القسم الثاني: من تحليل الحجاج
لعل من أبرز السمات الواضحة والمؤشرات التي تؤكد بأن هذه القضية متطابقة مع نمط النوع الثاني للأحكام هي عدم استبعاد عنصر المفاجأة، كذلك أنها لا تسد باب الجدل ولا ترقى لدرجة الأحكام الثبوتية التي تتمتع بالسبق القضائي الذي يقتدى به، وهذا ما أكدته الآية كما سيتبين لك على النحو التالي:
الأمر الأول: اكتشف داود عليه السلام أنه فتن أي وقع ضمن خيارات تعذر عليه ترجيح أفضلها بسبب مؤثرات ملهية، قال سبحانه وتعالى {وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}.
الأمر الثاني: إن داود لم يكن يفضل أن تكون درجة حكمه بما هو دون الثبوت اليقيني والأفضلية لذلك استغفر ربه {فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ فَغَفَرۡنَا لَهُۥ ذَٰلِكَۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مأب}.
الأمر الثالث: التوجيه الإلهي:
إن الحقائق مصدرها الله وهو الضامن بأن يهدي عباده إليها، ومن باب أولى أنبياءه، وإن الله أرسل الرسل وأنزل الكتب لتكون هي الميزان ويعود الناس إليها وإن القرآن الكريم مصدر الحق والحقيقة وهذا ما دلت عليه الآيات في هذه القصة وغيرها، (یَـٰدَاوُۥدُ إِنَّا جَعَلۡنَـٰكَ خَلِیفَةً فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱحۡكُم بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَیُضِلَّكَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَضِلُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَابٌ شَدِیدُۢ بِمَا نَسُوا۟ یَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ) [سورة ص 26] وكذلك قوله تعالى: (كِتَـٰبٌ أَنزَلۡنَـٰهُ إِلَیۡكَ مُبَـٰرَكٌ لِّیَدَّبَّرُوۤا۟ ءَایَـٰتِهِۦ وَلِیَتَذَكَّرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ) [سورة ص 29] ولأن الرسل هم القدوة والقدوة ينبغي أن يكونوا في أعلى درجة الأفضلية فقد أمر الله رسوله كما في سورة النساء أن يحكم وفقًا لما يريده الله وفرق بين أن يقول له فاحكم بينهم بما ترى وبين أن يقول له فاحكم بينهم بما أراك الله فتأمل ذلك قال تعالى: (إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمًا) [سورة النساء 105].
ختامًا:
وإلى جانب كل ما ذكر نطرح سؤالاً إضافيًّا لغرض الخلاصة
ما الوقائع والحقائق التي ظهرت لداود عليه السلام بأنها تتعارض مع الوقائع والحقائق التي توصل من خلالها إلى النتيجة في حكمه؟
يتلخص الجواب بأمرين:
دلت هذه المناقشة ووفقًا لتلك الوقائع بأن الحكم ينطبق عليه سمة النوع الثاني
أي أن الحكم لم يحظ بدرجة الأفضلية، وأن المعايير التي اتبعها لا تتمتع بدرجة الوثوقية واليقين، كذلك لم تكن الظروف مناسبة ومتوافقة مع ما هو متبع.
لهذا فإن داود عليه السلام قدوة والقدوة لا يصلح إلا أن يكون ما يقوم به في أعلى درجة الأفضلية فهو يمثل إرادة الله، وهذا المبرر كافي أن يتراجع، وهذا الاجراء لا يخالف الرأي القضائي الذي يقول “إن هذا النوع من الأحكام ليس فيها ما يبرر الاعتراض عليه إلا من حيث درجة الأفضلية في حين مقابلتها بأحكام أخرى اعتمدت معايير أكثر دقة، أو وجود أدلة تعارضها“.
الأمر الأول: من الملاحظ أن منطوق الحكم توجه نحو تحديد القيمة للسؤال، هل سؤال الأخ للنعجة له قيمة وثمن أم أنه ساقط القيمة؟ فكل ما له قيمة وثمن فإنه ينعت “بالجيد والعادل أو الجميل أو الحقيقي أو الواقعي” وأما ما كان ساقطًا للقيمة فإنه ينعت “بالسيء أو الظالم أو القبيح أو الزائف أو الظاهري”.
ووفقًا لذلك فقد وقع داود عليه السلام بين أمرين القيم الكونية التي نصت عليها في المقدمة “احكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط” تلزمه أن يحكم بأن السؤال ظالم أي “ساقط القيمة” لأن القيم تقتضي أن يكون صاحب النعجة الواحدة له أن يتمتع بتحقيق ذاته وإن كان مقلًّا تقديرًا لخياره، مع وجود أخ له 99 نعجة وتسقط قيمته هذه في حال تعويضه أو تبادل أو أن يضعها تحت كفالته فسقوط قيمة السؤال أولى من سقوط القيمة الفردية لصاحب النعجة الذي يشترك مع أخيه بعدة روابط تفرضها الخلطة وهي على أقل اعتبار (الماء والمرعى والطريق والمكان التي تأوي إليه النعاج).
الأمر الثاني: القيم الملموسة تقتضي أن ينظر داود عليه السلام للمصلحة لكل منهما فربما يكون هذا العرض بطلب النعجة هو من باب حرص الأخ لمصلحة أخيه ولما فيه مصلحتهما، وكيف لا وقد “عزه في الخطاب” أي تقدم بخطاب فيه من الحجة ما لم يقدر على دفعه؟ فنحن هنا أمام خطاب والخطاب ليس فيه أي إكراه، ومقابلة القيمة الملموسة بالقيم المجردة فإن تمتع من له نعجة بوصف الخلطة مع الأخ الذي له تسع وتسعون نعجة، ليس إلا قيمة معنوية لا تحقق له شيئًا على أرض الواقع فنسبة ما تستهلكه النعجة من الماء والمرعى والطريق والمأوى ٩٩:١ / 1 ℅ هناك إشكالية أحدهم مالك والثاني ليس له إلا الوصف، فهناك مشكلة ربما المحافظة على النعجة وضمان الأخ بذلك جدير بالدراسة.
إذن فإن غياب القيم الملموسة والمفترضة هي التي تؤكد لداود عليه السلام أنه قد أهملها وخاصة في حين أن المدعى عليه جرت الوقائع، ولم يظهر منه ما يدل على سوء نيته فاعتقاد أن سؤاله يعكس صفة سيئة فيه ليس دقيقًا، بل لم يكن مهتمًّا بما سيؤول إليه الحكم، فلو كان طامعًا في النعجة لكان اعترض ولكن هي مبادرة حسنة فظهر في موقف الموافق وترك التقدير للقاضي.
تعريف ببعض المفاهيم وفقا ل “شاييم بيرلمان”:
الحِجاج: معناه البرهان أي اقتراح الرأي على الآخرين وتزويدهم بالأدلة الكفيلة بجعلهم يذعنون له.
الحجاج عند بيرلمان: هو دراسة التقنيات الاستدلالية التي تمكن من الدفع إلى تصديق العقول للدعاوي المعروضة عليها من أجل أن تقبلها أو تقويتها.
الخَطابة: تعرف الخطاب بالمفهوم الجديد بمفهوم مغاير تمامًا على المفهوم القديم الذي يعتمد البلاغة المتمثلة (جزالة المعنى، والمحسنات والبديع والبيان بأنه عبارة عن حجج موجهة إلى مستمع قصد إحراز تصديقه للدعوى المعروضة عليه فهو متعلق بأكمله بالمستمع الذي يسعى للتأثير فيه وهو يشترط أن يكون له محتوى وينطلق من قواسم مشتركة مفهومة للسامع ويأخذ صور متعددة كخطاب الأقناع والتيقن).
خطاب الإقناع: يتم باستعمال وسائل التأثير وباستغلال الجوانب العاطفية والتخييلية والعناصر الذاتية والشخصية للمستمع ويكون غاية همه التوصل إلى نتيجة ناجعة.
خطاب التيقن: يعني الحصول على تصديق المستمع بالاستدلال بحجج تخاطب العقل، وذلك لا يتم إلا بعزل الحجج عن المؤثرات والتدقيق في العبارات الغامضة، ويتسم الخطاب المتيقن بأنه يخاطب الكل فالحقائق محايدة أي أنه موضوعي بينما الإقناع خطاب خاص فهو ذاتي.
………
الهامش:
-1الامبراطورية الخطابية صناعة الخطاب والحجاج / شاييم بيرلمان
ترجمة وتقديم وتعليق / د. الحسين بنوهاشم
دار الكتاب الجديد المتحدة / الطبعة الأولى يناير 2022 م
2- مصدر سابق ص106
3- انظر ص95 المصدر السابق.
-4 المصدر السابق ص69
مزيد من المراجع:
-1 أنظر: الحجاج في التواصل /فيليب بروطون
ترجمة محمد ميشال و/ عبد الواحد التهامي
المركز القومي للترجمة والنشر 2006
2 -انظر: نظرية أفعال الكلام العامة كيف تنجز الأشياء بالكلام
تاليف / أوستين / ترجمة / عبد القادر قينيني / إفريقيا الشرق للطباعة
3- الأعمال اللغوية بحث في فلسفة اللغة