علينا أن نتصرف على هذا النحو؛ فنخرج إلى الأسواق والشوارع التي تجري فيها الأراجيف أنهارًا، ونستمرّ طلابًا وأساتذة في الذهاب إلى المدارس والجامعات، وربما في سبيل هذا نتحمل كثيرًا من الأذى المعنوي والمادي. وربما يسدّ هذا في وجوهنا السبل المؤدية إلى الولاية والقرب منه تعالى بشكل إرادي أو غير إرادي، ولكن علينا أن نضحي حتى ببعض مشاعر الفيوضات الربانية. فكما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجنة -أثناء المعراج- ولم يتأثر بزينتها وحسنها، فعلينا أن نتخلق بخلق الرسول صلى الله عليه وسلم ونحاول تمثيل الحقيقة الكبرى التي جاء بها عليه أفضل الصلاة والتسليم. والذين يقفون في الدنيا كمَن يقف فوق جمرات من النار، مثَل هؤلاء لا يمكن أن يتطلعوا أبدًا إلى الوجه الفاني للدنيا، ولا يمكن أن يشغلوا قلوبهم بها، وإن كانوا دائمًا بين المخلوقات فإنهم دائمًا مع خالق المخلوقات تعالى.

لم يفكّر الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا حتى عندما أقبلت بِبُلَهْنِيَتها عليه، فلم يُفكِّر في الاستفادة منها رغم إمكانية ذلك. لقد رحل صلى الله عليه وسلم عن الدنيا مثلما جاء إليها، جاءَ إليها فلفُّوه بقطعة قماش، ورحل عنها فلفّوه بقطعةٍ مثلها.

كونوا كرسولكم: لا يتكدر صفوكم بأهواء الدنيا.. لقد دانَ صلى الله عليه وسلم بالتسليم الـمطلق لله تعالى طوال حياته، فعاش في اطمئنانٍ يحاول دائمًا كسب رضا الله تعالى وإنقاذ الإنسانية.. فلم يتكدَّر صفوُه بأهواء الدنيا وملذاتها، أقام نظام الإسلام وطبّقه في بيته، فلما طالبته بعض نسائه بأخذ حظهن من الدنيا وزينتها، اعتزلهن حينًا، حتى إنه صلى الله عليه وسلم خيَّرَهُنَّ -بأمر من الله تعالى- بين البقاء معه والاكتفاء بما عنده أو تسريحهن بإحسان.. حينذاك فضّلت زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم البقاء معه وتحمّلَ شظفِ العيش معه على نِعَمِ الدنيا وملذّاتها، في هذه الأثناء دخل عمر رضي الله عنه على رسول لله صلى الله عليه وسلم وهو في غرفته معتزلاً نساءه، فرأى أثر الحَصير في جَنْبه فبكى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما يُبكيك؟” فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله إن كِسْرى وَقَيصَرَ فيما هما فيه، وأنت رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: “أما ترضى أنْ تكون لهم الدنيا ولنا الآخِرة” (رواه البخاري).

لم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا، بل قام برؤية وبإظهار جميع الحقائق الإلهية المتجلية في الكون، وتبليغها وتوصيلها إلى العالم أجمع بجيوشه التي انطلقت إلى أرجاء الأرض تحمل معها الإسلام وتنصب رايتَه في كل مكان.

وهناك نتيجة توصَّل إليها بعض علماء الاجتماع المعاصرين: كانت البشرية قد سجّلت حتى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدُّمًا مقداره 25 بالمائة، ولكنها استطاعت بفضله وفي عهده -أي في مدّة قصيرة- زيادةَ هذه النسبة إلى 50 بالمائة، ولم تستطع البشرية منذ عهده وحتى الآن، إلا تسجيل نسبة زيادة بمقدار 25 بالمائة فقط، ومن المتوقع أن تصل إلى النسبة الباقية في المستقبل، وهكذا قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربع قرنٍ، مسافةً لم تستطع الإنسانية أن تبلغها لعدة عصور، وثبت أنه هو القدوة والأسوة لجميع الأجيال حتى قيام الساعة.

لم ينعزل ولم يترك الدنيا -نكرر هذا مرةً أخرى- بل عرفَ كيف يوجّه أمَّتَه التوجيهَ الصحيح، ولأي شيء يجب إعطاء الأهمية وبأي نسبة.

 

(*) الاستقامة في العمل والدعوة، سلسلة أسئلة العصر المحيّرة (3)، محمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، د. عبد الله محمد عنتر، دار النيل للطباعة والنشر، ط1 2015. العنوان من تصرف المحرر.