اجتهد الفلاسفة وعلماء النفس في بناء نظريات سلوكية تساعد في مجال الإرشاد والعلاج النفسي في كثير من الجوانب، ولكن لو نظرنا لهذه النظريات من وجهة نظر إسلامية، فما الذي يمكن أن نرى فيها من حيث الملائمة وعدم الملائمة للاستخدام الإرشادي في التربية الأسرية من جانب المرشد المسلم؟
بداية فهناك عناصر للاستخدام الإرشادي لا بد من توضيحها والحديث عنها بشيء من التفصيل؛ لنحصل على صورة واضحة لدور المرشد في المجتمع الإسلامي.
العنصر الأول من عناصر الملائمة هو: دعوة المسترشد للحكم على سلوكه الشخصي:
لو بحثنا في هذا الجانب نجد أن له أصولاً إسلامية أقوى مما تفترضه نظريات العلاج النفسي والسلوكي، فالإسلام يضع المعيار أولاً، ثم يدعو الناس إلى مناظرة سلوكهم مع المعايير والنماذج التي يقدمها لهم، ثم الحكم عليها بأنها تمثل (الاستقامة) أم تبتعد عنها إلى الإثم والفسوق!
ومن أمثلة الحكم على السلوك ما رواه أبو أمامة الباهلي قال: “إن فتى شابًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه قالوا: مه مه فقال: (ادنه) فدنا منه قريبًا قال: فجلس، قال: (أتحبه لأمك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: (ولا الناس يحبونه لأمهاتهم) قال: (أفتحبه لابنتك؟) قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: (ولا الناس يحبونه لبناتهم) قال: (أفتحبه لأختك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: (ولا الناس يحبونه لأخواتهم) قال: (أفتحبه لعمتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: (ولا الناس يحبونه لعماتهم) قال: (أفتحبه لخالتك؟) قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: (ولا الناس يحبونه لخالاتهم) قال: فوضع يده عليه وقال: (اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء“. (1)
وفي هذا الحديث نتبين كيفية توصيل هذا الشاب إلى برّ الأمان بهدي نبوي كريم، وذلك من خلال الحكم على ما راوده من أفكار ثم أضاف له جانبًا هامًّا وهو الدعاء له، ونلمس أن هذا التناول قد أفاد في المستوى العقلي، وهو تدريب عظيم يجعل الفرد يعرض ما يُفكر فيه (خواطره) على محكات فيها مصلحته وحاجته وفيها مصلحة المجتمع الذي يعيش فيه، ولا شك أن الدعاء للشاب قد وقع منه موقعًا عاطفيًّا قويًّا، كما ونلاحظ عبقرية المعلم المرشد في الإسلام عندما صاح الناس بالشاب، فقال له المعلم المرشد صلى الله عليه وسلم: (ادنه) وأَجلسه بين يديه ثم حاوره محاورة عقلية وفي نهايتها اقتنع الشاب وعزم على الامتثال للحق، ومن هنا فإن قوة الأصل الإسلامي في هذا العنصر من عناصر الملائمة تتجلى في مساعدة الفرد على الوصول إلى حكم صائب وعلى استخدام الجوانب الثلاثة الهامة في الحياة النفسية وهي الجوانب العقلية والعاطفية والسلوكية.
العنصر الثاني من عناصر الملائمة هو: المسؤولية:
فإذا نظرنا إلى المسؤولية من وجهة نظر الإسلام نجد أن الإسلام ينمي في الشخص جانب المسؤولية بجميع صورها، وفي كافة أنشطة الحياة وعلى المستوى الفردي والاجتماعي كذلك.
ويتميز الإسلام في تأصيله لجانب المسؤولية أنه يضع لها المعايير وفي كافة الاتجاهات بدءًا بمسؤولية العبادة لله وحده إلى مسؤوليات العلاقات بجميع أنواعها، ومع توضيح هذه المسؤولية تتحدد النتائج المترتبة على عدم الوفاء بها في الدنيا والآخرة كما في قوله سبحانه: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). (2)
والمسؤولية في الإسلام تتنوع من مسؤولية فردية إلى جماعية ومن مسؤولية بدنية إلى مسؤولية عقلية وعاطفية وروحية ومن مسؤوليات عن الذات إلى مسؤوليات تجاه الغير وعن الغير كما تتدرج المسؤوليات في إطار ما يترتب عليها من نتائج وبذلك يتدرج الجزاء معها في الدنيا والآخرة.
ومن الأحاديث الجامعة في مجال مسؤولية الفرد والجماعة ما رواه أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). (3)
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). (4)
والوفاء بالمسؤولية يؤدي بنا إلى الاستقامة التي تأخذنا إلى الطمأنينة والأمن في الدنيا والآخرة وإن عدم الوفاء بمتطلبات المسؤولية في العقيدة والشريعة يؤدي بنا إلى الضلال الذي يوصلنا إلى الشقاء في الدنيا والآخرة.
العنصر الثالث من عناصر الملائمة هو: ملامسة الواقع:
فالإسلام هو أول منهج تعرفه البشرية يهتم بأن يكون الناس واقعيين وعقلانيين ويدعوهم إلى أن يكونوا دائمًا في حالة وعي وأن يستفيدوا من نعم الله في أنفسهم للتعرف على نعمه في كونه وهذا مصداق قوله سبحانه: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض). (5)
والإسلام يقيم منهجه على ما يصلح حال الناس فهو لا يدعو إلى الزهد التام ولا إلى الانقطاع عن الحياة أو الإضراب عن الزواج وإنما يدعو أتباعه إلى الوسطية والاعتدال ويضع لهم الحدود التي يسلكون في إطارها عقليًّا وأدائيًّا ووجدانيًّا.
ومن الأمثلة العقلية قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون). (6)
ومن الأمثلة السلوكية قوله تعالى: (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً). (7)
ومن الأمثلة على الجوانب الوجدانية قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه). (8)
ومن الأساليب الإرشادية المرتبطة بالواقع والتي وردت في السنة الشريفة ما رواه أنس بن مالك من أن رجلًا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال: (لك في بيتك شيء؟ قال: بلى حِلس نلبس بعضه ونبسط بعضه وقدح نشرب فيه الماء قال: (ائتني بهما) قال: فأتاه بهما فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال: (من يشتري هذين) فقال رجل: أنا آخذهما بدرهم قال: (من يزيد على درهم؟) مرتين أو ثلاثَا قال رجل أنا آخذهما بدرهمين فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري وقال: (اشتر بأحدهما طعامًا فانبذه إلى أهلك واشتر بالآخر قَدُومًا فأتني به) ففعل فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشد فيه عودًا بيده وقال: (اذهب فاحتطب ولا أراك خمسة عشر يومًا) فجعل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فقال: (اشتر ببعضها طعامًا وببعضها ثوبًا ثم قال هذا خير لك من أن تجيء والمسألَة نكتة في وجهك يوم القيامة إن المسألة لا تصلح إلا لذي فقر مُدقِع أو لذي غُرم مُفظع أو دم مُوجع). (9)
هكذا يتبين لنا كيفية مساعدة المعلم المرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل ليتعامل مع الواقع وأَعد له خطة دفعت به إلى طريق النجاح والإحساس بالقيمة من خلال العمل والإنتاج.
وفي نهاية حديثي لا يسعني إلا أن أذكر بأن المنهج الإسلامي يضع الحدود والمعايير وهو يبدأ بالجانب البنائي والإنمائي، فهو يعلم وينمي ويربي المؤمنين على قواعد معينة إذا هم اتبعوها كانوا من الفائزين، وإن كانت الأخرى فهم من الخاسرين وبين الإيمان والفوز وبين الضلال والخسران درجات كثيرة وهذا مصداق قوله سبحانه: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير). (10)
الهوامش:
1-أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم الحديث:22112، طبع دار الحديث بالقاهرة 1416ه/1995م.
2-( سورة الأنبياء:47)
3-أخرجه مسلم في صحيحه، باب: بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم الحديث: 49، طبع دار الخير بدمشق 1423ه/2003م.
4-أخرجه مسلم في صحيحه، باب: فضيلة الإمام العادل، رقم الحديث:1829، طبع دار الخير بدمشق 1423ه/2003م.
5-( سورة يونس: 101)
6-(سورة الأنبياء: 22)
7-(سورة الإسراء:37)
8-(سورة المائدة:54)
9-أخرجه ابن ماجه في سننه، باب المزايدة، رقم الحديث 2198، طبع دار عيسى البابي بالقاهرة1422ه/2002م.
10-(سورة فاطر: 32)