(رائد الإفتاء التنويري)
يُعدُّ الإمام محمد عبده أحد كبار المُفتين التنويرين في العصر الحديث؛ حيث ساهم بأفكاره التجديدية وعقليته التنويرية في تحرير العقل من الجمود، وإيقاظ الوعي نحو التحرر، وإحياء البحث والاجتهاد الفقهي بما يساير حركة المجتمع وتطوره، ويراعي أحوال الناس وأعرافهم وما يستجد من وقائع وأحداث، مما أحدث طفرة هائلة في تجديد الفكر الديني.
ويوجد بمكتبة جامعة السوربون (Sorbonne) في باريس ركنٌ كاملٌ يضم كل ما ورد للأستاذ الإمام أو ما نتج عنه من مؤلفات وكتابات ومساجلات وتعليقات وأطروحات علمية وبحثية، وهم ينظرون إليه على أنه عبقري لم يهمله عمره الإنساني بمزيد من السنين، ولذلك يحرصون على رصد ما تبقى منه فكرًا ومنهجًا، ويرون أن مدرسته العقلية لا تقل في العمق والتأثير عن مدارس الكبار أمثال سقراط وأرسطو.
وحين تولَّى الإمام محمد عبده الإفتاء استبشر الناس به خيرًا، وأثنى عليه تلاميذه وطُلَّابه من الشعراء والأُدباء بمقالات نثرية وقصائد نظمية؛ احتفاءً به وتوقُّعًا للإصلاح على يديه، ومن ذلك: ما قاله مفتي الديار المصرية الأسبق فضيلة الشيخ عبد الرحمن قُرَّاعة:
بِهَدْيِكَ في الفتوى إلى الحـقِ نهتدي | ومن فيض هذا الفضل نجدي ونَحتَذي |
سَمَتْ بـــك للعلـــياء نفـــسٌ أبيّــــَة | وعــزمةُ مــــاضٍ كالحسام المُجـَــــرَّدِ |
ورأي رشيد في الخطـــوب وحنكـة | وتجـــربة في مشــــهدٍ بعـــد مشــهدِ |
وعلـم كنــور الشمــس لم يك خافيًا | عــلى أحــدٍ إلَّا عــلى عــــين أرمـــدِ |
وقال عنه مفتي الديار المصرية السابق أ.د/ علي جمعة: “عندما نتحدث عن الإمام محمد عبده، فإننا لا نتحدث عن فيلسوف عبقري، ولا نتحدث عن مُصلح مُكافح، ولا عالمٍ بارعٍ، ولا عن مفتٍ واعٍ؛ بل نتحدث عن كل هؤلاء في شخص ذلك الإمام العالم المجدد“.
وقد استطاع الإمام محمد عبده أثناء توليه منصب الإفتاء أن يحل كثيرًا من مشكلات عصره، وأن يساهم بشكلٍ فعَّال في النهوض بالمجتمع بجميع طوائفه؛ فأصدر (944) فتوى متنوعة، استغرقت المجلد الثاني والثالث تقريبًا من سجلات دار الإفتاء، وكلها على منهج راسخ وحكم مستنير واضح، استطاع الإمام من خلالها أن يضع منهجًا إفتائيًّا فريدًا يسلك به نحو القمة بين المناهج والمدارس المختلفة، وأصبح نبراسًا يهتدي به من جاء بعده من المُفتين المُجددين.
ومن أهم الأسس والمقومات التي قامت عليها فتاوى الإمام محمد عبده ومدرسته الإفتائية: هو مراعاة الوقائع والأحداث، وقد عاش الإمام واقعًا مضطربًا مليء بالصراعات والتغيرات في شتَّى مجالاته، فاستطاع أن ينطلق من معطيات هذا الواقع، ولذلك جاء أكثر تراثه الإفتائي مُتعلِّقًا بتلك القضايا التي تعايشت مع واقع الأُمَّة الإسلامية الراضخة للاستعمار الغربي من جهة، والمهيمن عليها سلطة دينية محافظة من جهة أُخرى، فكانت هناك فتاوى التبادل الاقتصادي والثقافي بين الدول الإسلامية والدول الاستعمارية، والفتاوى الاجتماعية التي بحثت في زواج المسلم من الكتابية، وأحكام الإقامة في بلاد غير مسلمة (الأقليَّات)، وحكم قبول الجنسية الأُوربية، بل هناك فتاوى تعلَّقت بجانب المعاملات مما له علاقة مباشرة بالظاهرة السياسية التي تعتبر جزء من بند المعاملات، بل إنها تُعدُّ الفاعل الرئيسي الذي يؤثر ويتأثَّر بالمعاملات.. وعندما بدأت الهجمات الاستعمارية على النظام الحضاري الإسلامي برزت مشكلات فقهية جديدة لم يعهدها الإفتاء الإسلامي.
كما يتضح منهج الإمام محمد عبده الإفتائي التنويري في عدد من الفتاوى، كالفتوى الترنسفالية، وفتوى وقف الذمي، وفتوى نفقة زوجات المسجونين والمفقودين وسيئي العشرة، وفتاوى التأمين، وفتاوى ختان الإناث، وفتاوى الفوائد البنكية، وغير ذلك من الفتاوى..
فيقول مُقررًا هذا الأساس الذي قامت عليه فتاويه: “إذا كان بعض المسائل رُجِّحَ لأسبابٍ خاصة بمكان أو زمان: ينبغي التنبيه على ذلك، وأنَّ هذا الحكم ليس عامًّا وإنما سببه كذا، لا أنه واجب الإتباع في كل زمان ومكان.. فإذا عرض من حوادث الزمن ما يجعل بعض الحلال ضارًّا وبعض الحرام ضروريًّا: تغير الحكم بحسب ذلك العارض وعلى قدره، فقد قال تعالى بعد تحريم محرمات الطعام: ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾، فالضرورات تبيح المحظورات وتحظر المباحات، ولكنها تقدر بقدرها.. وإننا نهتدي بخلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراشدين، وأئمة أهل بيته الطاهرين، وعلماء أصحابه العاملين، وعلماء السلف من التابعين، وأئمة الأمصار من أهل البيت والفقهاء المحدثين، يُهتدى بهم في آدابهم واجتهاداتهم، مع مراعاة القواعد الشرعية والمصالح العامة“.
كما بنى الإمام محمد عبده منهجه الاجتهادي على المصلحة واعتبار المآلات والعواقب، وقد طالب أولي الأمر والفقهاء برعاية تلك الأمور في أحكامهم وأقضيتهم، على أنها أصلٌ في الأحكام السياسية والمدنية، يُرجَع إليه.
ففي النصف الثاني من القرن الميلادي قبل الماضي كانت قد أُثيرت مسألة حكم لبس “البرنيطة” التي هي غطاء الرأس عند الفرنج، وذلك لما سأل جماعة من الطلاب القاطنين في مدينة باريس شيخًا جزائريًّا اسمه سليمان بن علي عن ذلك، وأنهم مضطرون إليه، فأفتاهم بالجواز، وكتب في ذلك رسالة مفردة، فرد عليه شيخ المالكية في وقته العلَّامة الشيخ محمد عليش في رسالة أخرى نقض فيها كلامه واشتد عليه فيها، ثُمَّ تجدد بحث المسألة في أوائل القرن الماضي، ورفعت بها فتوى من أحد مسلمي الترنسفال (مقاطعة سابقة كانت تقع في شمال شرق جنوب أفريقيا)، إلى مفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده، وكانَ مضمون الجواب من فضيلته على هذه الفتوى أنه إذا لم يقصد فاعله الخروج من الإسلام والدخول في غيره فلا يُعد مُكفِّرًا، وإذا كان اللبس لحاجة من حجب شمسٍ أو دفع مكروهٍ أو تيسير مصلحةٍ: لم يكره كذلك لزوال معنى التشبه بالمرة.
وقد اعتمد الإمام في هذه الفتوى على أصل من أصول الاستدلال وهو القياس، راعى من خلاله قصود الناس ونياتهم..
وقد أثارت هذه الفتوى جدلاً واسعًا وهجومًا عنيفًا من بعض المشايخ في مصر وخارجها، حتَّى إنَّ الصحافة الهندية تابعت ذلك الحوار، وتلقَّى الإمام رسائل تأييد من أرجاء العالم.
ويبين رشيد رضا أنَّ الإمام محمد عبده مارس في هذه الفتوى كلًّا من التخيير والاجتهاد، حتى على الرغم من سعيه للبرهنة على أنها صحيحة أيضًا من منظور الفقه الحنفي، ويقرر بمهارة أنَّ أبا حنيفة نفسه قال: “لا يحل لأحدٍ أن يأخذ بقولنا دون معرفة الدليل“، وهذا القول يضع أي مُقلد أمام معضلة، ويضطره إلى التسليم بتحريم التقليد الأعمى.. فإنَّ التقليد يعني: اتِّباع أقوى دليل من أقوال الأئمة، وهو بذلك ممارسة ترقى لمقام التخيير.
وأيضًا: حينما سُئل عن أحكام التأمين؛ وصورته: أنَّ رجلاً يريد أن يتعاقد مع جماعة (شركة مثلاً) على أن يدفع لهم مالاً من ماله الخاص على أقساطٍ مُعيَّنة؛ ليعملوا فيه بالتجارة، واشترط معهم أنه إذا قام بما ذكر، وانتهى أمد الاتفاق المعين بانتهاء الأقساط المعينة، وكانوا قد عملوا في ذلك المال وكان حيًّا، فيأخذ ما يكون له من المال مع ما يخصه من الأرباح، وإذا مات في أثناء تلك المدة: فيكون لورثته، أو لمن له حق الولاية في ماله أن يأخذوا المبلغ تعلق مورثهم مع الأرباح..
فهل مثل هذا التعاقد الذي يكون مفيدًا لأربابه بما ينتجه من ربح لهم جائز شرعًا؟
وكان الجواب من فضيلة الإمام على هذه الفتوى كالتالي:
“لو صدر مثل هذا التعاقد بين ذلك الرجل وهؤلاء الجماعة على الصفة المذكورة في سؤال المستفتي: كان ذلك جائزًا شرعًا.. ويجوز لذلك الرجل بعد انتهاء الأقساط والعمل في المال وحصول الربح أن يأخذ -لو كان حيًّا- ما يكون له من المال مع ما يخصه في الربح، وكذا يجوز لمن يوجد بعد موته من ورثته، أو من له ولاية التصرف في ماله بعد موته أن يأخذ ما يكون له من المال مع ما أنتجه من الربح“.
وإذا نظرنا إلى ما أجاب به الإمام عن هذه الفتوى نجد أنَّ العقد فيها ليس مُختصًّا بالتأمين، بل قد يكون نوعًا من القرض للشركة، فيصبح بذلك عقد مُضاربة، وهو من العقود الجائزة في الفقه الإسلامي.
يقول جاكوب سكو فجارد: “وليس من المقطوع به أن تكون هذه الفتوى خاصة بالتأمين؛ فالعقد قد يكون عقد تأمين، وقد يكون نوعًا من القرض للشركة، ومثل هذا العقد الذي يُقدَّم في طرف المال، ويعمل الطرف الآخر له فيه، مع اقتسامهما الغُنْم والغُرم معروفٌ في الفقه بعقد المُضاربة، وهو من العقود الجائزة بل المُحبَّذة شرعًا“.
فهذان نموذجان من الفتاوى التي تُبين تعامل الإمام محمد عبده مع التراث الفقهي للأئمة؛ حيث الانتقاء التنويري الواعي، والذي يحقق مرونة الفقه وتجديده بما يجعله كنزًا ثريًّا وموردًا عذبًا لاستيعاب ما يقع للناس من حوادث ومستجدات إزاء كافة التغيرات العالمية عبر العصور المختلفة.
ومما يجدر التنبيه إليه: أنَّ مصطلح التنوير أوروبيُ النشأة والمضمون، شيع إطلاقه في الحياة الفكرية، ويعبر عن نسق فكري سَادَ في مرحلة تاريخية من مراحل الفكر الأوروبي الحديث، ويطلق عليه البعض الاتجاه العصراني، أو الاتجاه العقلاني، أو التنوير الإسلامي، أو غير ذلك.
ويقوم مفهومُ التنوير في علوم المسلمين على دعامتين أساسيتين هما: دعامة الدين، ودعامة العقل، في توازن دقيق وبناء متكامل؛ فهو أعم وأشمل من التنوير في مفهومه الأوروبي.