ذات يوم دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه برفقة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، فقامت وجاءت بإناءٍ من لبن لتضيفهم، وبدأت بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ النبي الإناء فشرب، وابن عباس طفل لم يبلغ الحلم بعدُ، بينما كان خالد رجلاً في زهرة كهولته (1). كان يجلس على يمين النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وعن شماله خالد بن الوليد رضي الله عنه، فلما شرب النبي من الإناء نظر إلى ابن عباس عن يمينه وقال: “الشربة لك فإن شئت آثرت بها خالدًا”، فقال عبد الله بن عباس: “ما كنت أوثر على سؤرك أحدًا يا رسول الله”.
هذا المشهد يُظهِر مدى حفاوة النبي صلى الله عليه وسلم بالأطفال، ومدى تقديره لهم، وكيف كان يُنزلهم منزلة الكبار، ويعاملهم معاملة الرجال، وكان إذا ما قابلهم جاملهم ولاطفهم وكأنهم رجالٌ كبار؛ ويحمل بعضَهم على ظهره، ويأخذ الآخرين في حضنه، ويعاملهم بالتساوي، وإذا ما مرّ عليهم في الشارع وهم يلعبون نظر إليهم بإكبار، وعاملهم بوقارٍ وبادرهم بالسلام، فكانوا يردّون عليه بدورهم قائلين: “وعليكم السلام يا رسول الله”.
وكان رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه، يقدّرهم ويبجّلهم كثيرًا، فإذا ما وعد أحدَهم وعدًا كان يفي به في حينه وأوانه وكأنه عاهد إنسانًا كبيرًا.
إن إعطاء الطفل حقّه وقبول الحق منه، يغرس في نفسه شعورًا إيجابيًّا نحو الحياة، ويتعلم أن الحياة أخذٌ وعطاءٌ. كذلك فإنه تدريب للطفل على الخضوع للحق مهما كان صاحب الحق صغيرًا أو لا يستطيع أن يطالب بحقّه على الوجه الأمثل.
وإنّ تَعوُّدَ الطفل على العدل في قبول الحقّ، وعلى الرضوخ له، ليفتح طاقته وأفقَه في التعبير عن نفسه ومطالبته بحقوقه، وعكس هذا يؤدي إلى كبتها وضمورها. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن غلامًا على يمينه لكي يتنازل عن حقّه ليعطيه للكبير الذي على يساره، فإذا بالطفل لا يؤثر سؤر رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه لأحدٍ أبدًا، فيعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء ليشرب ويهنأ في الاستمتاع بحقه.
قد يسأل سائل ههنا، كيف دخلوا على زوجة رسول الله وقامت بضيافتهم ولم تضرب بينها وبين الصحابة ستارًا؟ والجواب طبعًا هو أن ابن عباس هو ابن خالة خالد ابن الوليد، فابن عباس أمه هي أم الفضل لبابة الكبرى بنت الحارث الهلالية، وخالد بن الوليد أمه هي لبابة الصغرى بنت الحارث الهلالية، وأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية هي أخت هاتين اللبابتين، وبذلك فتكون ميمونة خالةَ كلٍّ من خالد وابن عباس رضي الله عنهما.
من الأمور التي تعدّ وصمة عار على جبين الإنسانية، فقدانُ الناس ثقتهم ببعضهم؛ فقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدِّد دائمًا على الثقة والأمانة، وكان صلى الله عليه وسلم رمزًا لذلك عند الصغار كما الكبار.. كان الجميع يدعوه “الصادق الأمين”، ولا شك أنّ الأمة التي يشكلها مثل هؤلاء ستغدو أمينةً أيضًا.
فضلاً عن ذلك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ الله لا يَرْحمُ مَن لا يَرْحم ولده“(2)، يدعو أمّته أن يكونوا رجال قلب، فيوصيهم بوصايا عديدة معناها الإجمالي: أحِبُّوا أولادكم، وأوفوا بعهودكم معهم مهما آلت إليه الظروف، فلا يروا منكم تناقضًا بين أقوالكم وأفعالكم. والرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الوصايا يشير إلى أسمى النقاط المثالية في التربية.
وهنا نشير إلى حديث مهم في هذا الباب:
فعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه أنه قال: دعتْني أمي يومًا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا، فقالتْ: ها تعال أُعطِكَ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وما أردْتِ أن تُعطيه؟” فقالت: أعطيه تمرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أمَا إنكِ لو لم تعطِه شيئًا كُتبتْ عليكِ كِذْبةٌ” (رواه أبو داود)، وهذا التصريح يبيّن مدى الخطإ الذي نقترفه عندما نقول: لا ضير في الكذب على الطفل أو خداعه، فهو مجرّد طفل.
إن كل خداعٍ أو قولٍ يناقض الواقع، يترسّخ كالبذرة في ذهن الطفل، ثم يغدو يومًا ما -اليوم أو غدًا- كشجرة الزقوم؛ ومن ثمّ لا يجدي كل ما بذلتموه من جهودٍ تربوية. فلا بد أن يتحرّى الأبَوان الاستقامة على الدوام، ولا بد أن تكون من مبادئ أرباب الصراط المستقيم انسيابية الصدق من بين أفعالهم.
أجل، عليكم ألا تسمحوا بأن ينظر الطفل إليكم على أنكم كاذبون، تنقضون العهود، وتطمعون في عرض الدنيا الزائف، بل يجب أن يلمس فيكم ويتعرف من خلالكم على الدوام على خصال الإيثار والتصدق والإيمان والسلام والصبر والخشوع والعفة.
ثم يجب علينا أن نعلّم أطفالَنا ما يجب أن يعرفوه، وأن نجنّبهم من المعلومات ما يجب أن يجتنبوه. لا بد أن يتعرفوا على المسائل التي تعينهم في حياتهم القلبية والروحية، ويتشبّعوا بالعلوم النافعة حسب سنّهم ومستواهم.
وكما تلجؤون إلى طبيب الأطفال في مسألة تغذية الطفل؛ ليضع لكم نظامًا تسترشدون به في تغذيته الأسبوعية والشهرية والسنوية، فكذلك عليكم أن تلجؤوا إلى أهل العلم والاختصاص في تربيته وتعليمه، وتعرِضوا عليهم حالة ولدكم وتستعينوا بآرائهم، كأن تقولوا: لديّ طفلٌ في الخامسة من عمره، فماذا عليّ أن أفعل تجاهه؟ أو لدي ابن في العاشرة أو الخامسة عشرة من عمره، فماذا يمكنني أن أفعل معه؟ وهكذا يجب أن يكون كلّ موضوع مقيّدًا بأفكارهم وآرائهم.
أجل، على كل الآباء والأمهات أن يلجؤوا إلى أهل الاختصاص ويأخذوا الوصفة منهم، ويجتهدوا في تربية أبنائهم وفقًا لهذه الوصفة والمبادئ التي تحتويها.
وعلى سبيل المثال، فإن تحديثكم أبناءكم عن الله تعالى بلا سندٍ أو دليلٍ وقد بلغوا سنَّ الثانوية، قد لا يُنتِجُ سوى كفرهم وإلحادهم والعياذ بالله.. ففي هذه المرحلة العمرية يجب أن تتداخل العلوم الدينية مع قدرٍ من العلوم الطبيعية، حتى يجدي حديثكم بالتأثير المرجوّ في أنفسهم. فقد نما عقل الطفل وتحوَّل من مرحلة التلقين إلى مرحلة الاستيعاب، وعليكم أن تواكبوا هذا النموَّ والتحوّل الطبيعي، فتُشبِعوا نهمه المعرفي بمعلوماتٍ عن الله والكون أكثر عمقًا من تلك المعلومات التي كنتم تلقنونها له وهو في الابتدائية.
وكذلك إن حاولتم تلقينهم بعض العلوم الفلسفية وهم لا يزالون في المرحلة الابتدائية، فلا ريب أنكم ستشوّهون أفكارهم كليّةً. ومن ثمّ عليكم أن تكونوا كالأطباء الحاذقين في معاملتهم مع مرضاهم؛ وتقدّروا مستوى أولادكم وظروفَ عصرهم ومحيطَهم الثقافي، ثم تزوّدوهم بالمعلومات اللازمة وفقًا لهذه الأمور.
إعطاءُ الأبناء حقوقهم
من الوظائف الأولية للأبوين تسميةُ الطفل باسمٍ حَسَنٍ محبّب إليه، وذلك في إطار وصايا الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، حيث أولى صلى الله عليه وسلم أهمية خاصة لتسمية الطفل فقال: “تَسَمَّوْا بأسماء الأنبياء، وأَحَبُّ الأسماء إلى الله عبد الله، وعبد الرحمن، وأصدقُها حارثٌ وهَمَّام، وأقْبَحُها حرْبٌ ومُرَّة” (رواه أحمد)، وغيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم “عاصية” وقال: “أَنْتِ جَمِيلَة” (رواه مسلم).
وبعد ذلك يأتي حقّ الرضاعة، ثم التكفّل بنفقة الطفل عند الفطام، والتعهد بتربيته.
ومن خلال هذه الأسماء أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُشير بإشارة لطيفة، وهي أن نسمي أولادنا بالأسماء الجميلة، وأن نبتعد عن الأسماء القبيحة.. وأن نلقّب أبناءنا ألقابًا تدعوهم إلى الرفعة وتمنحهم الثقة بالنفس.. ونهانا عن تسميتهم بأسماء قبيحة وحذَّرَنا من الأسماء التي قد تنذر بشؤمٍ أو قد تكون مهينة لحاملها.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكو إليه عقوق ابنه، وبعدما استمع الخليفة الراشدي إلى الوالد “المفجوع” بخلق ابنه، أحضر -أميرُ المؤمنين- ذلك الولد وأنبه على عقوقه لأبيه، لكن الأمر لم ينته عند ذلك، فقد كان تحت لسان الولد كلام وهموم وأوجاع، فقال ذلك الابنُ المُشتكَى عليه لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين أليس للولد حقوق على أبيه؟
أجابه عمر: بلى.
فسأل الولدُ خليفةَ المسلمين سؤال العارف قائلاً: ما هي يا أمير المؤمنين؟
قال عمر: أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلمه القرآن.
هنا انتفض الولد، وأخرج ما في بطنه من كلام، وقال: يا أمير المؤمنين إن أبي لم يفعل شيئًا من ذلك؛ أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي قبل أبي، وقد سماني “جُعَلاً” (أي خنفساء)، وفوق هذا وذاك، فإن أبي لم يعلمني من القرآن حرفًا واحدًا.
وبعد هذه المداخلة، تحولت دفة المحاكمة لمصلحة الولد “المفجوع” بوالده، فما كان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينذاك، إلا أن التفت إلى الرجل وقال: “جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك”.
ومن هنا يضع الفاروق عمر مفهومًا جديدًا علينا أن نتلقّفَه بالفهم والتقدير، وهو كما أن هناك سلوك يسمّى عقوق الأبناء بأبويهم، وهو ما يُطلَقُ عليه عقوق الوالدين؛ فكذلك هناك عقوق عكسي، ألا وهو عقوق الأبوين لأبنائهم، ويتجلّى في حالة تقصير الأبوين في حقوق أبنائهم.
فهل حاكمنا أنفسنا قبل أن نُحاكم أولادَنا؟! هل قمنا بواجباتنا تجاه أبنائنا قبل أن نطالبهم بالقيام بواجباتهم تجاهنا؟! فالعقوق عقوقان؛ عقوق الأبناء لأبويهم، وعقوق الأبوين لأبنائهم.
(*) كاتب وباحث سوري.
الهوامش
(1) فخالد بن الوليد وُلِد في عام 30 قبل الهجرة، بينما عبد الله بن عباس وُلِد في العام الثالث قبل الهجرة، فخالدُ بن الوليد يَكبُر ابن عباس بسبع وعشرين سنة تقريبًا. والنبي تزوّج من السيدة ميمونة بنت الحارث في عمرة القضاء في السنة السابعة للهجرة، وهذا يعني أن عمْرَ خالد بن الوليد في هذه الحادثة لا يقل عن 37 سنة، بينما عمر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قرابة عشر سنوات.
(2) مسند البزار: 12/14.