صمَّم المسلمون في عصر ما قبل الحروب الصليبية أكثر من مائة وعشرين آلة ميكانيكية، كطواحين الغلال التي تدور بطاقة الرياح تأسيسًا على نظرية “زين الدين عبد الحق الغزنوي”، عالم الرياضيات المسلم الذي صمم تروس طاحونة الهواء ذات الفروع الأربعة، مسبوكة من الحديد والنحاس، وطول الفرع أربعة أمتار، تأسيسًا على الحقيقة الرياضية أن التناسب بين سرعة الرياح وطول مروحة “فرع” الطاحونة ضروري لدورانها، حيث سرعة الرياح إذا بلغت -على سبيل المثال- 25 عقدة في الساعة، فإن طول فرع الطاحونة لا بد أن يكون أربعة أمتار بالضبط.

كانت التروس أو “ناقلات الحركة” -ولا تزال- هي ثمرة علم الميكانيكا قديمًا وحديثًا، إذ إن الآلات الميكانيكية كانت -ولا تزال- عبارة عن توليف من التروس المولدة لحركة تلك الآلات، لا فرق في ذلك بين الآلات القديمة التي صنعها المسلمون، وتلك البالغة التطور حاليًّا، التي تعمل بالتكنولوجيا الرقمية. إن إلمام علمائنا القدامى بكيفيات قياس قوى الطبيعة من الرياح والجاذبية الأرضية، والضغط الجوي والتأثيرات المتفاوتة لارتفاع وانخفاض درجات الحرارة، كانت من الأسباب التي مكنت “زين الدين الغزنوي” -ومن قبله أبا الريحان البيروني- من وضع أسس الميكانيكا. وهي الفكرة التي انبنت عليها الهندسة العكسية أو “المحاكاة التصنيعية” منذ ستينيات القرن الماضي، بما أتاح نقل تكنولوجيا الصناعات الثقيلة والدقيقة عبر أنحاء العالم، بواسطة الإلمام بكيفيات إحداث معدل الحركة المطلوب لمحرك طائرة حديثة أو خط تصنيع متطور.

وقد نجح مصنع الألومنيوم المصري في “نجع حمادى” خلال ستينيات القرن الماضي، في تصنيع ألواح الألومنيوم الفائقة الصلابة، التي تجمع الحديد والنحاس والقصدير في سبيكة واحدة بعد التوصل لمحاكاة مسبك طبق الأصل من مسبك متطور في أحد مصانع الاتحاد السوفيتي. وذلك بالوصول بالمسبك المصري لمرحلة صهر بالغة السرعة لخامات المعادن الثلاثة في خلال 75 ثانية، ثم إعادة تشكيل ناتج انصهار تلك المعادن في ألواح خلال دقيقة ونصف، من خلال تطبيق فكرة الترس الأساسي في المسبك السوفيتي الأصلي، الذي يبلغ قطره خمسة أمتار، مع تساوي قطر بقية التروس الأربعة عشر الأخرى المشغلة للمسبك عند مترين لكل ترس. وكانت تلك الفكرة البسيطة ذات منشأ إسلامي أيضًا، حيث إنها استشفاف لآلة “الدفع الحراري” التي طورها “محمود الدمشقي” خلال عصر “الناصر صلاح الدين”، التي تم بموجبها سبك “آلة القاذف”، التي كانت تسبك مواسير ذلك القاذف من الحديد والنحاس في مدة بسيطة. وهي المواسير التي كانت تحتمل درجات الحرارة العالية لاحتراق “ملح نترات البوتاسيوم”، الذي هدم بدوره 40 قلعة صليبية في الشام خلال الحروب الصليبية.

كانت مقولة “البيروني” من أن: “سكون كل الأجسام هو معيار حركتها إذا ما تحركت”، هي التأسيس الحقيقي لعلم الميكانيكا، على اعتبار أن سكون جسمٍ ما، يعني أن مجموع القوى المؤثرة عليه يساوي صفر. ومن ثم فإن حركة نفس ذلك الجسم بعد سكونه، تعني حساب التغير الذي حدث في مقادير القوى المؤثرة عليه، فيما يشبه المعادلة الجبرية التي يبحث من يحلها عن اتزانها. ويبدو أن تلك الفلسفة الميكانيكية ذات المنشأ المسلم، هي ما أدت -مع التطوير والابتكار- إلى تطوير الطائرات التي تصل سرعتها ضعف سرعة الصوت (2 ماخ). ويبدو أيضًا أن صناعة أول محرك نفاث في العالم (501 ي) الذي جرى تركيبه على الطائرة الروسية المقاتلة “ميج 21″، كان الناتج الطبيعي لتصميمات “زين الدين الغزنوي” في القرن الخامس الميلادي، وهي التصميمات الخاصة بكيفية صناعة محرك يحوي ستة تروس تدور بنظام “ملء التروس”، لأجل تسريع ضخ المياه من نهر “سايحون” الذي يجري في وسط آسيا المسلم، لري مزرعة عنب كان “زين الدين الغزنوي” يمتلكها في قضاء “ترمذ” التابعة حاليًّا لدولة أوزبكستان، حيث إن المحرك (501 ي) يعتمد مع تصاميم أخرى حديثة، نفس تصميم آلة الري التي صممها “زين الدين الغزنوي”، حيث يحوي تلك التروس الستة بنفس تصميم “الغزنوي”، لدفع الوقود من داخل ذلك المحرك النفاث بسرعة كبيرة تؤدي لمضاعفة سرعته لضعف سرعة الصوت.

لقد اعتمد علماء فترة الثورة الصناعية القانون الخوارزمي الخالد، من أن معامل السرعة يخضع لعاملين رئيسيين هما الزمن والمسافة، ومن ثم فإن تصميم “جيمس واط” الإنجليزي للآلة البخارية عام 1743م، ارتكز على معامل السرعة الذي وضعه “الخوارزمي” قبل ألف عام من اختراع الآلة البخارية التي غير تركيبها شكل العالم من الناحيتين الاقتصادية والحضارية، لأن فلسفة تركيب الآلة البخارية هي إخضاع سرعة عملها للزمن والمسافة فقط. وكان اكتشاف “جيمس واط” لوحدات “الوات، والحصان” ومن بعده “نيقولا تسلا” الإيطالي لوحدات “تسلا، والأمبير”، مجرد إعادة اكتشاف لقوانين السرعة التي وضعها “الخوارزمي” قديمًا.

إن صناعة الآلة البخارية في القرن الثامن عشر، ارتكزت على اكتشاف علماء الميكانيكا المسلمين لقوانين الموافقة بين الزمن والمسافة، وهي قوانين الحركة الدائبة كما سماها “نيقولا تسلا” أبرز مخترعي القرن العشرين. وكان من شأن اكتشاف علمائنا القدامى لتلك القوانين أن طوروا كثيرًا من الآلات الميكانيكية، التي لم يخرج تركيب أغلب المحركات الحديثة عنها، حيث إن المحرك البخاري الذي اخترعه “جيمس واط” قد ركبه أساسًا عالم يدعى “محمد أبو الفتوح الحلواني الدمشقي” في خضم الحروب الصليبية. وكان ذلك المحرك يشغل أبواب ونوافذ البرج المدرع النقال الذي كان يقل الجنود الصاعدين درجات ذلك البرج لمهاجمة حصون الفرنجة المنيعة. وكان ذلك البرج قد صمم زمن “الظاهر بيبرس” لمهاجمة قلعة طرطوس الصليبية المنيعة. وكان تركيب “أبو الفتوح الدمشقي” لذلك البرج المدرع يدعو للدهشة؛ حيث تكوَّن من مائة وثلاثين درجة سلم، وكان مصنوعًا بكامله بارتفاع 12 مترًا من الحديد المسبوك مع النحاس، وكانت نوافذه تفتح آليًّا للجنود بواسطة منظومة تتركب من مائة وخمسين ترسًا، قطر الترس الأساسي فيها خمسة أمتار، ويعمل بنظام “ملء التروس” مثل لعب الأطفال في وقتنا الحالي مع فارق الجهد الذي يجري توليده. ومن عجائب ذلك البرج أن نوافذه الستة التي ينطلق منها الجنود المهاجمون إلى داخل الحصن، كانت تفتح آليًّا في نفس اللحظة بنفس قوة الدفع الرباعي الحالي في السيارات ذات السعة اللترية الكبيرة كسيارات الجيب العسكرية. بمعنى أن المنظومة الآلية التي تفتح تلك النوافذ بشكلٍ آلي، كانت تعمل بقوة دفع تبلغ وفق المقاييس الأوروبية الحديثة أكثر من مائة وخمسين حصانًا، وهي نفس قوة دفع سيارات الدفع الرباعي. كما كان البرج يضم بين تلك التروس كرنكًا “ناقل حركة وسرعة” لتسهيل تشغيله تمامًا مثل “القاطرة البخارية” التي اخترعها “ستيفنسون” في القرن التاسع عشر.

ويمكن القول إجمالاً، إن الـ 120 آلة التي اخترعها علماء الحِيَل (الميكانيكا) المسلمون، كانت تشمل محركاتٍ كتلك التي نستعملها اليوم وإن كانت تدور بطاقات طبيعية كطاقة الرياح والملء التروسي اليدوي. كما أن منظومة المحرك البخاري الذي صممه “جيمس واط”، والمكونة من “الكرنك” و”الرداخ” (منظم ضخ الوقود للمحرك) وأيضًا المولد “البطارية”، كانت اكتشافًا أصيلاً لـ”زين الدين بن عبد الحق الغزنوي”. وأيضًا فإن تطويرات الشيخ “حسن الجبرتي” لـ”آلة الفراكة” في القرن الثامن عشر -وهي الآلة التي تكونت من 25 ترسًا كل ترسٍ فيها يقل قطره عن الترس المحرك له بمقدار 2 ملليمتر- كانت كفيلة بجعلنا على عتبة ثورة صناعية كادت تتزامن مع الثورة الصناعية الأوروبية. وما بين تطوير “حسن الجبرتي” لـ”آلة الفراكة” التي كانت تبيِّض الأرز بعد حصاده، وتطويره لمحرك يدوي لماكينة ري لبساتين الأمراء المماليك في إقليم الجيزة المصري.. فإنه قطع شوطًا هائلاً في الميكانيكا بالتزامن مع اكتشاف المحرك البخاري.

فقد كانت ماكينة الري التي ابتكرها “حسن الجبرتي” لري بساتين الأمراء المماليك بالجيزة، نادرة ذلك العصر، إذ كانت منظومة ري لأربعة آلاف فدان مزروعة بساتين في منطقة الجيزة، وكانت عبارة عن مضخة عملاقة تضخ المياه من النيل مباشرة إلى قناة ري يصل طولها ثلاثة فراسخ (17 كيلومترًا تقريبًا) بطاقة ضخ 8 أمتار مكعبة في الدقيقة. وهي منظومة ري لم يتوصل إليها أحد في أوروبا أو أميركا، سوى بعد منتصف القرن التاسع عشر، حين تمكن مهندس أميركي من ولاية تكساس، من تطوير ماكينة ري بخارية قريبة في طاقتها التشغيلية من التي صممها “حسن الجبرتي” قبل مائة عام. بينما كانت ماكينة “حسن الجبرتي” تعمل بنظام “ملء التروس”، وكانت تشمل في تكويناتها قطعة تشبه في فكرتها محرك الطائرة النفاثة، حيث إن فكرة المحرك النفاث هي تحقيق السرعة القصوى في حرق وقود الكيروسين بأقل نسبة من انبعاث ثاني أكسيد الكربون، بما يوفر سرعة تفوق سرعة الصوت. بينما كانت تلك القطعة عبارة عن “بريمة” تدار بواسطة ترس ضخم قطره أربعة أمتار، وكانت تلك “البريمة” العجيبة التأثير، تدير بدورها مجموعة من التروس التي ترفع المياه وتضخها من نهر النيل إلى تلك البساتين عبر القناة المائية السابق الإشارة إليها. ومن العجيب أن تلك “البريمة” أدت  لمضاعفة قوة ضخ الماكينة بفعل تصميمها المبتكر، الذي جعل كل تروس الماكينة تتفاوت في قطر الواحد منها بمقدار ملليمتر واحد عن الترس الذي يليه، بما أدى إلى زيادة قوة ضخ تلك الماكينة للماء بفعل إدراك “حسن الجبرتي” أن التفاوت البسيط بين قطر كل ترس والترس الذي يليه، كفيلٌ بمضاعفة قوة ضخ تلك الآلة للمياه بفعل “قانون الثبات الإستاتيكي” الذي اكتشفه “حسن الجبرتي”، والذي ينص على أن “مضاعفة الطاقة التشغيلية لتروس أي آلة، يمكن من خلال الضبط الدقيق لأقطار كل ترس، بحيث إن قلة قطر كل ترس عن الترس الذي يليه بنسبة متساوية، كفيلٌ وحده بمضاعفة الطاقة التشغيلية للآلة التي تحوي تلك التروس بنسبة 10 بالمئة إذا بلغ عدد تلك التروس 12 ترسًا، وبنسبة 20 بالمئة إذا بلغ عددها 24 ترسًا”.

(*) كاتب وباحث مصري.

المراجع

(1) مخطوطة “المفصحة فيما يتعلق بالأسطحة”، للشيخ حسن الجبرتي.

(2) أبحاث عن الطائرة السوفيتية “ميج 21″، موقع سبوتنك عربي.

(3) الثورة الصناعية، لـ”كارلتون جوزف هنتلي” (1882-1964م)، ترجمة: عبد الباقي أحمد، بغداد، مطبعة العاني (1950م).