرحلة السن الثالث من التزام جانب الراحة، والعمل المنظم، والسلوك المتوازن، فيعبرون عن ذلك من خلال بعض مواقفهم.
مرحلة الشيخوخة كما يراها الأدباء
تحدث الأدب والأدباء عن مرحلة الشيخوخة فأجادت القرائح وأبدعت في وصف هذه المرحلة شعرًا ونثرًا وقصة، ولعل ذلك البيت الشعري المشهور في الأدب العربي الذي طالما تردد على الألسنة والذي يقول:
ألا ليت الشباب يعود يومًا | فأخــبره بما فــعل المشـيب |
فهذه المقولة الشعرية أحسن تعليق. ومن المقالات الرائعة في الإبداع الأدبي، ما جادت به قريحة الأديب العربي الكبير “مصطفي لطفي المنفلوطي” في مجموعته الأدبية النظرات تحت عنوان “الشعرة البيضاء”:
“مررت صباح اليوم أمام المرآة، فلمحت في رأسي شعرة بيضاء تلمع في تلك القمة السوداء لمعان شرارة البرق في الليلة الظلماء، رأيت الشعرة البيضاء في مفرقي فارتعت لمرآها كأنما خُيل إليّ أنها سيف جرَّده القضاء على رأسي، أو علَم أبيض يحمله رسول جاء من عالم الغيب ينذرني باقتراب الأجل، أو يأس قاتل عرض دون الأمل إلى أن قال: فأنت رسول الموت الذي ما زلت أطلبه منذ عرفته، فلا أجد له سبيلاً، ولا أعرف له رسولاً. ما الذي يحمله لك في صدره من الحقد رجل لم ينعم بشبابه فيحزن على ذهابه، ولم يذق حلاوة الحياة فيجزع لمرارة الموت”.
واسترسل المنفلوطي في وصفه للجو الذي تتميز به الشيخوخة إلى أن ختم مقالته في الموضوع بقوله: “أيتها الشعرة البيضاء مرحبًا بك اليوم، ومرحبًا بأخواتك غدًا، ومرحبًا بهذا القضاء المختبئ وراءك أو الكامن في أطوائك، ومرحبًا بتلك الغرفة التي أخلوا بها بربي وآنس بنفسي”.
ولم يكن هذا الأديب وحده هو الذي اهتم بهذه المرحلة، بل هناك الكثير من الأدباء والعلماء تحدثوا كثيرًا وبإسهاب عن الشيخوخة وظروفها المختلفة، ولم يخف أحد من هؤلاء حالته ذاتيًّا ووجدانيًّا، غير أن الفرق هو كما سبق أن قلت في كل ما قيل تباين وتناقض، والغث والسمين هناك ما يعبر عن سذاجة وضعف فكر كإفراز من إفرازات الشيخوخة، وهناك كذلك ما يعبر عن النضج وعصارة تجارب الحياة المليئة بالاجتهاد والإبداع والعطاء النافع والبدل العلمي، وتبقى الشيخوخة واحدة ولكن ظروف المسنين تختلف.
فالأئمة الأعلام كالإمام مالك وغيره من أساطين علماء المسلمين استمروا في عطائهم حتي أتاهم أمر الله، ومرحلة الشيخوخة زمرت لها الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار قائلة عندما أقرأ كتابًا أشعر بأنني لست عجوز بل أشعر بأنني بدون عمر.
خلاصة القول، إن مرحلة الشيخوخة هي جسر لا بد من عبوره في حياة كل إنسان مارسَ دوره في الحياة بكيفية طبيعية. وإذا تأملنا بعمق مرحلة الشيخوخة، نجد أن الإحساس بحقيقة الحياة وتفاعلات النفس البشرية على البسيطة، إنما تدرك الإدراك الحقيقي في مرحلة الشيخوخة، حيث يراجع فيها الإنسان صفحات ماضيه، ويتأمل من خلال هذا الماضي مواقفه الخاصة والعامة فيكتشف في نفسه مواطن الخطأ والصواب من خلال مسلسل ذكرياته.. ولكل إنسان ذكريات له أو عليه، ولذلك تعتبر مرحلة الشيخوخة، عمارة ذكريات، وتجارب حياة، وخير الكلام قول ربنا تبارك وتعالى: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140).
(*) كاتبة وباحثة مصرية.