الإسلام ضدَّ ما انتـشر من ثـقافة الانتحار، لأن الإنسان بنيان الله الذي خلقه بيده، وسوَّاه على صورته، ونفخ فيه من روحه، وأمدَّه بنعمه.. فنهى عن قتـل النفس قائلاً: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء:29)، ونهى عن قتل الآباء أبناءهم لوقوع الفـقر المدقع، فـقـدَّم رزق الآباء على الأبناء؛ لتطمئن النفس إلى رزقها، قال تعالى: (وَلَا تَـقْـتُـلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) (الأنعام:151)، كما نهى عن قتل الآباء أبناءهم خشية وقوع الفقر مستقبلاً فـقـدَّم رزق الأبناء على الآباء؛ لتوقن النفس بمصاحبة الرزق للأجل، قال تعالى: (وَلَا تَـقْـتُـلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) (الإسراء:31). كذلك نصَّ القرآن الكريم على حرمة النفس الإنسانية، فأنزل الواحدة منها منزلة الجميع؛ تـأكيدًا على هبة الحياة التي يجب أن نحافظ عليها ونشكر واهبها، قال سبحانه: (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي اْلأَرْضِ فَـكَأَنَّمَا قَـتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَـكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة:32).
ومن سماحة الإسلام حماية الذِّمِّي إذا استجار بالمسلم، يقول تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُـشْرِكِينَ اسْـتَجَارَكَ فَـأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُـمَّ أَبْـلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَـوْمٌ لَا يَعْـلَمُونَ) (التوبة:6)، فهذا عـقـد استـئمانٍ به تُصان نفس إنسانية، وبه يُـفتح باب من أبواب الدعوة إلى الله. وقـد وجَّه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى توسيع دائرة تـأمين الناس؛ فـفي فتح مكة أعطى الأمان لمن لزم بيت الله الحرام، ولزم داره، بل إنه جعل مَن دخل دار أبي سفيان آمنًا، ولم يكن حينها قـد دخل الإسلام بعدُ، لكنَّه كان زعيم مكة وينزل القوم في جواره، فلم يحرمه من هذه الزعامة وأمَّـنهم بهذا الجوار.
فـلقـد مدَّ الإسلام بساط العفو إلى منتهاه، وصاغ القرآن الكريم له من الأدبيات ما يصلح أن يكون دينًا للمسلمين، وخُلُـقًـا إنسانـيًّا لغير المسلمين.. فالخالق تبارك وتعالى يدعو خلقه إلى تـفويض أمورهم إليه فيقول: (وَأُفَـوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر:44)، ويقول سبحانه وتعالى: (إِنَّمَا أَشْكُو بَـثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْـلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَـعْـلَمُونَ) (يوسف:86). ويكون التفويض ملحًّا حال الخصومة؛ لذا يدعو الله عباده إلى العدل أو الصبر، قائلاً: (وَإِنْ عَاقَـبْـتُـمْ فَـعَاقِـبُوا بِمِثْـلِ مَا عُـوقِـبْـتُـمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَـرْتُـمْ لَهُـوَ خَيْـرٌ لِلصَّابِرِينَ) (النحل:126)، كما يدعوهم سبحانه وتعالى إلى العدل أو العفو، يقول: (وَجَزَاءُ سَـيِّـئَةٍ سَـيِّـئَةٌ مِثْـلُهَا فَمَنْ عَـفَا وَأَصْـلَحَ فَـأَجْرُهُ عَـلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40)، كذلك يدعو مَن ليسوا طرفًا في صراعٍ أن يسعوا لإصلاح ذات البَـيْـنِ وإقامة العدل بين أطراف الخصومة، يقول سبحانه: (وَإِنْ طَائِفَـتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْـتَـتَـلُوا فَـأَصْـلِحُوا بَـيْـنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَـلَى الْأُخْرَى فَـقَاتِـلُوا الَّتِي تَـبْـغِي حَتَّى تَـفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَـأَصْـلِحُوا بَـيْـنَهُمَا بِالْعَـدْلِ وَأَقْـسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9). ولعل قـمة التسامح تـتجلى في التوجيه القرآني بأن يتذكر المخالِفُ الحسنَ من ماضي مخالِفه، وأن يعفو عن القبيح الذي بَدَرَ منه: (وَلَا تَـنْسَوا الْفَـضْلَ بَـيْـنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَـعْـمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:237).
كما تـعـدُّ فلسفة الجزية وجهًا كاشفًا عن سماحة الإسلام، حيث تمثِّـل صونًا لحقوق غير المسلمين، بالدفاع عنهم وحمايتهم سلمًا وحربًا.. وما كانوا يدفعونه من ضريـبة حينها فمقابلٌ لعدم انضمامهم إلى جيوش الفتح الإسلامي، وعدم مشاركتهم في الفتوحات والغزوات، ولمَّا تغـيرت الظروف تطـورت الأحكام، وصار غير المسلمين ينضمون إلى الجيوش ويشاركون في الحروب، أي يشاركون في الدفاع والحماية فسقطَتْ عنهم الجزية. وكثيرًا ما تطـورت الأحكام الفـقهية نظرًا لتغـير الزمان والمكان والأحوال، مثـل عتـق الرقبة، إذ لم يَـعُـدْ هناك عبيدٌ لتحريرهم، وأقـرَّتْ معظم دول العالَم في العصر الحديث اتفاقيات للقضاء على الرقِّ؛ حتى تصير عبودية الإنسان لخالقه وحده فيتمتع بحريـته.
ومن سماحة الإسلام أن يجتمع الخصوم على مائدة الجدل والمناظرة بين من يدينون بالإسلام الخالص ومن يكفرون به، يقول تعالى: (قُـلْ يَا أَهْـلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَـيْـنَـنَا وَبَـيْـنَـكُمْ أَلَّا نَعْـبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْـئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْـضُـنَا بَعْـضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَـوَلَّوْا فَـقُـولُوا اشْهَـدُوا بِأَنَّا مُسْـلِمُونَ) (آل عمران:64)، فـ”السواء” من المشترك اللفظي، إذ يتعاور على اللفظة الواحدة عـدَّة معانٍ تحددها السياقات المتـنـوعة، و”الكلمة السواء” هي العدل وتعني كلمة التوحيد وفـقًـا لسياق المناظرة في الآية الكريمة.
ويحترم القرآن الكريم النتـيجة أيًّـا كانت، فإن أفضت المناظرة إلى اتباع الجميع قـبلة الإسلام وكلمة التوحيد، فـقـد تحقَّـق المبتغى، وإلا فليذهب كلُّ فريق إلى دينه الذي اتَّـبعه، يقول تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون:6). فمن سماحة الإسلام أن أطلق على ما خالفه دينًا، من قبيل احترام حرية الإنسان في اختيار معتـقده، والله وحده هو الذي سيحاسب عباده عن سليم العقيدة وسقيمها. مثلاً، حول الإيمان بالقرآن الكريم يقول سبحانه وتعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّـكَ أَعْـلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَـقُـلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) (يونس:40-41)، ويقول تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْـوَ أَعْـرَضُوا عَـنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْـمَالُـنَا وَلَكُمْ أَعْـمَالُـكُمْ سَلَامٌ عَـلَيكُمْ لَا نَـبْـتَـغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55).
فإننا مأمورون بالتسامح وقبول الآخر، حيث أمرنا القرآن الكريم بالإحسان إلى مطلق البشر، ابتداءً بالقول في قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْـنًا) (البقرة:83)، ومرورًا بجدل المعاندين في قوله تعالى: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125)، وانتهاءً بمجانبة الجاهلين: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) (الفرقان:63).
ولقـد لمسنا سعةً فكرية في شتى العلوم الإسلامية بدءًا من تـفسير القرآن الكريم، حيث انتظمَتْه مدرستان كبيرتان هما “التـفسير بالمنقول” أو بالمأثور؛ لأنه يقوم على الرواية، و”التـفسير بالمعقول” أو بالرأي، أي الاجتهاد؛ لأنه يقوم على الدراية. ويجب علينا أن نفـرِّق بين الأمور المطلقة كمسائل العقيدة؛ فوحدانية الله سبحانه، لا جدال فيها ولا يتطرق إليها شك، وهي فوق المناقشة، والأمور النسبية كمسائل الفـقه، التي تُعنى بمصالح الناس ويتدارسها الفـقهاء بحثًا عـمَّا ينفعهم.. وقـد تـأسس التراث الإسلامي على رحابة التعـددية في الآراء والرؤى، حيث نشأت عشرات المذاهب الفـقهـية ولكن انمحى أثر الكثير منها؛ إما لعدم خدمتها بالتــأليف، أو لعدم سفر أئـمـتها إلى البلدان المختـلفة لنشر المذهب، أو لشدة اختلاف أتباع المذهب حتى ضاعت معالمه.. وغيرها، وبقيت المذاهب الفقهية الأشهر (المالكية والحنفـية والشافعـية والحنبلـية)، وبعدها المذاهب الشهيرة (الزيدية والاثنا عشرية والإباضية والظاهرية). كذلك في المدارس الفكرية بين ما يمثِّـل السُّـنة كـ”الأشعرية والماتريدية”، في مقابل “الشيعة”، خلافًا لـ”المعتـزلة”، أو ما يمثِّـل “الاتجاه السلفي” خلافًا لـ”الاتجاه الصوفي”.. وقـد تعـدَّى الاختلاف والتنوع إلى علوم العربية التي تخدم الشرع، منها النحو الذي قام ابتداءً على “المدرسة البصْرية”، وتلتها “المدرسة الكوفـية”، ثـم تبعتْهما تجمع بين آرائهما ثلاث مدارس كبيرة، هي البغدادية والمصرية والأندلسية.
لذا امتازت العقلـية الإسلامية بالمرونة، فمن القواعد الأصولـية أنه لا يُـنكر الخلاف في المختـلَف فيه، وإنما يُـنكر الخلاف في المتفَـق عليه كالصلاة مثلاً، ومن ابتُــلي بشيء من المختـلَف فيه ولم يستطع تحقيق المسألة، فليقـلِّـد من أجاز؛ لأن القدرات العقلـية لدى الناس تـتـفاوت، كما يتـفاوت ما درجوا عليه وفـق مرجعياتهم الاجتماعية والثـقافـية، والخروج من الخلاف مستحَبٌّ، لأن الأصل هو الوحدة واجتماع الكلمة وارتصاص الصف وعدم شقِّ العصا. وهو تراثٌ تـليدٌ في شتى العلوم الإسلامية، يحظى بآداب الاختلاف وأدبياته من حيث التـنوع والتـكامل.
ومن حرية المعتـقَـد سنجني تـزكية النـفس الإنسانية، وتحليتها بالفضائل وتخليتها من الرذائل، مما يعمل على ضبط منظومة القيم في المجتمع، إذ لا تضيـيـق على دينٍ، ولا حَجْرَ على رأي، ولا قصف لقلم.. من هنا تكون عمارة الكون الذي خلقه الله على هيئة الصلاح، وجعل الإنسان مستخلَـفًـا فيه. أمَّا عاقبة الإنسان الذي تمتع بحرية الاختيار، فـقـد أجملها قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْـيَهُ سَوْفَ يُـرَى * ثُـمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّـكَ الْمُـنْـتَهَى) (النجم:39-42)، والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يضع تـقوى الله معيارًا للمفاضلة بين البشر، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا عكس ذلك إلا بالتقوى. فيجب على النفس أن تشكر عطاء الربوبية الذي منحه الله لكل مخلوق، وأن تـتطلع لعطاء الألوهـية الذي خص الله به من أطاعه، فكل عمل وفـقًا لنية صاحبه، ولا يطَّلع على الـنـيات إلا بارئ القلوب.. وعلينا أن نأخذ بالظواهر والله يتولى السرائر، فليس بمقدور أحد أن يشق عن صدر أحد، أو أن يفـتـش في مكنون نفسه، ولعل قبول الأعذار بين البشر من حسن العشرة.
ومما يضمن صلاح المجتمع استـقامة الحاكم، فلا يحكم في مُـلْـكِ الله مَـلِـكٌ إلا بأمره؛ لذا لا طاعة لمخلوق -مهما علا شأنه- في معصية الخالق جل شأنه. وقـد خلَّـد القرآن الكريم صور الجبابرة لتكون عظة قائمة، كما في قوله تعالى عن مصير فرعون: (فَالْيَوْمَ نُـنَجِّـيْـكَ بِبَدَنِكَ لِتَـكُونَ لِمَنْ خَلْفَـكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِـنَا لَغَافِـلُونَ) (يونس:92)، وقـد حكى على لسانه ادّعاءه: (أَنَا رَبُّـكُمُ اْلأَعْلَى) (النازعات:24)، وبانحرافه انحرفَتْ رعـيـته، قال تعالى: (فَاسْـتَـخَـفَّ قَـوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَـوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف:54)، كما حذَّر من مصير قارون وكنوزه: (فَـخَسَفْـنَا بِهِ وَبِدَارِهِ اْلأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِـئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُـنْـتَـصِرِينَ) (القصص:81). ولعل ما يحقِّـق استـقامة الحاكم ابتداءً، ثـم استـقامة رعـيته بالتـبعـية، هو تـقدير جلال الله: (وَمَا قَـدَرُوا اللهَ حَقَّ قَـدْرِهِ وَاْلأَرْضُ جَمِيعًا قَـبْضَـتُهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَـعَالَى عَـمَّا يُـشْرِكُونَ) (الزمر:67).
فمن الواجب علينا أن نحب الله عز وجل؛ فـقـد خلقنا بقدرته ورزقنا بقـيُّوميـته، وجعل أصلنا واحدًا هو آدمُ عليه السلام لنكون إخوة متحابّين، وأرسل أنبياءه ورسله إلينا تَـتْـرى: (أَفَـرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَـوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَـلَى عِـلْمٍ وَخَتَمَ عَـلَى سَمْعِهِ وَقَـلْبِهِ وَجَعَـلَ عَـلَى بَصَرِهِ غِـشَاوَةً فَمَنْ يَهْـدِيهِ مِنْ بَعْـدِ اللهِ أَفَـلَا تَـذَكَّرُونَ) (الجاثـية:23)، ولو أن الإنسان اتخذ إلهه هواه، أي جعل معبودَه محبوبَه، لكان ممدوحًا في سياق الطاعة؛ لأنه حينها سَيَمْثُـل لأوامر الدين الصحيح، لكن من تـقاديم الكلام، وأصل التركيب: اتخذ هواه إلهه، أي جعل رأيَه معبودَه، وهذا مذموم في سياق المعصية، لأن من نصَّب رأيه إلهًا واستبدَّ به هواه ضلَّ في ذاته وأضلَّ غيره. وعلينا أن نـنـتـبه إلى استـشراء موجة الإلحاد في العالَم، ويحذِّر الله عباده من المصير المحتوم، ليتحمَّـل كلُّ امرئ في الآخرة عاقبة اختيار معتـقـده بعدما تمتع بحريته في الدنيا، يقول سبحانه وتعالى: (قَالَ اهْـبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْـضُكُمْ لِبَعْـضٍ عَـدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِـيَـنَّـكُمْ مِنِّي هُـدًى فَمَنِ اتَّـبَعَ هُـدَايَ فَـلَا يَضِلُ وَلَا يَشَقَى * وَمَنْ أَعْـرَضَ عَـنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِـيشَةً ضَنْـكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِـيَامَةِ أَعْـمَى) (طه:123-124).
فكل من يعتـنق دينًا، يرى أنه الحق وأن غيره باطل، لكن القرآن الكريم أقام مناظرة عـقلـية عادلة، حيث قارن بين الفريقَيْن مستخدمًا (أو) التخيـير، ومرجعًا الأمر إلى أصله الأصيل الذي لا يُـقبل الاختلاف عليه وهو الله بوصفه خالقًا ورازقًا للجميع: (قُـلْ مَنْ يَرْزُقُـكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَاْلأَرْضِ قُـلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَـلَى هُـدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِـيـنٍ) (سبأ:24)، ولكن يجب ألا تُـتَّـخَـذ حرية المعتـقَـد تُـكَـأة للطعن في الذات الإلهية أو الإساءة إلى الجناب النبوي. ونحن المسلمين نقبل الاختلاف مع النصارى واليهود -مثلاً- لأنهم أصحاب شرائعَ سماوية مصدرها إلهي، ونطالب دومًا باحترام الأديان وعدم ازدرائها.
ومن التصدي الواجب أيضًا، الردُّ على شبهات المستـشرقين التي تُـثار بين الفَيْنة والفَيْنة، وتُـفتح لها بعض المنابر الإعلامية لإحداث بلبلة في المجتمعات الإسلامية، وتبدو قضايا جديدةً لكنها قضايا قـديمة يرويها ماء الفتـنة مما يستوجب الحذر، كالمقولة المغرضة “الإسلام انتـشر بحدِّ السيف!”. وممَّا يعبِّر عن إساءة فهم الحرية ويُعـدُّ حدًّا من هامشها في بعض مجتمعاتـنا الإسلامية؛ حظر بعض المدارس في بلادنا تعليم اللغة العربية.. وهي لغة كتاب الله تعالى وسنَّة نبيه الكريم وأتباعهما، ولأن الاختلاف هو سنَّة الله في خلقه، فلينظر المرء في رأيه الذي يراه صوابًا واحتمالـية أن يشوبه الخطأ، وفي رأي غيره الذي يراه خطأً واحتمالـية أن يشوبه الصواب، فكلٌّ مأخوذٌ منه ومردودٌ عليه إلا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم لأنه يوحى إليه. وإن وقع خلاف بين الناس فحلُّه بالتراضي وإلا بالتقاضي احترامًا للقانون، فحكم الحاكم يرفع الخلاف. كل ذلك في إطار دستورٍ أرساه القرآن الكريم، يحافظ على صورة الإسلام والمسلمين، يقول تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِـيـلِ رَبِّـكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِـظَةِ الْحَسَـنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبِّـكَ هُوَ أَعْـلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِـيـلِهِ وَهُوَ أَعْـلَمُ بِالْمُهْـتَـدِينَ) (النحل:125).
(*) كلية الآداب، جامعة بني سويف / مصر.