ننطلق في هذه التوطئة من التسليم بوظيفية المفاهيم وقدرتها التأثيرية الكبرى على التغيير، وإعادة بناء وتوجيه الأفكار والقناعات والأقوال والأفعال.. فذلك ما فعله الإسلام عندما جاء بمفاهيم جديدة تحمل قيمًا جديدة، أو عندما عدل كثيرًا من مضامين ودلالات المفاهيم التي كانت سائدة؛ فاستطاع أن يخرج إلى الوجود إنسانًا جديدًا ويبني حضارة جديدة، وأن يقدم نموذجًا متفردًا من اقتران العلم بالعمل، والعلوم بالقيم والإنسان، وأن يوجه ذلك إلى معالي الغايات وسامي الأهداف.. مما لم يكن خافيًا في عالمية الإسلام الأولى مشرقًا ومغربًا.
إن الأمر نفسه هو ما حاولَته وتحاوله قوى توسعية متعددة حينما بسطت نفوذها وهيمنتها -وما تزال تفعل- من خلال بسط شبكة مفاهيمها وإحلال نظم فكرها وقيمها في البلدان المستهدفة، حيث أحدثت حالات من الاستلاب والتبعية ما تزال قائمة إلى الآن. وليس مخطئًا بكل تأكيد من اعتبر أن الصراع الدائر بين الأمم والشعوب والثقافات والحضارات، هو في عمقه صراع مفهومي قيمي يتجلى في ميادين الفكر والسياسة والاقتصاد والثقافة.. لذا تبقى عملية نحت الألفاظ ومعانيها أو المصطلحات ومفاهيمها، من أدق الصناعات وأخطرها في عمليات التوجيه والتأثير.
ولنا أن نتساءل الآن، لماذا لم يعد للمفاهيم الإسلامية ذات التأثير والتأطير والتوجيه والتغيير الذي كان لها سلفًا؟ بل إن أحوال الأمة انقلبت إلى نقيض مراد الشرع من أحكامه وقيمه ومفاهيمه. فإن لم يكن ذلك في أصل المفهوم ومصدره يقينًا، فإنه في منهج الاستمداد منه والتمثل له، حيث يقع ذلك خارج مقصد الشرع ومراده بدلالات تشكلت في التاريخ وأطرها الخلاف. وذلك ما يدعونا إلى مراجعات عاجلة لمفاهيم كثيرة في ثقافتنا الإسلامية بنيت على غير هدى من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن حملت آيات وأحاديث شواهد لها. ويكفي في بطلان ذلك ثمرة الفهم ونتيجته على مستوى الفكر والسلوك فيما نشهده من فرقة وتجزئة، وغلو وتشدد، وتحاسد وتباغض، وانتهاك لحرمة الدماء والأموال والأعراض.. إلخ.
والوسطية تقتضي حضورًا في الناس بالعدل والقسط والهداية والرحمة، كي تكون الأمة شاهدة على الأمم بعد شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، تتمثل القدوة والأسوة النبوية
فلا يمكن أن يكون الدين الذي يصون الأنفس ويحرم الدماء ويشدد العقوبة فيها، ويصون العقول والأموال والأعراض، ويعتبر ذلك من كلياته ومقاصده السامية التي ليست فروع وجزئيات الأحكام إلا خادمة لها، هو نفسه مدخلاً وتبريرًا لانتهاك ذلك كله. إنه اختلال في الفكر والتوازن تقوده -قطعًا ويقينًا- أهواء وشهوات ومصالح ومطامح.. تستقطب إليها باسم الدين فئات من المغرر بهم عندما تضخم في أنفسهم “اعتقادات” ساذجة هي أقرب إلى الأوهام والأحلام منها إلى حقائق ويقينيات الدين. وسواء وصل هذا الاختلال في الفكر والسلوك درجة من الغلو والتشدد يستباح فيها ما تقدم، أو كان أقل من ذلك لا يستبيح دماء ولا أموالاً ولا أعراضًا.. لكنه يجعل من الخلاف المباح في الفروع والجزئيات خلافًا في الأصول والكليات، بحيث تنقلب عنده مراتب الأحكام فتصير الفروع أصولاً والأصول فروعًا، فيشتد في الدفاع والتمسك بالجزئي الأدنى ولو أدى إلى إهدار الكلي الأسمى، تصبح وفقًا لهذا “التصور” قضايا الوحدة، والأمن والسلم والاستقرار، والحريات والحقوق، والأخوة العامة، والتضامن والتكافل، والتعايش والإسهام في بناء العمران والإنسان.. إلخ. قضايا فرعية وكأن لا شيء يشهد لها من الدين ولا علاقة للمسلم بها ولا دور له فيها.
نعتقد أن ورش الأشغال الكبير المفتوح أمام علماء ومفكري الأمة، هو بناء الفكر الوسطي المعتدل من خلال التمكين لقيمه ومفاهيمه، وتمكين مسلمي الأمة من آلية وزن الأقوال والأفعال؛ حتى تستقيم أحوالهم على مقتضى الشرع العدل السمح.
إن مفهوم الوسطية أحد أهم هذه المفاهيم المحورية والمركزية في ثقافتنا الإسلامية، لم يحظ -للأسف- بما يكفي من الدرس والعناية والتمثل، كي يستعيد وظيفيته وإجرائيته الأصلية في ترشيد وتقويم حياة المسلمين. هذا فضلاً عن كثير من الفهوم والوسائط التي قصت من أطرافه وحدت من إمكاناته، حينما اختزلته في تعريفات وحدود ودلالات هي أقرب إلى تحديد مواقع جزئية منها إلى منهاج كلي. المنهاج الأصل الذي توزن به الوحدات والكيانات الصغرى، كما توزن به الوحدات والكيانات الكبرى في سائر المجالات والحقول، من قضايا الفرد الخاصة إلى قضايا الأمة العامة.
ذلك ما يحاول هذا المقال بيانه من خلال محاور عامة ذات علاقة بالمنظور والرؤية أكثر من التفاصيل، انطلاقًا من الأصول المرجعية وبعض التجليات الفكرية والعملية.
نحو نظام وأصول فكرية كلية مؤطرة لتداول المفاهيم
إن التأسيس لأصول فكرية جامعة منضبطة ومنفتحة هي كليات مفاهمية شرعية، أمر لم ينل حظه من البحث والدرس والبناء والتأسيس مثل ما نالته علوم ومفاهيم أخرى. ونقول هذا -لاعتبار آخر- هو ضمور “الفقه الجماعي” في الأمة الذي يطرح مشكلاتها وقضاياها كأمة. والمداخل المعرفية لإثارة قضايا التكليف الجماعي للأمة، ليست بالضرورة “فقهية” فحسب بالمصطلح الفقهي العلمي الفني، بل أيضًا فكرية واجتماعية وتربوية وتاريخية.. أو بالمصطلح الفقهي العام الذي هو مطلق الفهم عن الله تعالى في مختلف آياته، في النص وفي الأنفس وفي الآفاق.
لا بد من تدشين نموذج بنائي جديد للمعرفة في الفكر والفقه، يستمد أساسًا من الوحي المعصوم، ويستجيب لخصائص الوحي في كليته وكونيته وفي إنسانيته وقيم الهداية والإرشاد فيه.
فـ”الأمة” كلفظ ومفهوم لم يرد في القرآن إلا في سياقات تكليفية عملية كما في قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)(آل عمران:110)، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)(البقرة:143)، (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران:104).
وفرق كبير بين الخطاب “الشعاراتي” الذي سقطت ضحيته كثير من التنظيمات الحركية، والذي يُروج لخيرية ووسطية الأمة بين الأمم، دون أن يعي أن ذلك تكليف شرعي حضاري متوقف على التحقق بأعمال وأقوال مسبقة ينبغي النظر أولاً في كيفيات إحلالها وتنزيلها على مستوى الفكر والسلوك في عموم أفراد الأمة، وبين خطاب “العلم” و”الفقه” و”التكوين” الذي ينظر في تلك الكيفيات قبل الشعارات. ويكفي في بيان ذلك أن “التنزيل” الذي هو “فقه” و”علم”، محوط بـ”فقهين” و”علمين” سابقين عليه، أحدهما في “النص” والآخر في “الواقع”. والذي لا ينفع معه الخطاب والشعار، وإنما البحث والدرس والتكوين، المؤهل فكرًا وسلوكًا لتبوء تلك المقامات.
إن من أكبر مداخل الابتلاء والفتنة في الأمة، أن أعطت طوائف وحركات معينة الأولوية لـ”الشعار”، وحاولت تنزيله مع فراغ كلي في المضمون العلمي والفقهي، بل وحتى السلوكي الأخلاقي. فكل يفهم حسب هواه وطموحه، وفي أحسن تقدير حسب سقف وسياج الحركة أو الطائفة، ثم يُنزَّل بعد ذلك دون اعتبار لمنطلقات ولا مآلات. يقتبس من الشرع شواهد تشهد لما اختاره وبناه خارج الشرع، مدعيًا أنه “يـخدم” الدين وهو في الواقع لا يخدم إلا طموحه، وفي أحسن الأحوال يخدم فهمًا قاصرًا في الدين.
فالخيرية في الآية السابقة عملٌ قبل أن تكون شعارًا، تقتضي إيمانًا وأمرًا ونهيًا حسب مقتضى ومنهج الشرع في الأمر والنهي والدعوة عمومًا، بالحكمة والموعظة الحسنة. والوسطية كذلك تقتضي حضورًا في الناس بالعدل والقسط والهداية والرحمة، كي تكون الأمة شاهدة على الأمم بعد شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، تتمثل القدوة والأسوة النبوية لتكون قدوة وأسوة بين الأمم، تهدي إلى الحق والخير بعد أن هديت إليه وحملت أمانته.
ولسنا هنا بصدد التقليل من شأن أي حركة أو طائفة، فكل الجهود الإيجابية البناءة مقدرة ومعتبرة، لكننا في هذا السياق نؤكد على أمر جامع وضابط كلي عام ينتظم كل الجهود، وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه العزيز: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً)(الإسراء:36)، وما بوّب به البخاري -رحمه الله- في كتاب العلم من جامعه الصحيح “باب العلم قبل القول والعمل”، قال: “لقول الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)(محمد:19).
فتأمل حال الأمة اليوم بين ما هي عليه وبين ما ينبغي أن تكون عليه، من منظور الاستخلاف، والتكليف، وحمل الأمانة، وإعمار الأرض، والشهادة على الناس.. كم مدة زمنية، ومساحة مكانية، وجهودًا علمية، تلزم لاستدراك ما فات؟ وكي لا أكون مثبطًا دافعًا إلى العجز والكسل والتشاؤم -وهو ما لا ينبغي أن يكون بأي حال من الأحوال لأنه نقيض المطلوب في أي عمل إصلاحي- أذكر بأن سنن التدافع الحضاري بين الأمم سقوطًا ونهوضًا، لا تقاس فقط بالمقاييس والمؤشرات الظاهرة التي ألمحنا إلى بعضها، أي “الزمن التاريخي” و”التراكم المادي”، وإنما بشيء أعمق وأنفذ وأسرع تأثيرًا هو “الزمن النفسي والثقافي” و”التراكم القيمي والمعرفي”؛ فمتى ما استحكمت هذه العناصر التي تنتمي إلى “عالم الأفكار” أو “أخلاق العمق”، كان التمكين السريع للنموذج الحضاري في “عالم الأشياء” أو “أخلاق السطح” كذلك.
إن من أسئلة النهوض الحضاري التي ما تزال معلقة وتحتاج إلى فقه جماعي كلي، وفكر مؤطر ومستوعب: كيف تتحقق الأمة بالخيرية وبالوسطية وبالشهادة وبحمل الأمانة وبالاستخلاف وبالتعمير؟ وكيف يمكن تحويل هذه الكلمات المفاهيمية إلى قناعة عامة في جمهور الأمة، بجعلها تكليفًا شرعيًّا جماعيًّا كالتكاليف الفردية على حد سواء؟ تخلق الإرادة والحافز الإيماني والعملي الجماعي كما الفردي على حد سواء؟ تدفع إلى تقويم الفكر واستقامة السلوك الجماعي كما الفردي على حد سواء؟
إن الأصل في رسالة عالمية، أن تكون قيمها إنسانية ذات قدرات استيعابية واستقطابية لا إبعادية وإقصائية.. وبالمصطلح الشرعي، تبشيرية لا تنفيرية، وتيسيرية لا تعسيرية.
إن سؤال “الكيف” هنا، يحيل ضرورة على عمل منهجي. والعمل المنهجي -أيًّا كان- لا ينفك ضرورة عن إطار مرجعي موجه يفرضه الموضوع. إن العمل المنهجي المنظم المستند إلى معالم ومحددات منضبطة، والمؤطر بأصول وكليات واضحة، تسعفانه من التحرر -ما أمكن- من أضرب النزعات والتحيزات المختلفة، هو عملة نادرة في ساحتنا الفكرية والثقافية.
نعم، نادرة هي الدراسات والبحوث المنهجية المعرفية التي تروم بناء المفهوم في كليته واستيعابه فكرًا، انطلاقًا من كلياته وأصوله النظرية. وفي وظيفيته وإجرائيته عملاً، تفعيلاً لبعده التنزيلي الواقعي. وهذا ما نحيل عليه دائمًا من ضرورة استناد أي بحث في ثقافتنا الإسلامية إلى مصادر المعرفة -نصًّا وعقلاً وواقعًا- في تكاملها وانسجامها لا في تقابلها واختلافها. فلكل مصدر دور في تقويم الفكر واستقامة السلوك، وفي درء كثير من الآفات التي يمكن أن تطرأ عليهما كما هو الواقع الفكري والسلوكي المتجلي في مظاهر الغلو والتشدد، والتحيز والتعصب.. السائدة في الأمة اليوم للأسف.
فالوحي يرشد ويسدد ويهدي للتي هي أقوم في الأقوال والأفعال والعلوم والمعارف، يفتح من خلال أصوله الكلية العامة آفاقًا للتعارف والتدافع السلمي. والعقل آلة الاجتهاد والتجديد والإبداع والتشييد، يدرأ تفعيله صور الجمود والتقليد. والواقع مجال الاستخلاف والتكليف والحركة والتعمير والسنن والوقائع، حيث يتكيف تنزيل الأقوال والأفعال وتُدرأ آفة الصورية والتجريد.
وما دام الاجتهاد بالعقل والحركة في الواقع جهدًا بشريًّا نسبيًّا، يبقى الوحي المعطى الإلهي المطلق مرجعًا مصدقًا ومهيمنًا. فهو -من جهة- يعلي من شأنهما أيما إعلاء إعمالاً للعقل واعتبارًا للواقع، وهو -من جهة أخرى- يدفع عنهما آفات التحيز والتمركز والنزوع إلى التضييق، التي يمكن أن تلحق بهما كذلك. ولقد مر الفكر الغربي بنزعات عقلانية وواقعية شديدة التحيز والتمركز إلى درجة “التأليه” باسم العقل والواقع أو العلم والطبيعة، لا تختلف في شيء عن صور التشدد والغلو التي تمت باسم الدين. فما تزال البشرية تعاني من آثار ومخلفات النموذجين في صور أكثر بشاعة من حيث هدر كينونة الإنسان والإجهاز على منظومة قيمه المرجعية والمعيارية. فلا بد -إذن- من تدشين بحث جديد في أصولٍ ما تزال محجوبة لاستثارة كوامنها، من شأنها الإجابة عن كثير من الإشكالات والتحديات القائمة بوجه الأمة في فكرنا وواقعنا الراهن.
إن أصل الوسطية هو من الأصول الكلية الجامعة، عليه مدار فلسفة التشريع والتكليف فهمًا وتصورًا وسلوكًا وعملاً، فهو معيار وميزان. ولنقل “محددًا منهاجيًّا”، تقاس به نسب الأفعال والأفكار، كي تبقى دائمًا على حال من الاستقامة والاعتدال، والتوازن والقصد والسواء. لكن -للأسف- نجد أن الاختزال والتبسيط التاريخي قد طال هذا المفهوم منذ وقت مبكر كما طال غيره من المفاهيم الكلية المتقدمة في القرآن الكريم وفي بيان السنة والسيرة العملية.
فلم يكن غريبًا إذن، أن يطل الانحراف والغلو برأسه منذ عهد الصحابة وأن ينمو ويترعرع بعد ذلك، بل وأن يحتضن ويتأسس في مذاهب وتيارات فكرية وفقهية وسياسية. كما نجد أن التناول المعاصر لهذا المفهوم لم يستثمر كل أبعاده الشرعية التربوية والنفسية والاجتماعية والفكرية، بل حافظ على التبسيط التاريخي ذاته. وأخطر منه، أن المفهوم ركبته تأويلات أخرى جعلته توفيقًا وتلفيقًا بين التيارات الفكرية والحضارية المتصارعة.. وخاصة طوائف من المفكرين العرب والمسلمين، ممن لا يريدون الالتحاق الكلي بالغرب ولا الانغلاق الكلي في التراث.
فلا يمكن أن يكون الدين الذي يصون الأنفس ويحرم الدماء ويشدد العقوبة فيها، ويصون العقول والأموال والأعراض، ويعتبر ذلك من كلياته ومقاصده السامية التي ليست فروع وجزئيات الأحكام إلا خادمة لها
فلدفع تهمة الاستلاب، يشتغلون ببعض التراث، ولدفع تهمة الانغلاق، ينفتحون على علوم ومناهج الآخر.. ويعتبرون هذا من التوسط والاعتدال، بل هو -في اعتقادهم- جوهر “الوسطية” المطلوبة في الدين. نلحظ شيئًا من هذا في أعمال ما سمي بـ”رواد النهضة” الأوائل في منهج المقاربات التي قارنوا بها بين المقومات الحضارية للأمة ومقومات الحضارة الغربية: بين الشورى والديموقراطية، والبرلمان وأهل الحل والعقد، والحسبة والمجالس النيابية.. إلخ. وطبعت كذلك أعمال بعض الكتاب المعاصرين في الحقل الإسلامي، في منهج المقارنات الذي يبحث عن الفوارق بين الحضارتين ليثبت أسبقية الإسلام إلى كثير من النظم والقوانين والحقائق العلمية التي انتهت إليها الحضارة الغربية.
وليس الغرض هنا التنكر لهذه الجهود، فهي مفيدة ومساعدة من غير شك، لكن لا بد من استئناف النظر وتجاوز مواطن القصور والخلل.. لا بد من تدشين نموذج بنائي جديد للمعرفة في الفكر والفقه، يستمد أساسًا من الوحي المعصوم، ويستجيب لخصائص الوحي في كليته وكونيته وفي إنسانيته وقيم الهداية والإرشاد فيه. وينفتح من خلال ذلك كله على مختلف التجارب، الذاتية والغيرية والقديمة والحديثة.. فأصوله الكلية المستوعبة، تمكنه من الامتداد في الزمان والمكان وتأطير حركة الإنسان حيث كان.
إن أصل الوسطية في القرآن الكريم، له شبكة علائقية مع سائر المفاهيم الكلية الأخرى التي تروم تأسيس التوسط والاعتدال في كل كيان الإنسان، فكرًا وتصورًا وسلوكًا وعملاً؛ في نفسه سواء تعلق الأمر بأعماله العادية أو التعبدية، وفي المجتمع من حوله بكل تجلياته وتشكلاته الإثنية والملية، بل وفي رؤيته لمعنى الكون والإنسان والحياة، ووظيفته الرسالية القائمة على جوهر الهداية والرحمة للذات وللناس. إذ الأصل في رسالة عالمية، أن تكون قيمها إنسانية ذات قدرات استيعابية واستقطابية لا إبعادية وإقصائية.. وبالمصطلح الشرعي، تبشيرية لا تنفيرية، وتيسيرية لا تعسيرية.
وإن من سنن الله تعالى في خلقه التي فطر عليها مخلوقاته، الأداء والإنجاز الجماعي للكائنات، حية أو جامدة، عاقلة أو غير عاقلة.. يتضح ذلك من أبسط تأمل في آيات الأنفس والآفاق. وهذا الأداء والإنجاز الجماعي، هو ما يمكن تسميته بـ”العمل المنظومي” الذي تتداخل وتتكامل فيه الوظائف العامة والخاصة.
وهذا الأمر كما يحدث في البنى والأنساق المادية والاجتماعية، يحدث كذلك في البنى والأنساق الفكرية والثقافية، والعلمية والمعرفية.. وهو الذي نسعى إلى بيان جزء منه في مجال المفاهيم القرآنية عمومًا، ومفهوم الوسطية خصوصًا.
بناء على ما تقدم، فإن المفاهيم في القرآن عمومًا، تبقى منظومة تشتغل وفق منطق ونظام خاص هو من سنن الله الدينية الشرعية المعادلة أو المكافئة لسننه تعالى الكونية القدرية. بمعنى أكثر وضوحًا، إن آيات الله تعالى في كتابه المسطور، معادلة من حيث نظامها واتساقها لآيات الله في كتابه المنظور، كما قال الله تعالى: (فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ)(الواقعة:75-79).
فنجد لكل مفهوم وقيمة في القرآن الكريم، حركة أو وظيفة ذاتية لا يقوم بها إلا هو، وحركة أو وظيفة تفاعلية يقوم بها مع غيره في سياق تكاملي للوظائف. والحركتان معًا -الذاتية والتفاعلية- تتمان في الوقت نفسه بشكل نسقي متواز. وهو عمل أشبه ما يكون بأعضاء جسد الإنسان، أو قطع غيار محرك ما. فكل عضو في الجسد يقوم بوظيفة خاصة لا يمكن أن يقوم بها غيره. وتأمل هنا عمل القلب أو الكبد أو الرئة أو غيرها.. ثم وهو يقوم بهذه الوظيفة، لا يستطيع أن يقوم بها مفردًا مستقلاً، فلا بد له من شبكة علاقات تفاعلية مع الأعضاء الأخرى إمدادًا واستمدادًا. وتأمل قطع محرك، أيًّا كان حجمًا ومجالاً، فلا قطعة تنوب عن غيرها، ولا هي بقادرة على الاشتغال دون دعم وسند غيرها لها، بل تلَف قطعة واحدة ضمن عشرات أو مئات القطع يعطل عمل المحرك أو يضعفه إضعافًا، بحسب دورها المحوري الأساسي أو الثانوي التكميلي.
إن اشتغال المفاهيم عمومًا في القرآن الكريم، هو أدق وأشمل من الصور التقريبية التي أشرنا إليها، حتى قيل إنه كلمة، وبنية، ونسق، ونظام.. إلخ. فأصل التوحيد أو الإيمان -مثلاً- أصل مهيمن. ولنقل بتعبير بعض الكتّاب “قيمة عليا حاكمة”. المفروض أن يكون له حضور في سائر المفاهيم الأخرى يزودها بالمعنى، ويحدد وجهتها وقبلتها، ويسدد كثيرًا من آليات اشتغالها.. لكن للأسف ضمر هذا الأصل وانحصرت معانيه ودلالاته في التداول التاريخي، حتى لم يبق لها حضور في مجالات العلم والمعرفة والمجتمع، فلحقها من الآفات ما لحقها. ومثل ما أصاب مفهوم التوحيد من اختلالات، أصاب مفاهيم أخرى كثيرة لها دور محوري ومركزي في بناء الثقافة والمعرفة الإسلامية؛ مفاهيم من مثل الاستخلاف، والتكريم، والتسخير، والوسطية، والشهادة، والعدل، والتزكية، والحرية، والإخلاص، والإحسان، والإنسان، والعمران.. وغيرها، منظور إليها وفق المنهج ومنطق الاشتغال الذي ألمحنا إليه، أي من حيث استقلالها بمعنى، وتكاملها من خلاله مع سائر المعاني الأخرى. هذا فضلاً عن دلالاتها المعرفية البنائية التأسيسية، والتفسيرية التعريفية الكلية لقضايا الوجود والإنسان والغيب والشهادة.
ولهذا كان النظر الجزئي المفرد لبعض المفاهيم بمعزل عن شبكة علاقاتها وسياقاتها، من أخطر الآفات التي أصابت كثيرًا من الدراسات وهي تحاول عرض أو بيان “المنظور الإسلامي” لقضية ما، كقضية الأسرة أو المرأة أو الحرية أو المساواة.. وكثيرًا من القضايا الفكرية والاجتماعية والسياسية.. حيث يتم التعريف من خلال معنى أو اثنين، دون النظر إلى مجموع المعاني والدلالات، أو من خلال اصطلاح مدرسي معين دون سائر الاصطلاحات، مما يحد ويضعف قدرة المفهوم الأصلية الكلية الاستيعابية، باعتباره مطلقًا من مطلق وظيفته الأساس: التأطير الممتد عبر الزمان والمكان لفكر وحركة الإنسان.
وهذا المنهج هو الذي عابه القرآن الكريم نفسه على (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)(الحجر:91)، أي أجزاء وقطعًا، أو أعضاء وفرقًا. وإن كان السياق واردًا في الذين يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه، فإنه -منهجيًّا- عام على كل عمل انتقائي يخل بشرط الوحدة البنائية والنسقية التكاملية بين سائر مكوناته.
(*) جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال / المغرب.