لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون دعوة الإسلام هي خاتمة الرسالات الإلهية، ومن ثم تضمنت هذه الدعوة من الخصائص(1) ما يضمن صلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان. ومن أهم خصائص الدعوة الإسلامية ومقاصدها العامة التيسير على المدعوين، والرحمة بهم مصداقًا لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). فجاءت دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ومن مقتضيات هذه الرحمة تحقيق مصالح المدعوين في العاجل والآجل، وهذا هو المقصد الأسمى للدعوة الإسلامية.
ولما كان أول مقاصد الدعوة الإسلامية هو تحقيق المصالح ودرء المفاسد عن المدعوين، كان من أوجب الواجبات على الدعاة إلى الله -والذين أنيط بهم مهمة تجديد الخطاب الديني المعاصر- أن يتعاملوا مع النصوص الشرعية وفق هذا الاعتبار، بحيث يعملوا على فقه مقاصد الدعوة الإسلامية.
وفقه المقاصد يتطلب من الداعية الفقيه والمجدد أن يقف على المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظَمِها. وتدخل في ذلك أوصاف الشريعة وغاياتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها. وكذلك ما يكون من معانٍ من الحكم لم تكن ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها(2). وفقه المقاصد الدعوية يحتم على الداعية المجدد أن يحيط علمًا بمقاصد الشريعة الإسلامية التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:(3)
1- المقاصد العامة: وهي التي تراعيها الشريعة وتعمل على تحقيقها في كل أبوابها التشريعية أو في كثير منها. وهذا القسم هو الذي يعنيه غالبًا المتحدثون عن “مقاصد الشريعة”.
2- المقاصد الخاصة: وأعني بها المقاصد التي تهدف الشريعة إلى تحقيقها في باب معين، أو في أبواب قليلة متجانسة، من أبواب التشريع. ولعل الشيخ ابن عاشور هو خير من اعتنى بهذا القسم من المقاصد. فقد تناول منها: مقاصد الشارع في أحكام العائلة. ومقاصد الشارع في التصرفات المالية. ومقاصد القضاء والشهادة. ومقاصد التبرعات. ومقاصد العقوبات.
3- المقاصد الجزئية: وهي ما يقصده الشارع من كل حكم شرعي، من إيجاب، أو تحريم، أو ندب، أو كراهة، أو إباحة، أو شرط، أو سبب، وهي التي يشير إليها الأستاذ علال الفاسي بقوله: “والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها”، وهي التي تنطبق عليها أمثلة الشيخ ابن عاشور، من كون عقدة الرهن مقصودها التوثق، وعقدة النكاح مقصودها إقامة وتثبيت المؤسسة العائلية، ومشروعية الطلاق مقصودها وضع حد للضرر المستمر. وأكثر من يعتني بهذا القسم من المقاصد، هم الفقهاء، لأنهم أهل التخصص في جزئيات الشريعة ودقائقها.
ولا شك أن فقه الدعاة لمقاصد الدعوة الإسلامية، من أول المتطلبات لتجديد الخطاب الديني المعاصر؛ إذ إنه من أهم الركائز المؤثرة في نجاح عملهم الدعوي، ونشر الدعوة الإسلامية على الوجه الصحيح الذي يتناسب مع الواقع المعاصر.
وذلك بفقه النصوص الشرعية بكل أبعاد الفقه، والاجتهاد المنضبط في تلمس جوانب المصلحة فيها، ومن ثم تطبيقها في واقع المدعوين تطبيقًا يراعي البُعد المصلحي والمقاصدي للدعوة الإسلامية.
وإذا كان فقه مقاصد الدعوة الإسلامية من المصطلحات المعاصرة والحديثة من الناحية اللغوية واللفظية، إلا أنه من ناحية المعنى كان موجودًا وبارزًا، بل ومصاحبًا للدعوة الإسلامية منذ بزوغ فجرها. وفي تطبيقات سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم العملية؛ فقد وُلد علم المقاصد الدعوية، مع بداية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء، في ليلة القدر، وكانت نشأتها مع نشأة أحكام الشريعة الإسلامية، وكانت موجودة في النصوص الشرعية من كتاب وسنة، ومضمونة في معانيها وأهدافها وتعاليمها تصريحًا كان أم إيماءً (4).
وفقه مقاصد الدعوة الإسلامية إنما يكون بفقه الداعية لأصول رسالة الإسلام، ومعانيها، وأسرارها، والحكم الملحوظة للشارع في جميع النصوص الشرعية، وهذا يعني “فهم النص بكل أبعاد الفهم، فليست القضية أن يقف الداعية على مرادفات الألفاظ فقط، بل على كل علم يستلزم وجوده فهم بُعد معين رمى إليه النص، وعلى هذا فالداعية يتساوى مع كل علماء الدين الإسلامي في العودة إلى الكُتب التي عنيت بالنص شرحـًا وتفسيرًا، وينفرد عن بقية العلماء في هذا الصدد بأمرين:
الأمر الأول أن الداعية يبدأ من حيث انتهى الآخرون، فيأخذ من كتب الثقات ولا يتعمق تعمق المتخصص، عليه فقط أن يعرف ممن يأخذ بعد الوقوف على ماهية توجهاته.
الأمر الثاني أن الداعية واسع التجوال بين كل العلوم والمعارف؛ ليتمكن من فهم النص بكل أبعاده ولذا يقتبس من كل علم نافع ويسأل الخبراء وأهل المعرفة “(5).
وعلى هذا، ففقه مقاصد الدعوة معناه: أن يبذل الداعية قصارى جهده في إدراك معنى النص القرآني أو النبوي وفهم مراميه فهمًا دقيقًا، لمعرفة دلالات النصوص المقدسة على معانيها، مستعينًا في ذلك بما وهبه الله من عقل وبصيرة، وبما وصل إليه السابقون من علماء الإسلام من بيان مراد الله من النصوص، ومستعينًا في ذلك أيضًا بكافة العلوم القديمة والحديثة التي تُعينه على فقه النصوص وإدراكها.
وعلى الداعية في تعامله مع النصوص الشرعية قرآنًا وسنَّة، أن يبحث عن المقاصد والغايات التي أراد الله تعالى تبليغها للمدعوين والاستجابة لها، ولا يكتفي بالوقوف على ظواهر النصوص الشرعية أو الاجتزاء المقاصدي بالتركيز على بعض المقاصد وترك المقاصد الأخرى. فقد ذم الله تعالى من تمسك بظواهر النصوص دون النظر لمقاصدها، قال سبحانه:{وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (النساء:83). ففي الآية مدح صريح لأهل الاستنباط، وذم للمتعجلين الذين يقفون عند ظاهر النصوص(6).
وعلى الداعية المجدد أن يطيل النظر في نصوص المصادر الأصيلة للدعوة الإسلامية من الكتاب والسنة؛ إذ إنها جاءت مقترنة بالمقاصد والغايات، “فالقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوءان من تعليل الأحكام بالحكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما والتنبيه على وجوه الحكم التي لأجلها شرعت تلك الأحكام ولأجلها خلقت تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسنة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة؛ فتارة يذكر لام التعليل الصريحة، وتارة يذكر أداة لعل المتضمنة للتعليل المجردة عن معنى الرجاء المضاف إلى المخلوق، وتارة ينبه على السبب يذكره صريحا وتارة يذكر الأوصاف المشتقة المناسبة لتلك الأحكام ثم يرتبها عليها ترتيب المسببات على أسبابها، وتارة يستدعي من عباده التفكر والتأمل والتدبر والتعقل لحسن ما بعث به رسوله وشرعه لعباده كما يستدعي منهم التفكر والنظر في مخلوقاته وحكمها وما فيها من المنافع والمصالح، وتارة يذكر منافع مخلوقاته منبها بها على ذلك وأنه الله الذي لا إله إلا هو، وتارة يختم آيات خلقه وأمره بأسماء وصفات تناسبها وتقتضيها والقرآن مملوء من أوله إلى آخره بذكر حكم الخلق والأمر ومصالحهما ومنافعهما، وما تضمناه من الآيات الشاهدة الدالة عليه، ولا يمكن من له أدنى إطلاع على معاني القرآن إنكار ذلك”(7).
وعلى الداعية المجدد أن يركز في خطابه الديني المعاصر -بكل وسائله وأساليبه- على إبراز المقاصد الكلية للشريعة الإسلامية. وقد جمع الأستاذ علال الفاسي مقاصد الشريعة -العامة منها والخاصة- فقال إن “المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض، وحفظ نظام التعايش فيها، واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها، وقيامهم بما كلفوا به من عدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنباط لخيراتها، وتدبير لمنافع الجميع.
فحري بالدعاة إلى الله التفقه في هذا الباب، للوقوف على المقاصد الشرعية العامة والخاصة فلا يهملوها أو يتجاوزوها، وكذا معرفة أقسامها ومراتبها للترجيح بينها عند التعارض وتقديم أولاها وأرجحها؛ فلا يقدم الداعي ما حقه التأخير ولا يؤخر ما حقه التقديم، كما أنه يحرص على أن يكون مقصده من دعوته موافقًا للمقاصد العامة والخاصة.
ومن الآثار الطيبة التي تنتج عن فقه الداعية لمقاصد الشريعة وتنزيلها على الواقع الدعوي في خطابه الديني المعاصر النجاح في عمله الدعوي والانضباط في التجديد؛ لأنه بفقه المقاصد تنضبط حركة الدعاة، وتثمر دعوتهم، وتوفق كلمتهم، وتصح اجتهاداتهم، وتُعصم أفكارهم من الزيغ والانحراف. فبعض المناهج الدعوية انحرفت وزاغت بسبب جهلها أو إهمالها للمقاصد الشرعية، فأتت بأعمال تهدم أصول الشريعة ومبادءها وتجعلها متناقضة متعارضة أمام غير المسلمين بسبب إهمال هذه القاعدة المهمة، مما يجعل دراستها وتطبيقها من أولى المهمات(8).
وإن ما أصاب الحركات الدعوية قديمًا وحديثًا من خلل في الفهم، وانحراف في السلوك، وبُعد عن المنهج الدعوي الصحيح، إنما هو بسبب إهمال فقه مقاصد الدعوة في الفهم، وعدم تفعيله في البلاغ والنشر، مما تسبب في عرض الإسلام بصورة مغلوطة أدت إلى تشويهه وتعطيل حركة سيره ونشره في العالمين. وقد نبتت في القديم والحديث نوابت من الأفراد والفرق والجماعات شطت في التعامل مع نصوص القرآن والحديث شططًا انتهى بها أحيانًا إلى هدم أن يكون للطلب الإلهي أي مقصد شرعي، وذلك بما ركبته من مراكب التأويل الذي يفرغ الطلب من مضمونه المقصدي(9).
ويظهر أثر فقه المقاصد في الخطاب الديني في ترتيب سلم الأولويات في الدعوة إلى الله سبحانه: فيقدم الداعية إلى الله الضروريات على الحاجيات والتحسينات، ويقدم الأصل على التابع، ويقدم ما فيه مصلحة العامة على ما فيه مصلحة الخاصة، ويحذر الناس على قدرة عقولهم ومستوياتهم على الفهم. والداعية كالطبيب لا بد له من معرفة المقاصد، لأنها الدواء الذي يجب أن يقدمه في الوقت المناسب وفي الظروف المناسبة(10).
وإن عدم فهم مقاصد الدعوة الإسلامية يؤثر تأثيرًا سلبيًّا على عمل الداعية وعلى دعوته؛ حيث ينحرف عن منهج الدعوة المستقيم في دعوة الناس لهذا الدين.
وأخيرًا نقرر ما قرره الأستاذ المجدد “فتح الله كولن” في معرض حديثه عن تجديد الخطاب الديني، من أن الحياة التي نحياها ونستنشق أنفاسها عمل فني جمالي خلاق، أبدعه الخلاق العظيم، تتجدد كل يوم وكل لحظة وكل وهلة، فينبغي أن تكون “الدعوة” حياة تحيا بأنفاس الدعاة وتتحرك في أرواحهم، وعلى قدر ما يعطونها من حياتهم، وينفخون فيها من أرواحهم وعقولهم، والبحث عن سبل التجديد والتطور فيها ومواكبتهم لعصرهم، تنمو وتكبر وتتسع وتتجدد، وبالقدر الذي يتوجهون فيه إلى الله ويستمدون من رحمته ومن قوانينه في الطبيعة والتجدد، تتقدس دعوتهم وتطهر حتى تصبح ملاذًا للجميع، وتصبح لها بصمة لا يخطئها أحد بين غيرها من الدعوات. فكما نرى أن قوانين الطبيعة تتجدد على مدار السنة، من صيف إلى خريف إلى شتاء إلى ربيع، وتتفتح الأزهار بعد انطفاء ويتغير حالها على مدار العام، وبمختلف الأماكن، يجب أيضًا السير مع سنن الله الكونية في التجدد والتحديث، وتحديث أساليب وطرق الخطاب الدعوي، لينهل منه الجميع ويكون لهم موردًا لري ظمأهم، في وسط كل هذه التطورات والأفكار المعادية والمنافرة للفطرة الإنسانية(11).
وإن عمل الداعية وتبليغه ونشره للإسلام في ضوء فقه مقاصد الدعوة العامة يحفظه من التحزب، والانحراف، والعمل لحساب فئات معينة، أو أفكار ورؤى محسوبة على الدعوة تسعى لتحقيق منصب، أو جاه، أو رئاسة؛ لأن الأعمال بمقاصدها، ومقصد الدعوة من أشرف المقاصد وأعظمها.
(*) جامعة الأزهر، كلية أصول الدين، القاهرة / مصر.
الهوامش
(1) من هذه الخصائص أنها الدعوة (الخاتمة، والتامة، والشاملة، والعامة، والخالدة).
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية، الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، 2/21، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر عام النشر: 1425هـ – 2004م.
(3) نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، المؤلف: أحمد الريسوني، ص:7، الناشر: الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الطبعة: الثانية – 1412هـ – 1992م.
(4) ينظر القواعد الشرعية ومقاصد الالشريعية، عيسى بوراس 85 الجزائر، حمعية التراث، المطبعة العربية، 1424هـ.
(5) منهج الدعوة إلى الله تعالى، د. حسين خطاب، ص:88-89.
(6) زهرة التفاسير، أبو زهرة (ت 1394هـ) 4/1781، دار النشر: دار الفكر العربي.
(7) مفتاح دار السعادة، ابن قيم الجوزية 2/32، طبعة دار الكتب العلمية، بيروت.
(8) فـقه الدعوة مراعاة مقاصد الشـريعة الكليــة والجزئية، د. وليد خالد الربيع، مجلة الفرقان الكويتية العدد 15-16، لسنة 1408/1409هـ – 1988م/1989م.
(9) مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة، د. عبد المجيد النجار (28)، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، 2008م.
(10) مقاصد الشريعة، يوسف أحمد محمد البدوي، ص:104 وما بعدها، الطبعة الأولى، دار النفائس، عمان، الأردن، 1421هـ – 2000م.
(11) طرُق الإرشاد في الفكر والحياة، محمد فتح الله كولن، تقديم إبراهيم الدباغ (6-8)، دار النيل، القاهرة، الطبعة الرابعة، 2008م.