هناك من الوقائع التاريخية لا تحدث إلا مرة واحدة ولا تتكرر، وميلاد خير البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ميلاد أمة وإزالة ظلمة. حدثٌ فريد بل ومعجزة فائقة لم يتكرر، ولن يتكرر، على مر التاريخ والأزمان، الحديث هنا لا يُرَكِّزُ على واقعةِ ميلادٍ مجردة، أو الحياة العادية أو التي تتشابه مع العناية الإلهية التي أُحيطَتْ بالأنبياء، وإنما يهدف إلى لفت الانتباه إلى التميز الفريد والخصوصية العظيمة التي ميز الله بها رسوله محمد على سائر الأنبياء، وكان هو خاتمهم، وهذا يقود العقل إلى النظر والتفكير في حال العالم قبل الميلاد وحالهم بعد الميلاد وحتى يومنا هذا، فحال غالبية البشرية قبل ميلاد الحبيب المصطفى كحال الميت تكتسيه الظلمات، فكان ميلاد الحبيب المصطفى إيذانًا لحياة القيم الإنسانية وفاعليتها قال عز وجلَّ: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾[الأنعام: ١٢٢] يَعْنِي بِالنُّورِ: الْقُرْآنَ، مَنْ صَدَّقَ بِهِ وَعَمِلَ بِهِ، ومن نطق به وحمله هو محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} يَعْنِي بِالظُّلُمَاتِ: الْكُفْرَ وَالضَّلَالَةَ.
ولأن ميلاد المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إنما هو ميلاد الرسالة الخالدة التي هي ثمرة الرسالات كلها وهدى للبشرية كلها على مدى الدهر فقد دلت الحوادث كلها وتقلبات الدهر بأن الحق هو الحق لا يتغير فإن قابله الباطل دُحِضَ، فكان بيان الحق سبحانه وتعالى أن بعث روح الحياة في الإنسانية من روح أمره “وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا” فلولا مولده وبعثته ما بعث في الإنسانية روحها، ولا أخذت الأرض زخرفها، ولا أكملت السماوات زينتها، فقد شهدت بذلك نفرٌ من الجن من سمعوا القرآن قال تعالى حاكيًا ذلك: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا… وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا)[الجن].
إنه الميلاد الذي انتظر كل من في الكون ظهوره، واشتاقوا لإشراق نوره، ميثاق الأنبياء، ودعوة إبراهيم، ونبوة موسى، وبشارة عيسى، سطرت بقدومه التوراة، والزبور، والإنجيل، وسطر سيرته القرآن الذي نطق به فمه وجمع الله له بين رؤيته وكلامه وقرن اسمه مع اسمه تنبيهًا لعلو مقامه، وجعله للعالمين رحمةً ونورًا وملأ بمولده القلوب سرورًا وقال في حقه من لم يزل سميعًا عليمًا:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا﴾[الأحزاب: 45- 46] فهناك عدد من الحقائق المؤكدة لتميز هذا الميلاد وتفرده، نورد أربعًا منها كما يلي: –
الحقيقة الأولى: ذكر بعض البشارات التي بشرت بظهوره وإشراق نوره
1- إنه النبأ العظيم والميثاق الجسيم:
ولقد سنحت لنا إشارة من قوله تعالى ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ* أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ* مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ إِذ يَخْتَصِمُونَ* إِن يُوحَىٰ إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِين﴾[ سورة ص: 67- 70 ] فإخبار الله لرسوله عن (الملإ الأعلى إذ يختصمون) يكون له معنى واضحًا إذا كان له علاقة بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم كونه أفضل من قام بهذه الخلافة، ولعلَّ آية أخذ الله ميثاق النبيين توضح ذلك، فإن الله عزَّ وجل كما أخذ الشهادة من بني آدم في عالم الذر على أنفسهم ألست بربكم؟ فقد أخذ ميثاق النبيين بما فيهم آدم عليه السلام إذ هو من الأنبياء، وأقروا جميعًا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن ينصروه متى بُعثَ، وإقرارهم بالإيمان به ونصره في ظهر الغيب يؤكد وجوب الإيمان به ونصره ممن عاصروه من أقوامهم في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعدها، ولازم هذا أنه سبحانه وتعالى قد عرّفهم باسمه وصفاته. جاء هذا في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾[آل عمران: 81].
2- دعوة إبراهيم:
جاء ذلك في قول الله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ أِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[البقرة: 128-129].
3- نبوة موسى ووصيته لقومه:
لنذهب سويا إلى” حوريب” حيث النبي موسى وهو ينبئ قومه بظهور نبي مثله يجعل الله كلامه في فمه – في سفر التثنية (من 16 إلى 20) – قائلاً لهم: ((فقد استجاب الرب إلهكم ما طلبتم منه في حوريب في يوم الإجتماع عندما قلتم: “لا نعود نسمع صوت الرب إلهنا ولا نرى النار العظيمة أيضا لئلا نموت* فقال لي الرب: لقد أصابوا فيما تكلموا* لهذا أقيم لهم نبيًّا من بين إخوتهم مثلك، وأضع كلامي في فمه، فيخاطبهم بكل ما آمرهم به* فيكون أن كل من يعصي كلامي الذي يتكلم به باسمي فأنا أحاسبه)).
ويوم الاجتماع ” حوريب ” هو يوم اللقاء اليوم الذي أخذتهم فيه الرجفة لما اختار موسى قومه سبعين رجلاً كما أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا ۖ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ﴾[الأعراف: 155].
4- بشارة عيسى:
من الملاحظ أن كلمة” الإنجيل” معربة من أصل يوناني وتحمل معنى” البشرى” أو” الخبر السار” ومن المعلوم أن عيسى عليه السلام لم يأت بشريعة مغايرة لما في التوراة وإنما مصدقًا لما قبله، ومبشرًا لما بعده، ومما جاء في الإنجيل من نصوص: (في تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهود قائلاً: تربوا؛ لأنه قد اقترب ملكوت السماوات. فقوله: قد اقترب ملكوت السماوات إشارة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وبشارة به وبقرب بعثته؛ إذ هو الذي ملك وحكم بقانون السماء الذي هو شرع الله).
وقد أشار القرآن الكريم بقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
الحقيقة الثانية: المكان والزمان
كانت القدس مهبط الديانات، ولكن الشخصية البارزة لكل الديانات هو إبراهيم عليه السلام، وإبراهيم هو الذي كان له دور في بناء الكعبة المشرفة، وهكذا يقيم الله الحجة على العالم بوقائع ملموسة لا تقبل الجدل، فكما أن الله أخذ إقرار الأنبياء جميعًا كذلك كان اختيار مكة هو الذي أسسه إبراهيم الذي يحظى بأنه محل إجماع الأديان الثلاثة، يسجل لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة بكل وضوح: ﴿وَإِذۡ یَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِـۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَیۡتِ وَإِسۡمَـٰعِیلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّاۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ* رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةً مُّسۡلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَیۡنَاۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِیمُ. رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِیهِمۡ رَسُولًا مِّنۡهُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِكَ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُزَكِّیهِمۡۖ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾[سورة البقرة 127 – 129].
كذلك سجل القرآن الكريم أهمية مكان البلد الذي وُلد فيه مكة المكرمة “جبال فاران” {وهذا البلد الأمين}، فأقسم بالبلد الذي ولد به، والوالد والولد فضلا عن انه أقسم بحياة رسوله وما أقسم بحياة نبي قط. ﴿لَاۤ أُقۡسِمُ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ. وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ. وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ﴾[سورة البلد 1 – 3].
أما الزمان:
لقد كان ميلاد المسيح عيسى عليه السلام حدثًا تاريخيًّا عظيمًا لولادته من أمٍ دون أب، ويوم ولادته أصبح تاريخًا تُحسب منه أحداث الليالي والأيام، ثم يتبين منه أنَّ من أجَلِّ مهامه التبشير بحدث أعظم من حدث ميلاده وهو مجيئ الرسول أحمد. وتحققت تلك البشرى بولادة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام في عام معجزة هلاك الفيل في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول قبل ثلاث وخمسين سنة من الهجرة، ما يوافق سنة 570 أو 571 من ميلاد المسيح عيسى عليه السلام.
الحقيقة الثالثة: القرآن الكريم
القرآن تقوم عليه رسالته وضمن الله حفظه واشتمل كل الأسس اللازمة لإصلاح البشر وطبق ذلك رسول الله كما أن القرآن تضمن ما احتوته الكتب السابقة وأورد ذكر التجارب التاريخية للأنبياء السابقين ما جعله منهجًا متميزًا وصالحًا اليوم وفي المستقبل والواقع أكد ويؤكد ذلك، ولا أدل من ذلك أنه لم يتصادم مع الحقائق العلمية، ولا عجز عن التعاطي مع كل شؤون الحياة المختلفة اجتماعية وسياسية ودينية واقتصادية دون تحييد أو تنازل عن بعض قواعده الثابتة، وهذ مؤشر هام فمن الملاحظ أن الديانة اليهودية والنصرانية استحال معهما التعاطي مع متطلبات العلم والحياة مما اضطرهم إلى تحييد الدين.
الحقيقة الرابعة: هل نحن بحاجة لميلاد رسول جديد؟
وكيف يُنظر إلى رسالة رسول الله؟
هناك عدد من الوقائع والدلالات التي تؤكد أن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ما زالت في أوج قوتها أصلها ثابت وفرعها في السماء، وأنها المخرج اليوم وغدًا وحتى تقوم الساعة، ولن تكون هناك حاجة داعية لميلاد رسول جديد، ومن هذه الوقائع والدلالات ما يلي:-
الدلالة الأولى: الثابت والمؤكد اليقيني أن الله لن يرسل رسولاً بعد محمد صلى الله عليه وسلم قط، ولن ينزل كتابًا آخر، فقد أرسل رسولاً للناس كافة بكتاب فيه كل ما يحتاجه الإنسان، وتولى حفظ القرآن الكريم، وضمن بقاءه إلى يوم الدين. وأنه ما كان ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاصًّا لأسرة تنتظر ولدًا لها، ولا لقبيلة تترقب قدوم منقذ، ولا خاصًّا لقطر دون قطر، ولا لقومٍ –يتطلعون لظهور مصلح– دون قوم، ولكن رسول الله إلى الناس كافة وخاتم النبيين.
وأثبت التاريخ أن ما قبل ميلاد الرسول ليس كما بعده، حيث ما قبل الميلاد، وحال الأقوام مع الأنبياء والمرسلين، وتدخل الله بإنهاء القرى الظالمة وأهلها بسوط عذاب إما بالريح، وإما بالغرق، وغيرها. أما بعد ميلاد الرسول فلا يوجد ذلك، لأنه أُرسِلَ رحمةً للعالمين، وإذا أُرسلت الرحمة، وجاء النور، والهداية فماذا بعد الحق إلا الضلال.
فلا حاجة لنبي آخر، وإنما على الإنسان الاتباع للمنهج الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن الذي نقرأه اليوم، والفرائض التي يقوم بأدائها المؤمنون تبعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدلالة الثانية: كان يوم بزوغ النبوة في القرن السابع الميلادي نقطة مفصلية غيرت ما بعدها، ولا زالت شخصية محمد صلى الله عليه وسلم هي الوحيدة النموذجية والتجربة الرائدة، وهي المخرج من مأزق جاهلية اليوم تمامًا كما كان حال العالم العربي في جاهليته الذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم لوأدها في القرن السابع الميلادي، ولأن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فإن اتباعه مفيد للجميع، فإن اتبعه المسلم أفلح في الدنيا والأخرة، وإن اتبعه غير المسلم أفلح في الدنيا، ذلك لأن أعماله وأقواله صلى الله عليه وسلم، كلها عدل ورشد وأخلاق، فلا يقول من الأقوال إلا الصدق ولا يترك منها إلا الكذب، ولا يفعل من الأفعال إلا الحق والعدل، ولا يترك منها إلا الباطل والظلم، ولا يأمر إلا بالعدل والإحسان والإنفاق ومحاسن الأخلاق ولا ينهى إلا عن الفحشاء والمنكر والبغي والبخل ومساوئ الأخلاق هذه حقيقة لم يستطع العقل الصافي من كدر الجهالة إنكارها سواء أكان مؤمنًا أم كافرًا، لأن الحق ظاهر، وقد دل التطبيق العملي لرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه قاد الدولة الإسلامية على قيم الحرية والعدالة والأخلاق ووثيقة المدينة أكبر شاهد، شهد بذلك المؤرخون والباحثون يقول السير توماس بأن بقاء الكنائس والمذاهب المسيحية في الشرق الإسلامية تلك القرون الطويلة هو البرهان القاطع على تسامح الدول الإسلامية تسامحًا عامًّا.
الدلالة الثالثة: لا يوجد شخص له أثر كرسول الله عليه وسلم عرف الناس كل تفاصيل حياته واستقصى أفعاله وأقواله المؤمنون به والكافرون فلا المؤمنون أحصوا محاسنه، ولا الكافرون استطاعوا أن يسقطوا من قدره، رسم لنا أحد شيوخ التصوف ذلك بأحسن تعبير إذ قال: “لم يبلغه منا سابق في وجوده ولا يدركه لاحق على سوابق شهوده فأعجز كل من الخلائق فهم ما أودع من السر فيه، وله تضاءلت الفهوم وكل عجزه يكفيه”.
وأما أهل العقول المنصفون من غير المسلمين فقد أقروا بفضله، ولا أدل من ذلك أن يعترف به مايكل هارت بأنه أعظم شخصية في كتابه ” الخالدون مائة أعظمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: “لقد أخترت محمدًا صلى الله عليه وسلم على رأس هذه القائمة وسيندهش الكثيرون ولكن محمد صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الوحيد الذي نجح في التاريخ نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي، وقد دعا إلى الإسلام ونشره كأعظم الديانات، وبعد 13 قرنًا من وفاته فإن أثر محمد صلى الله عليه وسلم لا زال قويًّا ومتجددًا” وسرد الوقائع الموضوعية التي أعتمد عليها في اختياره، وذهب البعض لتأليف كتب في مناقبه، ومحاسن أفعاله من وجهة نظر موضوعية ومحايدة تقول المتخصصة بمقارنة الأديان (كارين مسترونغ) في كتابها (محمد صلى الله عليه وسلم نبي لزماننا)، والذي قامت بتأليفه بعد أحداث نيويورك في 11/سبتمبر / 2001 تذكر فيه: “إن الجهالة بمعرفة شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم يفوت فرصة كبيرة على البشرية، وأما التقليل من قيمته أو تشويه صورته ففيه خطورة وتزييف للحقائق، وعززت رأيها بما نسبته للعالم الكندي “ويلفريد كانتول سميث“ (أن التطبيق الصحي للإسلام مكن المسلمين لعدة قرون على التمتع بقيم جديرة بالاحترام بالمشاركة مع الغرب لأن تلك القيم تنبع من تقاليد مشتركة)، وانتهت بالقول: “أظهر التاريخ القصير للقرن الواحد والعشرين أن كلًّا الجانبين لم يتقن الدرس وإذا تعين علينا اجتناب الكارثة فعلى المسلمين وعلى العالم الغربي أن يتعلموا، ليس فقط التسامح مع الآخر بل تقديره ونقطة انطلاق طيبة هي شخصية محمد صلى الله عليه وسلم رجل مركب يعصى على التصنيف الإيدلوجي، وأتى أحيانًا ببعض الأعمال التي يصعب أو يستحيل علينا قبولها ولكنه ذو عبقرية أصيلة وأسس دينًا وتقاليد ثقافية، ليس على السيف ولكن على السلام كما يعني اسم الدين وعلى التصالح والتراحم).
ما الذي يجب على المسلمين اليوم؟
على من المسلمين أولاً أن يطبقوا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ويتخلوا عن السلوك الذي يتعارض معه فالعالم يصف الإسلام بالسلوك السيئ للمسلمين، فإن لم نعرف قدر هذا الدين فمن الصعب أن ندعوا الآخرين أن يقدروه قدره، ولا يمكن للمسلمين أن يجمعوا بين المناهج التي تتعارض مع الإسلام ومنهجه، علينا أن نتيقن أنه لن ينفع المسلمين أي منهج آخر غير منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، فعليهم أن يبلغوه للآخرين، فهم أمة رسالة فالمطلوب أن ينشروا رسالة السلام للناس، وليس كما يفهم البعض بأن على المسلمين أن يحكموا العالم.
أما غير المسلمين فنقول لهم إن رسالة الإسلام فيها الخير والمحبة والسلام، فهي لا تأمر بقتلكم، ولا تريد ثرواتكم، ولم يأمر الله بذلك، وإنما أمر بالخير والعدل والإحسان، ولم ينه إلا عن الفحشاء والمنكر، والإسلام مرجعياته واضحة ممكن أن تتعرفوا عليها بكل يسر وسهولة، وهو مفيد لكم حتى إن لم تؤمنوا به فإن فيه قواعد إن اتبعتموها ستحل لكم الكثير من مشاكل الأسرة، والأخلاق، وتحقق لكم السعادة وأن المسلمين يحتاجون إلى اكتشافاتكم العلمية، والتطور والصناعي والتجارب الناجحة، وأنتم كذلك تحتاجون إلى المسلمين، بما لديهم من فكر ودين وثروة أثبتت الأيام أن نقاط الاتفاق بين العالم أكثر من نقاط الاختلاف فتعالوا لتطبيق ما أرساه الرسول صلى الله عليه وسلم حول الحرية واحترام الأديان وقواعد العدل والحقوق الإنسانية، وعدم التجاوز بالإثم أو اتباع الشيطان بتغيير خلق الله، فالشيطان عدو لنا جميعًا فلنبتعد عن الشر والإثم ونحسن إلى الناس وننشر المحبة والسلام فهذا مطلب إنساني قبل أن يكون ديني.
ختامًا:
لقد كان حدث ميلاد الرسول حدثًا لا يتكرر في التاريخ وذلك لاستمرارية الميلاد ببقاء عميق أثر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، التي من ضمن إقامة بناؤها كان ينهض على دعامتين ويستمد منها القيم والمبادئ وهما: التوحيد، والإحسان والذي ينبثق منهما قيم الإخاء والعدل والمساواة، والبر، وقد مرت حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منذ بدء إرهاصات النبوة بسبعة مراحل تبدأ بمرحلة التأمل وتنتهي بإتمام النعمة، يوم وقف على جبل الرب تاليًا على الجمع الغفير أجمعين قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..)(المائدة).