هل تأملت يومًا في أكثر العناصر أهمية لكوكبنا وما هي قيمته ككنز حيوي؟ وهل فكرت في نتائج خلو حياتنا منه؟ وهل هو عنصر حياة أم صنو للموت في ظل ما يتهم به؟ وما هي خصائصه التي يتسامى بها فوق نظرائه في الجدول الدوري (يضم 118 عنصرًا)؟
هو “عمدة” العناصر وحجر بناء وبقاء الخلية الحية. يتواجد في كل أشكال الحياة العضوية وأساس كيميائها. ويحمل على أكتافه ثقلاً كثيرًا من مظاهر حياتنا؛ أجسامنا، كيميائنا الحيوية، تنفسنا، هوائنا، غذائنا، التمثيل الضوئي، غلافنا الجوي، أقلامنا، ألماسنا، مفاعلاتنا النووية ..إلخ. فمع أن عنصر “الكربون” لا يشكل أكثر من 0,1% من القشرة الأرضية، فإنه العنصر الثاني (بعد الأكسجين) في بنية الجسم البشري (16,5% كربون). يتواجد في الأنسجة الحيوانية والنباتية (متحدًا مع الهدروجين والأكسجين)، وفي البقايا الجيولوجية (الفحم الحجري، والبترول). فالكائنات الحية مستودعات له، وبتحللها يعاد دورانه في عمليات حيوية وبيئية جديدة، ويتحصل عليه الإنسان وباقي المخلوقات. من الأطعمة التي تحتويه، فيلعب دور “المايسترو” في تفاعلات فسيولوجية، وتكوين مركبات عضوية كالكربوهيدرات، والبروتينيات، والأحماض الدهنية. منها نستمد طاقتنا، ونبني عضلاتنا، وندشن نظمنا العصبية، ونشيد أحماضنا النووية (المختزنة للشفرة الوراثية). فهو يساهم في أكسدة سكر الدم (الجلوكوز)، لإنتاج مركب “أدينوسين ثلاثي الفوسفات” (ATP) كمصدر خلوي للطاقة. والكربون النقي ليس له تأثير سلبي على الجسم، فتتناول أقراص الفحم لعلاج سوء الهضم. كما يدخل في صناعة مستحضرات التجميل كالصابون، والشامبو، ومزيلات العرق، وأقنعة الوجه، وتنظيف البشرة وتقشيرها، وبعض مستحضرات العناية بالأسنان.
تنفسنا وغذاؤنا
يوجد غاز ثاني أكسيد الكربون (ذرة كربون-14، متحدة مع ذرتي أكسجين/Co2) في الهواء (بنحو 0,03 % من إجمالي الغازات)، وهو الغلاف الجوي يمنع تبدد حرارة الأرض، وهو عديم اللون والرائحة، وغير قابل للاشتعال، وله صفة حمضية، كما أنه سهل الانحلال في الماء. وعندما يزداد تركيز ثاني أكسيد الكربون بالجسم الحي، تزيد التهوية الرئوية لإعادته لنسبته الطبيعية. وعند انخفاضه تتشكل “إشارات راجعة” تزيد تركيزه ليعود طبيعيًّا. لكنه بالأساس يخرج في هواء الزفير (وباقي الحيوانات) ليكون المفتاح الرئيس في عملية “البناء الضوئي” (Photo-synthesis).
حيث يقوم اليخضور (الكلوروفيل Chlorophyll/خضاب يكسب النباتات لونه الأخضر) بدور أساس في العملية التي تشكل أساس حياتنا. فمن امتصاص ضوء الشمس، وثاني أكسيد الكربون، والماء، وعناصر من التربة، يتم إنتاج طعام الإنسان والحيوان، والأكسجين اللازم لتنفسهم. وهي على مرحلتين الأولى تحدث في الضوء، والثانية في الظلام. ففي الأولى يتم تأيُّن الماء (ست جزيئات) إلى مكوناته من الأكسجين، ونوى ذرات الأيدروجين، وأعداد من الإليكترونات، وينطلق غاز الأكسجين (ست جزئيات) إلى الجو. بينما تستخدم نوى ذرات الأيدروجين والإليكترونات الطليقة في المرحلة الثانية، لتحويل غاز ثاني أكسيد الكربون (ست جزيئات) إلى “جزيء” من السكر والنشويات، وغير ذلك من المواد الكربوهيدراتية وفق المعادلة الشهيرة: كربوهيدرات (سكر الجلوكوز) + أكسجين ثاني أكسيد الكربون + ماء.
ويعتبر “البناء الضوئي” عاملاً هامًّا للمناخ، إذ يختزل الكربون في النباتات ومنتجاته. فالحبوب -فقط- تختزل نحو 3825 تيراجرام (أي 3.825 مليار طن) من ثاني أكسيد الكربون/عام.
الاحتباس الحراري
هو الشغل الشاغل للعالم مؤخرًا، وعقدت حوله الدراسات، ووقعت الاتفاقيات، وعقدت المؤتمرات التي سيكون آخرها استضافة الإمارات أعمال الدورة الـثامنة والعشرين للأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول تغير المناخ في نوفمبر 2023. في مستويات زائدة، كالانبعاثات المفرطة لغازي ثاني أكسيد الكربون والميثان من الأنشطة الجائرة يظهر تأثير غازات الدفيئة (Greenhouse Gases)، والاحترار العالمي (Global Warming). وتحدث الظاهرة عند حبس/احتباس حرارة الشمس في الغلاف الجوي بعد دخولها إليه، مما يرفع درجة حرارة الأرض لتكون أكثر دفئًا. وذلك عبر امتصاص ثاني أكسيد الكربون والميثان لطاقة الشمس وحبسها بالقرب من الأرض. ويقدم الاحتباس الحراري العالمي وصفًا للزيادة في درجات الحرارة العالمية، وأثر ذلك في التغيرات المناخية، وفي أنماط الطقس العالمية، مما يؤثر على معدلات هطول الأمطار والسيول والفيضانات، والجفاف وحرائق الغابات ..إلخ. ويشار لفضل المحيطات بمساهمتها بامتصاص نحو 26٪ من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، مما يقلل من خطورة المشكلة، لكن عندما يذوب الغاز بكثرة في مياه البحار، يتحول لحمض الكربونيك (تحمض المحيطات).
الوفرة الطبيعية
اكتشف الكربون (كرب carbo من اللاتينية: فحم) منذ عصور ما قبل التاريخ. وحديثًا، يرمز له (C)، وله عدد ذري (6)، وعدد الكتلة (14). وهو رباعي التكافؤ، فيمكنه إعطاء/أخذ أربع إلكترونات فيرتبط بأربع عناصر أخرى ليستقر كيميائيًّا. وهذه الخصائص المرنة والمميزة تهبه قدرة كبيرة على الاتحاد مع نفسه، ومع عدد من العناصر، لإنتاج ما يقرب من 10 مليون مركب معروف. فعند اتحاده مع الهيدروجين، ينتج مركبات “الهيدروكربونات”، وهي من أكثر اقتصاديات الكربون، وأكثرها شيوعًا الوقود العضوي، كالميثان والنفط. ومن الصناعات النفطية تنتج مركبات عدة، منها البنزين، والكيروسين، وصناعة اللدائن.
ويعد “رباعي كلوريد الكربون” أهم مركباته الهالوجينية، وهو -طبيعيًّا- سائل لا لون له، قليل الانحلال في الماء، خامل كيميائيًّا، وغير قابل للاشتعال. ويستعمل مذيبًا للشحوم والزيوت والراتنجات، ويستعمل منظفًا، وفي إطفاء الحرائق، ومخدرًا في الجراحة. ويشكل الكربون مع كميات قليلة من الكالسيوم والماغنسيوم والحديد أساس الكربونات، والصخور (الحجر الجيري، والدولميت، والرخام ..إلخ). ويضاف الكربون إلى الحديد لإنتاج الفولاذ. ففي عام 1722 أشار “رينيه أنطوان فيرشو دي ريومور” إلى إمكانية تحويل الحديد إلى فولاذ عبر امتصاص “مادة” لم يعرف حينها أنها الكربون. وهو عنصر وافر في الشمس والنجوم والمذنبات وفي غلاف معظم الكواكب. كما أن بعض النيازك تحتوي على ماسات مجهرية تكونت عندما كان النظام الشمسي قرص كوكب أول.
الغرافيت والألماس
الكربون الطبيعي الحر على شكلين بلوريين: الجرافيت، والألماس. ففي عام 1779 أكد “كارل فلهلم شيله” على أن الجرافيت -كان يُظنّ أنه من الرصاص- ما هو إلا أحد أشكال الكربون، وأنه مماثل للفحم النباتي.
هناك ثلاثة أنواع من الجرافيت الطبيعي، إما أن يكون لا بلُّوريًّا، أو على شكل قطع قشرية متبلورة، أو على شكل كتل أو عروق متجمّعة. والجرافيت -تحت الضغط العادي- هو أحد أكثر المواد نعومة وليونة، ومعتم وموصل للكهرباء ومادة تشحيم. وتنـزلق بلورات الجرافيت بعضها على بعض عند حكه فوق الورق مثلاً. ولذلك يستعمل -مع مادة طينية- في صنع أقلام الرصاص، كما يستخدم كخضاب وفي صناعة الزجاج، وفي تركيب الأقطاب الكهربائية المستخدمة في البطاريات الجافة، وفي مجال الطلي الكهربائي وتركيب المحركات الكهربائية، وفي صنع الألياف الكربونية عالية القوة، وكمهدّئ للنيوترونات في المفاعلات النووية.
وقد يتحول الجرافيت بتأثير الضغط والحرارة العالية إلى ألماس، وأمكن صنعه بهذه الطريقة لأغراض صناعية فقط. أما الألماس الطبيعي فأقسى المواد قاطبة، عريق القدم وشفاف، وكاسر للضوء، وكاشط وعازل ممتاز للكهرباء. وفي عام 1772 بيّن “أنطوان لافوازييه” أن الألماس هو شكل من أشكال الكربون؛ وذلك عندما قام بحرق عيّنات من الفحم النباتي والألماس، وأظهر أنها لا تنتج بذلك أيّ ماء، وأن المادتين تطلقان نفس الكمية من ثاني أكسيد الكربون لكل غرام. ويتم تشكل الألماس عبر ملايين السنين تحت ضغط كبير. ويوجد الألماس الطبيعي في الصخر البركاني (كيمبرليت) عبر امتدادات وفوهات البراكين القديمة. ويعتبر “الأيونسدالايت” من (تشوهات الألماس) يماثله تركيبًا، لكن ببلورات سداسية.
تنوعات أخرى و”نوبل“
“فقاعات الكربون الدقيقة” (شبكة مغناطيسية بالغة الدقة) قليلة الكثافة شبيهة بالجرافيت، حيث تترابط الذرات ثلاثيًّا في حلقات سداسية وسباعية. وهناك “أنابيب الكربون الدقيقة” التي تترابط ذراتها -ثلاثيًّا- في رقائق منحنية تشكل أسطوانات مفرغة. بينما “الفولير ينات” فجزيئات كبيرة من ذرات كربون مترابطة ثلاثيًّا ككريات (أفضل وأبسط الأشكال، وتسمى باكي بول). ويوجد “الكربون غير البلوري” كتجمعات من جزيئاته في أشكال غير بلورية/منتظمة، في حالة زجاجية، وهو أكثر نشاطًا (فاعلية) من الجرافيت والماس.
أما الألياف الكربونية فتشبه الكربون الزجاجي. وتحت ظروف المعاملة الخاصة (شد الألياف الكربونية وكربنتها) يمكن ترتيب أسطح الكربون في اتجاه الألياف، فتنتج أليافًا ذات قوة شد أكثر من الحديد. وهناك خمسة عشر نظيرًا معروفًا للكربون، أقصرها عمرًا هو للنظير كربون-8. وفي الظروف العادية، من النادر تحول نظير من نظائر الكربون للآخر. كما يوجد نظير مشع (كربون-14) (اكتشف في 27/2/1940)، المستخدم في تحديد الزمن/العمر إشعاعيًّا. فزمن نصف التفكك الإشعاعي (أي عمر النصف) له، يساوي 5570 سنة تقريبًا. لذا فعبر سرعة تحلله -في الأخشاب وقطع الآثار والأحافير- يمكن تحديد تاريخها بتقريب جيد.
وفي عام 1985 اكتشف الفوليرين، بأشكال من ضمنها بنى نانوية مثل بوكمينستر فوليرين والأنابيب النانوية الكربونية. وقد حصل المكتشفون “روبرت كيرل”، و”هارولد كروتو” و”ريتشارد سمولي”، على جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1996 نتيجة ذلك الاكتشاف. ويعتبر “البَكْمِنْسْتِرفولِّرين” من أنواع الكربون البلورية الاصطناعية الشائعة. وقد نسب اسمه إلى المعماري الأمريكي “بكمنستر فولر” (R. Buckminster Fuller)، حيث بنية الجزيء (من ارتباط ستين ذرة كربون، ككرة القدم)، تشبه تصاميمه الهندسية المعمارية المعقدة. وتتنوع أشكال جزيئات ضروب “الفُولِّرين” فتراوح بين كرة قدم (سطحها مكوَّن من مضلعات سداسية وخماسية متشابكة)، وبين أنابيب طويلة. أما أنابيب النانو الكربونية فجزيئات أسطوانية الشكل، قطرها من مرتبة جزء من البليون من المتر (وهذا يساوي قطر ذرة ذات حجم متوسط، وطولها يساوي نحو ألف مرة قطرها). وهذه الجزيئات وزنها خفيف، إلا أنها قد تكون أمتن نسيج مصنوع. أما كربون الفحم الحجري، والفحوم الأخرى، فغير بلوري عمومًا. وتعد الرغوة النانوية الكربونية إحدى متآصلات الكربون التي اكتشفت سنة 1997، وتتميز بأن لها خواصًا مغناطيسية حديدية. وتتألف بنية هذه الرغوة من ذرات كربون مرتبطة مع بعضها بشكل ثلاثي، وذلك في حلقات سداسية وسباعية، وهي تعدّ واحدة من أكثر المواد خفّة، حيث إن كثافتها تكون حوالي 2 كغ/م3.
الخلاصة
يختصر قيمة الكربون وفهم أثره في حياتنا، عبر استيعاب دورة الكربون. فكميته على سطح كوكبنا ثابتة، ويحتل المرتبة الرابعة -من حيث الوفرة- في الكون، بعد الهيدروجين والهيليوم والأكسجين. ويتم استهلاكه من مصدر ثم يطرح لآخر. ويقوم عالم النبات بسحبه من الهواء على شكل غاز ثاني أكسيد الكربون، وتثبيته على شكل كتلة حيوية (التمثيل الضوئي). ثم تتغذى عليها المخلوقات، فيخرج مرة أخرى كغاز ثاني أكسيد الكربون، في هواء الزفير (دورة قصيرة). في حين يُطرح البعض الآخر من الجسم ويمتزج بالمخلّفات الباقية من الكتلة الحيوية، ويتحول إلى جرافين وحجر جيري وفحم ونفط وألماس (دورة طويلة). فكل أشكال الحياة العضوية على الأرض (أو المأمولة على كواكب أخرى)، وكثير من المواد والصناعات البتروكيميائية، أساسها الكربون. فبدونه لا يمكن وجود حياة، وحياة بلا كربون لا تكون.
(*) كاتب وأكاديمي مصري.