اللغة ودورها في التقارب الثقافي

من الآيات الدالة على الخالق –سبحانه وتعالى- اختلاف ألسنة بني آدم  لقوله سبحانه في سورة الروم:﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم:22)، وليس من قبيل الصدف أن يكون اختلاف  ألسنة بني آدم آية للعالمين ضمن آية اختلاف ألوانهم وآية خلق السماوات والأرض، فلما كان خلق السماوات مختلفًا عن خلق الأرض، وباختلافهما جعل الله تعالى الكون قائمًا بتناغمهما معًا، فكذلك كان اختلاف ألسنة بني آدم، وباختلافها جعل الله تعالى البشر متعارفين فيما بينهم فوق سطح الأرض ومتناغمين مصداقًا لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات:13)، فأكرم  الخلق عند الله عز وجل هم الأتقى وليسوا أصحاب لسان معين، الشيء الذي يعني أنه لا تفاضل بالألسنة.

ولما كان الإنسان مدنيًّا بطبعه؛ فقد كان لا بد له من التفاهم مع الذين يشاركونه في المكان والزمان، ومن هنا كانت اللغة الواحدة قرينة المجتمع الواحد، وواحدًا من أبرز العناصر المكونة له، غير أن تشتت الجنس البشري على سطح الأرض، واختلاف البيئات أدّيا إلى تباين اللغات واختلافها بنسب متفاوتة، على نحو ما نجده في الأسر اللغوية كالساميات ومجموعة اللغات الهندية الأوروبية، والمجموعة الحامية وغيرها.

والتواصل بين المجموعات البشرية لم ينقطع على مر الزمن، ولكنه في العصر الحاضر أكثر وأعرض وأعمق، وذلك بفضل ما توصلت له الحضارة من أسباب التقدم والرقي؛ مما يعني أن الإنسان يجد نفسه مضطرًّا بين حين وآخر إلى التفاهم مع الآخرين بغير لغته، ومن هنا تبرز أهمية تعلم اللغات.

أهمية اللغات في التقارب الثقافي

إن أهمية اللغات في التقارب الثقافي لا يخفى على أحد من المتخصصين فالثقافة تتخلل وتتغلغل في تعليم اللغة وتعلمها في جميع مراحلها ومستوياتها، وينبغي على كل معلم ومتعلم أن يكون واعيًا ومدركًا لتأثير الثقافة في التعلم اللغوي، وكما قيل: اللغة وعاء الثقافة.

ونظرًا لارتباط اللغة الواحدة ببيئة بعينها، وبمجتمع معيّن، فإن مفرداتها ونسيجها سيكتسبان مع مرور الزمن خاصية عميقة الأثر في الناطقين بها، فلا تكون المفردات لدلالاتها المعجمية وحسب، وإنما تنطوي على إشارات معنوية خاصة ترتبط بتاريخ الأمة وثقافتها؛ مما يكسبها عمقًا ونكهة خاصة.

لقد تغيرت وظيفة اللغة بين الماضي والحاضر، فبعد أن كانت أصواتًا يعبر بها كل قوم عن أغراضهم؛ وفقًا لما ذهب إليه ابن جني؛ فقد أصبحت اليوم جامعًا عالميًّا يؤلف بين البشر، ويهبهم شعورًا بالانتماء إلى مجتمعها والحضارة التي تنتسب إليها.

دور اللغات في التقارب الثقافي

ولعل أبرز مظاهر الدور الذي تلعبه اللغة أنها لا تترجم الحاجات والأهداف التي يعبر بها عنها وحسب، ولكن دورها يذهب إلى هو ما أبعد من ذلك؛ إذ تؤدي عن من يتكلم بها ما يكتنف ألفاظه من مشاعر وأحاسيس ترتبط بالأجواء الثقافية التي تحفّ بالمفردة والعبارة، وبالأسلوب الذي صيغت به، فليس هناك مفردة إلا ولها تاريخ، ولا تاريخ إلا وهو مرتبط في الذهن الشعبي بإيحاءات وإيماءات تتفاوت في سلبيتها وإيجابيتها مما يتسرب إلى أذهان الناطقين بها، ويؤدي مع الزمن إلى شيء من التجانس بين طرائق التفكير والاهتمامات والتوجه العام.

ولا ينحصر دور اللغة “في التعبير عن عواطف الإنسان وأفكاره وإبلاغها للآخرين، بل يتعدى ذلك ليشمل عملية التوجه نحو الداخل (الذات والنفس) والخارج (العالم والواقع)، ولعل أبرز ما تتضح عليه صورة الدور الذي تلعبه اللغة في صياغة عقلية الفرد والمجتمع، ما ذهب إليه “سابير” من أن “اللغة تنظم تجربة المجتمع” وهي التي تصوغ عالمه وواقعه الحقيقي، وأن كل لغة تنطوي على رؤية خاصة للعالم، فهي أساس تشكيل الأفكار، ودليل على النشاط الفكري للفرد الذي تنبني عليه الهوية الفردية والاجتماعية.

ولما كان للغة هذا الدور الخطير في تنميط الحياة البشرية، وصياغتها، وتوجيه مناهج الفكر، فإن ذلك يستدعي إحاطتها بمزيد من الرعاية والاهتمام، وتقديم الحلول لكثير من المشكلات العالقة في العالم، لا سيما تلك التي تتصل بالتباين الحضاري، والصراعات الإقليمية والدولية، مما يمكن أن تسهم اللغة في حله، أو التخفيف من حدته، وإذا كان القول المأثور “من تعلّم لغة قوم أمن مكرهم” صحيحًا في حال قيام العلاقة بين الطرفين على العداء، فإن تلك المعرفة ستؤدي في حال السلم إلى بناء علاقات حميمة وتفاعلات حضارية تقرّب بين الأطراف المختلفة، على نحو ما شهدته العلاقات العربية والفارسية والهندية في المشرق إبان العصر العباسي، والعلاقات العربية والأوروبية عبر التخوم المتوسطية في العصر الأندلسي، ومن هذا القبيل أيضًا ما تشهده البيئات اللغوية التي تشترك في لغة بعينها، كمجموعة الكومنولث، والفرانكفونية، ودول أمريكة اللاتينية الناطقة بالإسبانية، إذ تمثل الرابطة اللغوية رباطًا متينًا يوثق العلاقات بين هذه الدول.

واليوم فإن العلاقة بين الشعوب قد تداخلت عناصرها إلى درجة خطيرة، ولم تصبح مجرد مشكلة ثقافية أو حضارية، وإنما أضحت مشكلة سياسية وأمنية، وهي تشكل تهديدًا حقيقيًّا للسلم والأمن الدوليين. ولذلك؛ فقد بات من الضروري أن نبحث عن لغة واحدة لتحقيق التفاهم المرجو بين الشعوب، ولا نعني باللغة هنا أن تكون واحدة في ألفاظها ومعانيها، فذلك لا سبيل إلى إنجازه، وهو مناف للنواميس الكونية، وللفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولا أن تكون لغة مصطنعة كالإسبرانتو (وهي لغة مصطنعة اخترعها “لودفيغ أليعزر” کمشروع لغة اتصال دولیة بسيطة عام 1887)، لأنها أثبتت عدم جدواها، وقلة عدد متعلميها، وضعف الإقبال عليها، ولكن المقصود أن تكون المعاني المتداولة مشتركة ومتفقا عليها بين سائر الأمم.

ولتحقيق ما تقدم لا بد من تجديد البناء اللغوي الثقافي الحضاري بين الشعوب، وذلك بإيجاد لغة تحترم التقاطعات والتباينات الثقافية والحضارية الموجودة بين البشر؛ حتى ننتج ما يسمى بالتقارب الثقافي والحضاري بين الشعوب البشرية، وإيجاد مناطق تواصل وحوار يلتقي فيها الناطقون بهذه اللغات في شكل تواصلي تعاوني لا تنافسي؛ فالتحالف اللغوي الحضاري -من وجهة النظر العملية- هو من أقوى الوسائل المتاحة لإصلاح شؤون العالم، وللإسهام في إنقاذ الأسرة الإنسانية مما تتخبط فيه من مشكلات تَتَراكَمُ وأزمات تَتَفاقَمُ، وقد فشلت السياسة الدولية حتى الآن في حلها بالطريقة الدبلوماسية التقليدية، وبالأساليب الاعتيادية التي تفتقر إلى الصدق والجدّية والإخلاص، ولا بد لإنجاز هذه المهمة من وحدة الأفكار والمفاهيم اللغوية التي يتفاهم بها الناس، بحيث تكون المعاني المقصودة بكلامهم -وإن اختلفت مخارجه ومدارجه- واحدة لدى الناس كافة.

إن اللغة بقدر ما يمكن أن تقرّب بين الشعوب؛ فإنها يمكن أن تكون أداة لتأجيج الصراع، فالقتال قبل أن يكون على الأرض إنما يكون في العقول، وما اللغة إلا ترجمان لتلك الانفعالات تمامًا على نحو ما قاله الشاعر العربي:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما          جُعل اللسان على الفؤاد دليلا

ومن المناسب في الختام أن نشير إلى دور اللغة في توثيق عُرَى التلاقح والتثاقف الحضاري بين الشعوب؛ مما يُسهم آخر المطاف في تجانس المجتمع البشري في أرجاء العالم بأسره، لا سيما أن ظروف التواصل والاتصال غدت ميسورة على نحو لم يشهده العالم من قبل، فغدا كالقرية الصغيرة التي تتصل اتصالاً مباشرًا فيما بينهم، فمن خلال اللغة يمكن تبادل المعرفة ونقل العادات والأنماط الثقافية للشعوب المختلفة؛ الأمر الذي ييسر على متعلمي هذه اللغات قبول ثقافة الآخر واحترامها، واكتساب دينميات التواصل والتفاعل معها، دون الصراع والتناحر مع هذه الحضارات والثقافات المتباينة.