مما يقف عليه الباحث والمتابع والدارس للعلوم الإسلامية، هو هذه الملاحظة البارزة والقوية، التي تأخذ كل مهتم ومشتغل بالدراسات والبحوث القرآنية، وهي محورية البحث في القرآن الكريم، وفي العلوم المتصلة به، والصانعة، والخادمة للفهم، والتأويل، والتفسير.
وهو ما جعل القرآن الكريم محورًا للبحث المشترك، ومدارًا للعناية الجامعة لكثير من العلوم، فهو المنطلق والمرجع والمدار والجامع، والأداة لكل الجهود والبحوث والدراسات العلمية، التي أعدت وأنجزت حول النص القرآني.
وهذا الاهتمام والعناية بالعلوم الصانعة والمسددة للفهم، ترجع إلى أن أقسى ما يتعرض له أي نص، وبالأخص النص القرآني، هو أن يفسر، أو أن يقرأ بمنهجية غريبة، وبعيدة عن لغته، وعن معهود خطابه، وعن سننه في التعبير والأداء، فتكون تلك القراءة قراءة مهدرة لسياقاته، وخارقة لمقتضياته، ومبعدة لمقاصده، مغيبة للعديد من خصائصه، وخصوصياته الأسلوبية والدالية والمعجمية، والسياقية.
بهذا الاعتبار، لقد تحول النص القرآني بهذه العناية المستمرة، والاهتمام المتزايد غير المنقطع، لأن يكون محورًا للبحث المشترك، ومدارًا للعناية الجامعة لكثير من العلوم، فهو المنطلق والمرجع والمدار والجامع، والأداة لكل الجهود والبحوث والدراسات العلمية التي أعدت وأنجزت حول النص القرآني، وحول تفسيره.
بحيث إن جميع العلوم البيانية واللغوية والدراسات المعجمية، والمعارف الإسلامية بأنواعها وأشكالها، وأقسامها، وفروعها كانت متجهة أساسًا إلى خدمة النص القرآني في جهة البيان والاستمداد، وهذه العناية تعود كما قال المفسر الأندلسي ابن جزي الكلبي إلى كون القرآن الكريم كان للعلوم: “هو المقصود بنفسه، وسائر العلوم أدوات تعين عليه…”[1].
وهو اختيار الإمام أبو حيان الأندلسي، الذي صرح في مقدمة كتابه في التفسير “البحر المحيط” هو المقصود بالذات. وغيره من العلوم له كالأدوات. وهو العروة الوثقى والحبل المتين. [2].
ولم يشد عن هذا الاختيار، الإمام الطاهر ابن عاشور، في اعتباره بأن علم التفسير بحاجته إلى علوم اللسان العربــي بمختلف شعبها بصفة عامة، فهو يقول: “إن القرآن كلام عربــــي، فكانت قواعد العربية طريقًا لفهم معانيه، ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربــي، وهي اللغة والتصريف والنحو والمعاني والبيان”[3].
العلوم اللغوية في أحضان النص القرآني
لا نختلف إذا قلنا، إن في أحضان النص القرآني، تطورت كثير من العلوم التي ترجع إلى اللغة العربية، وهذه العلوم، هي المقصودة لتفهم النص القرآني، وتحصيل المراد للوصول إلى القصد، ومنها: علم المعجم القرآني، وعلم الدلالة، وعلم القراءات، وعلم الأصوات، وعلم النحو، وعلم البلاغة.
وتطور العلوم اللغوية في كتب التفسير، أفصح عنه الإمام والمفسر واللغوي الزمخشري بقوله: “وذلك أنهم لا يجدون علمًا من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها و تفسيرها وأخبارها؛ إلا وافتقاره إلى العربية بيِّن لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنَّع، ويَرَوْن الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيًّا على علم الإعراب”.[4]
وهذه العناية بعلوم الفهم والاستمداد تعود إلى مشاركة لغة القرآن الكريم للغة العربية، وهو ما يستفاد من قول الإمام الشافعي “إنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها….”.[5]
ما يعني، أن لغة القرءان الكريم، هي من جنس كلام العرب، فلغته محكومة ومنضبطة بالقواعد النحوية واللغوية والدلالية التي تتحكم في مجمل الكلام العربي بشكل عام[6].
وعليه فلقد عني علماء التفسير بالضوابط الصانعة للتفسير، والفهم، ومن إشاراتهم في هذا الباب أن التقيد والانضباط لقوانين اللسان العربي ومعهود هذا اللسان، ومنطق العربي في الإبلاغ، والأداء ضروري ولازم، لمن قصد الفهم واختار البيان، فمن قواعدهم في هذا الشأن “أن اللسان العربي، هو المترجم للمعاني والمقاصد المحمولة في القرءان الكريم”.
المعاجم القرآنية
إيمانًا من علماء المعجم القرآني، بتطور الألفاظ، وانتقالها حسب الاستعمال، ما يعنى أن الألفاظ التي استعملها القرآن الكريم، لها معنى خاص في الاستعمال القرآني، تحكمها مقتضيات التنزيل، ما ألزمهم بتخصيص وإفراد، معاجم قطاعية خاصة للمفردة القرآنية في أصل استعمالها، وفي تحولها من الوضع إلى الاستعمال، ومن المعنى الأصلي إلى المعنى التبعي، وهذا العمل يندرج في جهة علم المعجم، وهو من أبرز الجهات اللغوية التي اشتغل عليها علماء الإسلام ،وتعاطاها علماء القرءان والتفسير[7].
ومن أ هم هذه المعاجم المحققة للكلمة القرآنية:
- عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي.
- بصائر دوي التمييز في تفسير لطائف الكتاب العزيز للفيروز ابادي.
- مفردات الراغب الاصفهاني.
ومن المعاجم الحديثة: المعجم الفريد لمعاني كلمات القرآن المجيد لمحمد الجزار الأزهري. إصدار دار التوزيع القاهرة مصر السنة: 1427ه ـ.
خاتمة واستنتاج
إن هذا العرض هو اعتراف بغزارة العلوم اللغوية التي اشتغلت على البيان والتفسير في المدونة التفسيرية، فليس من الموضوعية العلمية إغفال المادة اللغوية في المدونة التفسيرية، ومن شان تجاهل هذا التراث البياني الضخم الذي أنجزه علماء التفسير على مر العصور، أن يعد بحق خسارة جسيمة وتجاهل للتراث اللغوي عند المفسرين.
المراجع:
1-التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي الكلبي :1/22
[2] ـ–البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي :1/10.
[3] لتحرير والتنوير ج1، ص: 11.
[4] ـ المفصل للإمام الزمخشري ص :19
[5] -الرسالة للإمام الشافعي:57.
[6]الدكتور عاطف فاضل الدرس النحوي في توجيه المعنى في تفسير الشيخ الطاهر ابن عاشور الدكتور عاطف فاضل:321.